*فيصل دراج
عشرون عاماً مضت على غياب الروائي الأردني الكبير غالب هلسا، وهي ذكرى تعيد إلى المعترك الأدبي العربي وجهاً من أبرز الوجوه التي كان لها دور فاعل في ترسيخ الحداثة العربية وفي تشريع آفاقها على الثقافة العالمية. هنا قراءة في ظاهرة هذا الروائي الطليعي الذي ساهم في ترسيخ السرد العربي الجديد.
تصالح غالب هلسا مع ذاته وعاش حراً، ولم يتعايش مع خارجه إلّا صدفة، ومات بعيداً من البلدة التي ولد فيها. كتب رواية قوامها فرد مغترب، وسار مع حياة مغتربة لها شكل الرواية. ولم تكن روايته المزدوجة إلا ترجمة لخيار فردي، نأى عن ثقافة الجماعات، وأخلصت لثقافة تحاور «ألف ليلة وليلة»، وترى «العالم مادة وحركة»، وتنظر بإعجاب إلى رواية أميركية كتبها جون دوس باسوس.
قال الرومانسي الألماني فريدريك شليغل: «إن كل إنسان مثقف، أو يثقف نفسه، يحمل في داخله رواية، لا فرق إن كتبها أو تركها بلا كتابة». كان هلسا مثقفاً، يحمل روايته ويبحث عن رواية أخرى، ويقرأ روايات عربية وغير عربية. يذكر في روايته «سلطانة» التي تباطنها سيرة ذاتية، أنه استهل قراءته «بعبرات المنفلوطي»، ولم ينسَ «أيام» طه حسين، وأنه قرأ «مدام بوفاري» و «مرتفعات وذرنج» و «آلام فيرتر»… كان آنذاك رومانسياً، وكانت رومانسيته تطرب إلى لقاء العشق والدموع… وحين غادر قريته، ومرّ على «مدينة بنيت على عجل» تدعى عمان، تعرّف إلى «عالم سريّ» يتحدث عن صراع الطبقات، و «الدولة والثورة»، وعن عوالم سحرية مقبلة تقوم فيها: مدينة فاضلة. وكان للمدينة المفترضة روايتها، وكان لغالب رواية ذاتية استلهمها من روايات قرأها.
أمدّته الروايات، كما «عالم الرفاق السحري»، بثقافة كتبية محدودة الأسئلة والإجابات، وجاءت ثقافته، التي أخذت بيده إلى الكتابة الروائية، من تطواف واسع، حمله من بلدة بريئة إلى الجامعة الأميركية، ومن عمّان وبيروت إلى بغداد، ومن حوارات مستريحة إلى السجن والعقاب، ومن شغف بالمدينة أرضاه في القاهرة وأصبح قاهرياً.
الصبي الرومنطيقي الذي فتنته امرأة جميلة «تمشي إلى فوق»، اسمها «سلطانة»، أدخلته غربته المتواترة إلى «عوالم التجربة»، حيث الأشياء لا تأتي فرادى، ولا ترضى بصيغة أخيرة. أيقظت التجربة عينيه على «نثر الحياة»، الذي لاحقه في أشكال روائية متحولة. وما نثر الحياة الذي أقام بين غالب ومذهب «الواقعية الاشتراكية» قطيعة مبكرة، إلا العالم اليومي الواسع، المحتشد بالشوارع وطبائع البشر والمقاهي والمطاعم وحوارات المثقفين، والمحتشد بجرائم لا ترى وبخيارات أخلاقية مرهقة التكلفة. كان هلسا، الذي قرأ كتاب لينين «الدولة والثورة» ولم يفهم منه «الكثير». كان مع «الرفاق سياسياً، ولم يكن منهم أدبياً، وكثيراً ما كان يجتهد «أيديولوجياً»، ويرتضي بعزلة مطمئنة.
عاش حياته حراً، واعترف بوجوه الحياة المتنوعة، ولم يعطف عليها «شعارات» ليست منها، واختار لغة مرنة مرجـــعها المعيـــش، مؤثثة بإشارات ترى وراء الأشياء رعباً صامتاً. ولعل اعترافه باليــومي البسيط، هو الذي جعله يضيق بالتـــبشير الأيديولوجي ولا يرتاح إلــى «شخصيات من فولاذ». لم يكن غريباً أن يبتعــــد عن كتابـــة حنـا مينـــة التي توكــــل شـــؤون القــــدر إلى بطــل يهــزم الأمواج، وأن ينظــر بتوجّس إلى رواية عبدالرحمن منيف، حيث البطل التحريضي ينتظر ظهيراً موجوداً في مكان ما. وما ارتاح يوماً، إلى الفلسطيني إميل حبيبي، بسبب ستالينية لا تطاق، كما كان غالب يقول.
أراد غالب أن يكون ذاته، وأن يرى الحياة في ذاتها مردّداً، جملة بريشت: «على الأديب أن يكون واقعياً، داخل الكتابة وخارجها». ولم يكن الأدب التبشيري واقعياً، كان سطوراً من رغبات أيديولوجية، تحتفي بها الكتب. لذا، كان «عاشق سلطانة» يميل إلى روائيين يكتبون عن المعيش اليومي وعن هشاشة الإنسان، حال إبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم ومحمد البساطي، تلك الكتابة التي تشتق الإنسان مما يعيش لا مما يرغب. كان، وهو الذي استولد رواياته من سيرته الذاتية، يكتب عن معاناة الإنسان الغريب الذي يجعله الحصار السلطوي أكثر هشاشة، وكان له، وهو الغريب المحاصر بالخجل، غربتان إحداهما من المنفى، وثانيتهما من طبع «يستنفر»، إذا أحاط به الآخرون، وكانت له «محبة النوم»، حيث للنائم مملكة مغلقة الأبواب.
