دهشة بورخيس


*محمد حجيري


على الرغم من مرور ثلاثين عاماً على رحيله، ما زال الكاتب الارجنتيني خورخي لويس بورخيس (24 آب 1899 وتوفي في جنيف 14 ‏حزيران 1986،) يدهشنا بحضوره العبقري، بكل ما يتعلق به سواء في كتاباته أو المقابلات التي أجريت معه، أو محاضراته التي تشبه “سيلان الذاكرة”، أو أقواله المسبوكة التي ارتقت الى مرتبة الفلسفة، أو صوره حول العالم في رحلاته من مصر إلى طوكيو، اذ كان يعشق التصوير كثيراً. ويردد دائماً أن الكلمات قد تتغيّر، وقد تلغي الوجود، لكن الصورة تبقى معبرةً عن لحظة راسخة.
بورخيس صاحب الأدب اللغزي والميتافيزيقي واللغوي، كان يقضي كامل وقته بين الكتب، يعتبر أن القراءة يجب أن تكون “إحدى أشكال السعادة الخالصة”، يستفيد من كل ما يقع تحت يده في سبيل توليد الحكايات والألغاز والمحاضرات المكثفة، لتعكس نصوصه ثقافة واطّلاعاً هائلين. يجعل بورخيس من الكتابة مفتاحاً للعالم. فنحن نكتشف العالم معه بوصفه مكتبة كبيرة للقراءة، إذ يأخذ الكتابة إلى منحى آخر، جاعلاً الحكاية عالما متماسكا في حد ذاته. كان يعتقد دائمًا أنه كائن يقرأ في مكتبة العالم الهائلة، “أعتبر نفسي قارئًا في الأساس. وقد تجرأت، كما تعرفون، على الكتابة، لكني أظن أن ما قرأته أهم بكثير مما كتبته. فالمرء يقرأ ما يرغب فيه، لكنه لا يكتب ما يرغب فيه، وإنما ما يستطيعه، مركزاً على “ان اعظم ما يملكه الانسان هو الخيال”. وكان كثير الاسلاف والمصادر، وأشهر مصادره “ألف ليلة وليلة”، التي بحسبه “لم تمت، الزمن اللامتناهي لها يتابع مجراه حيث هناك ترجمات عديدة وكل ‏ترجمة تبتكر نسخة مختلفة من الكتاب”. افتتانه بالمرايا يَعبُرُ كل أعماله، كان يقول أن “الكاتب هو عقل متحرك في جسد ثابت”، أي أن بورخيس يريد أن يقول أن الخيال هو مصدر الكاتب الوحيد، وأن لا وجود للكاتب الواقعي الحقيقي… واقترح الفصل بين الكاتب ونصوصه، بين قيمة العمل والخلود الأدبي…
مع أن شهرة بورخيس تقوم على إبداعه في فن السرد، إلا أنه لطالما كتب الشعر وأنهى حياته مؤمناً بأنه شاعر. وهو الشاعر الذي ابتكر جنسا ادبيا يجمع المقالة الأدبية بالقصة القصيرة، كتب العام 1977: “الحقيقة هي أن الشعر ليس في كتب المكتبات… الشعر هو في لقاء أو مقابلة القارئ مع الديوان، بل إنه اكتشاف الديوان. ثمة أناس بالكاد يشعرون بالشعر، وهؤلاء هم مكرسون لتعليمه”. ويعتبر ان شكل الرواية سوف يموت في النهاية، وهروبه من كتاباتها ناتج عن كسله، في المقابل يرى ان أفلام الكاوبوي هي التي تمثل العود الحميد لظهور الأدب الملحمي الذي صار من الصعب أن نفكر فيه ناهيك أن يوجد. وإن كانت (الأفلام) من النوع الوضيع، لكن بورخيس يعترف إن “هوليوود هي التي استنقذت التقاليد الملحمية للفن من جديد على مستوى العالم كله”. وتمجيده أفلام الكاوبوي لم يمنعه من تحقير جمهور كرة القدم، التي يعتبرها “علامة على تفشّي الغباء” و”قبيحة جماليا” و”من أكبر جرائم الإنكليز”، ويصل إلى القول “أنّ كرة القدم في الأرجنتين لم تعد محض رياضة وإنّما صار الهدف منها أن تكون عرضًا مذهلًا”. ومشكلته الأساسية كانت مع ثقافة جماهير الكرة التي كان يُحمّلها مسؤولية ذاك التأييد… بورخيس الشاعر قبل أن يصبح عدواً متحمساً للنزعة البيرونية ويحتج على ديكتاتوريات أميركا اللاتينية لسنوات السبعينيات، كان أولاً معارضاً متحمساً ضد النزعة الفاشية. كان يكره السياسة، ويعتبرها الشكل النهائي للضجر.
