هناك ذات يهيمن حضورها بشكل أو بآخر داخل قصص مجموعة «الوفاة السعيدة لعبده الحلاق» للكاتب أشرف حسن، هذه الذات تقدم صورة مختلفة لتعريفها الثابت عبر كل قصة تمتد خطواتها إليها.
الكائن الذي يقف عند حافة تاريخ لا يخصه، ولم يكن له بصمة في تكوينه، ولا يمتلك القدرة على استيعابه، ولكنه أجبر على مواجهة الفقد كأثر حتمي لهذا التاريخ .. ذات تكتشف عند لحظة معينة – وهى اللحظة التي يتكفل القص برصدها وتثبيتها – أن حياتها ليست سوى صراع غير متكافىء على الإطلاق بينها وذاكرة ماورائية، غير مؤطرة أو محكومة، وأبعد من الحدود الملموسة أو المتخيلة لهذه الذات.
هذه الذاكرة لا يمكن تفسير دوافعها أو التيقن من تدابيرها الغامضة .. هناك دائماً كائن مقدّر له أن يهزمه غياب ما .. موت .. اختفاء تدريجي لوجوده داخل الوحدة .. ليس كنهاية منطقية لماض شخصي؛ بل كدفع ثمن لعالم غيبي، مجهول، يخص أشخاصاً آخرين لا يعرفهم هذا الكائن، ولحظات لا ينتمي إليها.
هكذا كانت «مس استير» لطالب «أمريكان المنصورة» مثلاً، وهكذا كانت «دولت» للشاب في فرح أخيه، وهكذا كانت الست «شربات»، و«فرجة» وبنتها «آية» لـ«عبده الحلاق» .. لم يكن لطالب الأمريكان في قصة «مس استير» أي علاقة بالتاريخ الذي أخذ «مس استير منه، ولم يكن للشاب شقيق صاحب الفرح في قصة «قمر لي وحدي» بصمة في تكوين الحياة التي جعلت «دولت» تموت أمام عينيه، ولم يمتلك «عبده الحلاق» في قصة «الوفاة السعيدة لعبده الحلاق» القدرة على استيعاب لماذا غادرته «شربات» و«فرجة» و«آية» ليموت وحيداً.
الذاكرة الهائلة المنفصلة عنك، التي تم تشييدها في أماكن وأزمنة بعيدة عن حياتك، ولن ترى من حقيقتها سوى المشهد الذي يقتلك .. «مس استر» تعود إلى «نيقوسيا» .. «دولت» ترقص وتجري وهى تنظر إلى «القمر» ثم تسقط من فوق السطح .. «شربات» تسافر إلى ابنها في السعودية، و«فرجة» تموت، و«آية» تتزوج وتبتعد.
بواسطة القص لا يرصد أشرف حسن هذه اللحظات الجوهرية ويثبتها فقط، وإنما يمكننا القول أن هذه هى الكيفية التي يمكن للذات أن تحقق انتصارًا ما من خلالها في ذلك الصراع غير المتكافىء.
الكتابة إذن في هذه القصص تعيد السرد، أي تحكي ما حدث منذ البداية مرة أخرى – حتى لو كان واقع السرد ذهنياً – لا لتحصل الذات على غنيمة تعويضية عبر تحريف ما، وإنما لتتأمل قدرتها المضادة على الوعي بما لحق بها بفضل تلك الذاكرة الماورائية. لتُدخِل الدوافع والتدابير الغامضة إلى نطاق الاحتمال والتخييل؛ حيث يتم الحرمان المجازي للذاكرة غير المؤطرة من طغيانها، وإبقائها – عن طريق الحكي – خاضعة للإلهام المتغير، ولإعادة البناء.
الحكي إذن هو فرص الولادات الجديدة، اللانهائية، التي تخلخل سلطة الغياب والموت، والاختفاء التدريجي داخل الوحدة.