زامل غالب هلسا منفاه واكتفى بمفرد مغترب، ملأ به رواياته، يشبهه، ويحمل اسمه أحياناً، لا «يسقي الفولاذ»، بل يشرب قهوة مع بسطاء البشر في عرض الطريق. لذا، سيطرت عفوية النهار على روايته الأولى «الضحك»، المشبعة بالأسى والحرمان، حيث الفرد المغترب يتلعثم وهو يترجم أشواقه، شاكياً ضيق المعيش ورتابة الحكايات. كان في المكان الضيق، الذي توحي به الرواية ولا تصفه، رعب لا يرى، يدع الإنسان مخذولاً قبل أن يعود إلى بيته. لكنه ما لبث أن وصف الرعب متكاملاً، في عمله الصغير – الكبير «الخماسين»، إذ الرعب من السلطة يجتاح الشوارع والبيوت والألوان، وينفذ إلى حبات الرمل الخانقة، ويقف مسيطراً في السجن، الذي يعطي السجين السياسي «ولادة» جديدة.
في مواجهة القلق الصادر عن المنفى وعن روح تتطيّر من الحصار كان غالب الذي هويته اغترابه وحب القراءة، يوقظ ذاكرة مشبعة بأطياف ما كان وذهب، كما لو كانت الذاكرة بديلاً من زمن مرغوب رحل. كان يستدفئ بصور ماضيه، ذاكراً «المهباش» والمضافة وطقوس القهوة، وأمّاً لها طعم العسل، كما في روايته «البكاء على الأطلال»، إذ في الأطلال زمن صارخ لا يموت. وحين اشتد به وجع المنفى، وقد غادر القاهرة إلى بغداد فبيروت وصولاً إلى دمشق من طريق «عدن»، استعاد، بأسى كبير، زمن الصبا في روايته الكبيرة «سلطانة»، التي رثت عالماً بعيداً تبدّد، وانتظرت عالماً لم يأتِ. وضع كل أشواقه في امرأة، مثال، عانقها بخياله في زمن البراءة الأولى، «امرأة تسير وكأنها في طريقها إلى فوق، إلى السماء…». ولم تكن تلك المرأة السائرة إلى السماء إلى أحلامه المفتتة، التي حاورها كهلاً، واستعاض عنها بالكتابة وبعادة النوم الطويل، حين عاش في دمشق. كان رومانسياً، وهو يختصر ما كان في قوام امرأة جميلة، وكان رومانسياً حزيناً وهو يربط بين المرأة – المثال وزمن لن يعود.
حمل غالب حياته وسجّلها في أكثر من رواية، وتابع «حياة روائية» إلى أن هدّه التعب. كتب في «الضحك» عن سنواته الأولى في القاهرة، أيام العدوان الثلاثي، وعن امرأة عرفها وعاشت في ذاكرته طويلاً وعاد إلى ذاته في «الخماسين»، مشاركاً رفاقه المصريين زمناً من رعب وانتظار ورمال، واقترب من البكاء، وهو يعايش قاهرة خنقتها هزيمة حزيران – 1967، وأيقظ «جرجس»، الصبي الذي كانه غالب في بلدته «مادبا». اقترب مما قال به الرومانسي الألماني شليغل: عاش حياة كأنها رواية، وكتب رواية عن حياته وحياة الآخرين، وقرأ وساجل وترك «هندامه» بسيطاً، ولم يتأنق إلا صدفة.
عالج في رواياته «بطولة الحياة اليومية»، المفتوحة على الغربة، وحاول أن يكون الروائي الذي يريد. وعندما أرهقته الحياة وسأم الانتظار انزاح عن روايته الأولى واختصر ما تبقى في روايته «الروائيون» فوقف مع «رفاق» لم تشرق لهم الشمس، وراجعوا أنفسهم أكثر من مرة وهجسوا بالانتحار. عاش غالب المتقشف الحساس، موته قبل أن يأتي، حتى وقعت عليه «صدفة المرض» التي ما هي بالصدفة، صدفة استدعاها وهو يتذكر أمّه في الليالي الباردة.
الثقافة نمط حياة، كان يقول سعد الله ونوس وهو يحاور غالب، وكان الأخير يؤيده، ويعتبر أن السياسة نمط حياة أيضاً. لم يختصر غالب، المثقف الذي فيه إلى حبر وورق ومناسبات اجتماعية، بل استولده من الحرية والكرامة ومن «مثال» عانقه وتعرّف إليه حين كان صبياً، «مثال» أرشده إلى وحدة القول والفعل والممارسة، وزرع فيه فضولاً معرفياً، فيه مكان للجاحظ وللفرنسي غاستون باشلار الذي ترجم له «جماليات المكان». وبسبب هذا المثال عرف مثقفين ولم يطمئن إلى عادات المثقفين الباحثين، كما كان يقول، عن «الشهرة والصورة الاجتماعية»، وعن تجسير المسافة بين السلطة وحساباتهم الفقيرة. «مثقفون ريفيون»، كان يقول، لا تعترف بهم «الثورة» ولا يعترفون «بفلسطين»، «فُتات من كل شيء ويريدون كل شيء».
ما زلت أراه وعلى وجهه الطفولي شبه ابتسامة، يمسح العرق عن وجهه، ويحلم بالعودة إلى القاهرة، وفي جيب معطفه كتاب باللغة الإنكليزية، ينظر إلى السماء وإلى المارة ويقول: «كأن الحياة صعبة هذه الأيام».
لم يكن رومنطيقياً وهو يصوغ رواياته، وكان رومنطيقياً وهو يعيش الحياة التي اختارها.
______
*الحياة