الأحلام لغة منسيّة لا يتذكرّها إلا الأطفال والشّعراء؛ وفقًا لرؤية إريك فروم التي لا تتعارض مع بورخيس الذي يفتتح قصيدته الحلم، قائلا: عندما تدقّ بسخاء ساعات منتصف الليل/ خلال الوقت الذي يتّسع/ أجذّف أبعد من أولئك البحّارة في الأوديسة/ عميقاً إلى مياه الحلم التي لا تطالها الذّاكرة البشريّة.
(2)
يقتحم غاستون باشلار باب التّأملات الشّاردة؛ متسائلا: ” كيف يستطيع إنسان، رغم الحياة، أن يصبح شاعراً”.
نستعير مفتاحه ونحن نقف حيارى أمام باب الأحلام الليليّة، فيصير: “كيف يستطيع إنسان، رغم اليقظة، أن يصبح شاعرًا؟”.
( 3 )
بعيدا عن فرويد الذي يختصر اللاوعي بالليبيدو، وكارل يونغ بالملكوت الأسطوري المشبع بخبرةٍ متأصّلة موروثة عن الجماعة العرقيّة، فإن فروم يرى أنّه خبرتنا الذهنيّة عندما نعيش تلك الصّيغة من الوجود التي ينقطع خلالها كل اتصال لنا مع العالم الخارجي،حيث يتمحوّر اهتمامنا باختبار ذواتنا فقط، حتّى إذا عدنا إليه عند بورخيس- أي اللاوعي- وجدناه “منطقة مكبوتة” يصطاد فيها الشّاعر الكبير “صوراً” لا يمكنه فهمها.
( 4)
لغة الأحلام جوانيّة تعبّر عن نفسها بحركة الجسد، حيث الجسد رمز للفكر لا كناية عنه.
لغة الإبداع جوانيّة تعبّر عن نفسها بالخطوط والألوان داخل اللوحة، أو الصّورة الشّعريّة في القصيدة، أو النّغم في القطعة الموسيقيّة، وهكذا.
(5)
جثّة كائنٍ مشوّهٍ بَشِع ملقاة فوق طاولة . المكان يبدو مثل مختبرٍ معزول يقف فيه الباحث مرتديًا مريوله الأبيض، قبل أن يجازف بتشغيل آلةٍ كهربائيّة معقّدة التّركيب. تتحرّك الجثّة..، فيهرب الباحث من شدة الذّعر. تستيقظ ماري شيلي من نومها، فتبتكر أشهر الشّخصيات الخياليّة التي عرفها أدب الرّعب والإثارة.
هذا ما صرّحت به ماري شيلي حول أجواء كتابة روايتها “فرانكشتاين” عام 1818م، لكن القصة ستفقد صدقيتها، إذا أهملنا حقيقة أنّها كانت منشغلة ذهنيّا بمحاولة كتابة قصّة خياليّة قبل أن تأوي إلى فراشها، في وقتٍ كان النّاس فيه يتداولون فكرة مفادها أنَّ تمرير تيار كهربائي في جثّةٍ آدميّة قد يبث فيها الحياة.
لم تكن شيلي حالة فرديّة، فالكثير من الأدباء والشّعراء والموسيقيين والرّسامين المعروفين تحدثوا عن دورٍ لافت للأحلام في حياتهم وأعمالهم، كما توصلت الدّراسات إلى أنّ الأحلام تطوّر قدرات الأشخاص على حلّ مشاكلهم بطرقٍ إبداعيّة.
(6)
عندما نمتطي بساط النّوم الطّائر، نخوض مغامرة منفتحة على نهايات متعدّدة، حيث يخلي ملكوت الضّرورة مكانه لملكوت الحريّة، وتغدو كينونة الأنا مرجعيّة الأفكار والمشاعر، فالأحلام تجهل مقولتيّ الزّمان والمكان؛ إذ تمكنّنا من قطع مسافات شاسعة، وتسمح بوجودنا في أكثر من مكان،ومع عدّة أشخاص.. بينهم موتى، دون أن نخالف المنطق الذي يحكم منظومتها.
الإبداع، كذلك، يمنحنا أخيلة مجنّحة؛ حيث نمارس حرّيتنا داخل مختبر التّجربة دون حدود أو ضوابط أو نهايات متوقّعة. فها هو كارلوس ليسكانو – مثلا- يقول إن الكتابة هي أن تمضي دون أن تعرف إلى أين ستصل. دون أن تعرف حتى إن كنت ستصل إلى أيّ مكان.
(7)
” سبع طبقات من الثّياب، واحذري أن تنكشف عورتك على سكّان المكان”؛ تقول جدتي وهي تسحبُ نفسًا من غليونٍ بساقٍ طويلة.
” قبل انبلاج الفجر بفترةٍ كافية لزرع زيتونة. ودّعيه، وارحلي عن المدينة المِقبرة”.
سحابة دخان كثيفة تحجب شفتيها وهي تهمس: ” إلى المَدينة النّحيب”.
.
.
تأمّل المشهديّة السّينمائيّة عالية الجودة لأحلامنا الليليّة، يثير السّؤال: كيف تُخرِجُ العقول مثل هذه الأفلام وتوزّعها على أهدابِ النّائمين عديمي المواهب الفنيّة؟ – بمعنى آخر- كيف يتمتّع الحالم بمهاراتٍ تعوزه خلال حياة اليقظة؟
فيجيب الشّاعر الأرجنتيني أنطونيو بورشيا: “تضيء الشّمس الليل، ولا تحوّله إلى ضوء”، وفي مكانٍ آخر يؤكّد: ” لا أحد ضوء نفسه، حتّى الشّمس ذاتها”.
(8)
يتقمّص المبدع –في الكتابة- مشاعر شخصيّة يتحدّث على لسانها، وتأخذه الحالة إلى مكانٍ لا يعود يُدرك فيه المسافة التي تفصله عنها، وقد يتوه الرّسام داخل لوحته، أو يسافر الموسيقيّ على متن ألحانه.
هذه الحالة التي يمرّ بها الحالم، أيضاً، عبّر عنها الشّاعر الصّيني “شوانغ سو” بشكل طريف وهو يصف واقعيّة أحلامه، قائلا: “حلمتُ في الليلة الفائتة أنني كنت فراشة، والآن لم أعد أدري ما إذا كنتُ رجلا قد أبصر حلما رأى نفسه فيه فراشة، أم أنّني فراشة ربما كانت تحلم الآن بأنها رجل”.
______
*مجلة الإمارات الثقافية / العدد 47