لكن الانتصار الذي يحصل عليه ذلك الكائن من خلال القص ليس تعديلاً لعالمه الشخصي داخل المشهد الوحيد الذي يراه من حقيقة تلك الذاكرة فقط، بل تعتبر الكتابة هنا أيضاً بمثابة إنقاذ جمالي مقترن للشخصيات التي تشارك هذا الكائن مشهد قتله .. أشرف حسن يريدك أن تفكر وتتخيل «استر» بنفس القوة التي يمكن أن تتعاطف بها مع طالب «أمريكان المنصورة» .. أن تعيش «دولت» بداخلك بعد موتها مثلما تخيلت نفسك في ذلك المكان المرعب الذي كان يقف فيه شقيق صاحب الفرح ليشاهدها وهى تسقط .. أن تحلم بـ «شربات» و«فرجة» و«آية» وأنت تموت مثل «عبده» الحلاق.
هل يمكننا تصور أن الذات في إعادتها للسرد لا تتأمل قدرتها على الوعي بهزائمها، أو أنها تنقذ الشخصيات التي تشاركها لحظات الصراع فقط؛ بل أنها أيضاً تصحح التاريخ الذي لا يخصها، ولم يكن لها بصمة في تكوينه، ولا تمتلك القدرة على استيعابه؟.
هل يمكننا تصور أن حكي ما حدث منذ البداية مرة أخرى لا يحرم الذاكرة الماورائية من طغيانها، ولا يقودنا إلى منح حياة بديلة إلى الآخرين وحسب؛ إنما يفكك أيضاً التدابير الغامضة للعوالم الغيبية المجهولة التي تُجبر الكائنات على دفع ثمنها، وبالتالي يتغير التاريخ نفسه سردياً؟ .. أشرف حسن ساهم إذن في إعادة تشكيل الحروب القبرصية، وشارع صيام، وحياة الفئران خاصة عندما تراقب احتضار البشر.
من الملفت في مجموعة «الوفاة السعيدة لعبده الحلاق» هو اللغة، وتحديداً حسيتها الغنية .. يتجلى هذا بوضوح في التشبيهات التي استخدمها أشرف حسن في قصصه، والملفت كذلك أن هذه الحسية التي تبدو كانحياز لغوي راسخ عند الكاتب كانت تشبه النوافذ الآمنة للأفكار .. للتفاعل مع الصور بتفاصيلها الدقيقة.
كأن هذه الحسية كانت سياقاً في حد ذاته يضمن ترتيب العلامات الخاصة بالسرد .. يحولها إلى نماذج قابلة للتطور في ذهن القارىء .. أتذكر على سبيل المثال قصص «في الظل»، و«الكرسي»، و«أسئلة صباحية»، وخصوصاً قصة «أمور عنيفة كالشمس» .. كأن هذه الحسية توفر نوعاً من التداخل أو الامتزاج بين الشخصيات .. كأنها كانت تقيم جسوراً بين الشخصيات والأماكن، بمستويات متباينة من التأثير المتبادل.
أي سعادة تكمن في وفاة «عبده الحلاق»؟ .. في قدرته على الانتظار؟ .. في قدرته على الحلم حتى اللحظة الأخيرة؟ .. في يأسه؟ .. في استسلامه؟ .. في قناعته بأنها وفاة تليق فعلاً بحياته؟ .. ربما .. لكن أشرف حسن في تصوري جعل السعادة تتجاوز كل هذا .. وضعها في تلك العبارة التي يجب كذلك الانتباه إلى دلالتها الحسية «وحده في العتمة الرمادية تثقل أجفانه السنوات والليل» .. هذه العبارة تخص الكتابة مثلما تخص «عبده الحلاق» .. كأن الكتابة احتفال بالعتمة الرمادية .. سواء كان باستطاعته أن ينطق هذه العبارة بلسانه أو في روحه، أو بمحاولة استنطاقه بها؛ ستظل هذه العبارة هى الدليل على أن موته أكبر من نهاية شخص ما .. على التاريخ الذي يتمدد عند حافته .. الدليل على الذاكرة التي يموت فيها الجميع بنفس الطريقة.