بورخيس كان يدهشنا بكل ما كان يحيط به، بدءاً من خادمته وعلاقته بأمه إلى زوجتيه وصولا الى مريده ألبرتو مانغويل الذي ما زال يكتب عنه كأنه حكاية لا تنتهي أو لامتناهية، من دون أن ننسى زواره. فحين نقرأ البرتو مانغويل في كتابه “مع بورخيس”(دار الساقي)، يخبرنا أنه في بوينس آيرس، العام 1964، يدنو كاتبٌ أعمى من موظف مكتبة عمره 16 عاماً ويسأله إن كان يهمه العمل بدوام جزئي كقارئ بصوتٍ مرتفع. كان الكاتب هو بورخيس، الغني عن التعريف، وكان الصبي هو مانغويل، الذي أصبح لاحقاً مولِّفاً ومحبّاً للكتب. أمضى الفتى سنوات يقرأ بصوت مرتفع ويدوِّن ما يقوله بورخيس اللغز. وبتركيزٍ شغوفٍ، يُدخلُنا مانغويل غرفةِ بورخيس “البسيطةِ كصومعةِ ناسكٍ”، ويعددُ لنا ما حوتْهُ حقائبُ الكتبِ. وبخصوص مكتبة الشاعر الذي أسمى العالم مكتبة، فإن حجم مكتبته الشخصية، كما يروي مانغويل، يبعث على خيبة أمل، وكان الزوار يتوقعون مكاناً مكسوّاً بالكتب، لكنهم كانوا يجدون بدلاً من ذلك شقة تحتل الكتب فيها الزوايا المهملة.
يدهشنا بورخيس حين نقرأ ما قالته عنه الخادمة في كتاب “السيد بورخيس” للكاتب الأرجنتيني اليخاندرو باكارو ويتحدث الكتاب عن حياة بورخيس الخاصة، علاقاته مع أمه وزوجتيه والنساء، وأهم ما أثر في حياته من خلال مشاهدات خادمته ابيفانيا أوبيدا. وتذهب أوبيدا الخادمة الى ان بورخيس كان يحتاج الى نساء يتحكمن به، وكان هذا سبب طلاقه من زوجته الأولى، وترى ان “علاقته مع أمه تبدو وكأنها علاقة زواج، فقد سيطرت عليه تماما”. وتروي انه عندما كان يصل متأخرا الى البيت ليلاً، يذهب الى غرفتها ويقف امام سريرها قريبا من الباب، ويحدثها بكل شيء ثم يذهب الى غرفته. 
وعدا الدهشة، ربما يصدم بورخيس جمهوره العربي، فهو انفتح على معظم ثقافات العالم ونهل من نبعها. ففيه تظهر روح الشرق المتمثلة في “ألف ليلة وليلة” وأنفاس الصوفيين العرب وأطياف الآداب الإسكندنافية والبوذية والأوروبية. غير أن ولع بورخيس بالثقافة اليهودية، بحسب الباحثين، بدأ منذ معرفته باحتمال سريان الدم اليهودي في عروقه من جهة أمه التي كانت من أصول إسبانية وبرتغالية وبريطانية، وهذا موضع التباس وتكهنات. في الواقع تشكل الكابالا (الصوفية اليهودية) محورا رئيسيا في إثبات علاقة بورخيس باليهودية. ويبدو تأثره بالكابالا واتجاهها الصوفي في كتابه “الألف”، رغم إشارة بعض النقاد العرب إلى تأثره بالصوفية الإسلامية وتحديداً ابن عربي”… وبورخيس الذي حصل على جائزة في إسرائيل، كان يحمل حُبّاً للقدس وإسرائيل، ويقول في تصريحه الأكثر انحيازاً: “… من دون إسرائيل فإن التاريخ سيبدو غريبا. إسرائيل ليست فقط فكرة مهمة للحضارة، بل هي فكرة لا غنى عنها، لا يمكن تخيل الثقافة من دون إسرائيل”. وفي حرب 1967، ظهر انحياز بورخيس جليّا في القصيدة التي كتبها وأهداها إلى إسرائيل مبديا تعاطفه مع هذه “الأمة الشابة” كما سماها…
بورخيس الكوني كان يعيش مشكلة مع بورخيس “الوطني”. واعتبر الناقد الأرجنتيني خورخي ابيلاردو راموس، في العام 1954، أن أي كاتب لا يسهم في خلق أدب قومي، يُعدّ، بمعنى ما، عميلاً للقوى الأجنبية. ويصف بورخيس بأنه “عاش كل حياته مديرًا ظهره لأمته”، ثم يضيف بتهكم “إن المسألة ليست انكار وطنية بورخيس ولكن الحقيقة إنه مواطن بريطاني وفرنسي وألماني”. في المقابل يقول البيروفي النوبلي، ماريو بارغاس يوسا، إن بورخيس هو الذي فتح بوابات أوروبا والعالم، في الستينيات الماضية، أمام أدب أميركا اللاتينية، حينما كان في باريس، حيث استطاع أن يقنع الفرنسيين، ثم البريطانيين، بأهمية هذا الأدب الذي وصل إلى كل أنحاء العالم.
ثلاثة عقود مضت على رحيل بورخيس، ونشرت أخيرا مقابلة كان أجراها مع أحد الطلاب (15 عاما) سأله ما الكتاب الذي تفضله من كتاباتك؟ ولماذا؟ فأجاب بورخيس: “حسناً، أنا لا أحب معظم كتبي. أتخلى عنها. كانت مناسبة جيدة طبع الأعمال الكاملة كي ألغي إثنين من كتبي. بالنسبة إلي، “كتاب الرمل” يعتبر أفضل كتبي. إنه سهل القراءة، وهو كتاب قصير، ولا أستخدم فيه أي كلمة تتطلب الإستعانة بالقاموس. وهو عبارة عن كتاب قصص، وكتاب القصص الآخر الذي يعجبني يحمل عنوان “تقرير برودي”. و”كتاب الرمل” هو الوحيد الذي أنا راضٍ عنه. ولعل الزمن سيحكم كذلك أيضاً ويلغي البقية، وهي بالفعل تستحق ذلك.
وربما دهشة بورخيس تبدأ من هذه الإجابة…
____
*المدن

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *