فيروز: “كلّ ما الحَكي يطول أكتر”


*لانا المجالي


الجزء الأول: 
تمهيد 
والعُهدة على الرّواة؛ أهلي،.. إنّ مشكلة تأخّر الكلام التي عانيتُ منها في طفولتي، وصلت إلى حدّ مناداة فتاة جميلة اسمها عبير بـــــــ”إب”، واشتهاء فاكهة طازجة تُدعى تفّاحة بـــ ” إح” حتّى وأنا على أبواب الخامسة من عُمري.
لكن.. يبدو أنّ الخلل المؤقّت، كان من باب “هدوء ما قبل العاصفة”؛ إذ زُيِّنَت شهادتي المدرسيّة في السّنة اللاحقة بملاحظة فارقة تضمّنت وصف “كثيرة الكلام”!، وكأنّني شخصيّة روائيّة خلقها صمويل بيكيت، في (اللامسمى) و( أوه..أيتها الأيّام الجميلة)، لتردّد – كما علّمها-: “يجب أن أقول الكلمات طالما هناك كلمات. يجب أن أقولها إلى أن تعثر عليّ، وتقولني”؛ وهي العبارة التي اقتبسها ميشيل فوكو في (الخطاب) وأضاف إليها: “..إنّه عناء غريب – خطأ غريب- ، يجب الاستمرار. ربما يكون ذلك قد حصل من قبل. ربما تكون الكلمات قد قالتني من قبل. وربما تكون قد حملتني إلى عتبة تاريخي، أمام الباب الذي ينفتح على تاريخي، والذي سيثير استغرابي إذا ما انفتح”. 
هو الكلام الفِضّة إذن، وبوصلة الحكمة تشيرُ إلى ذهب الصّمت المقدّس في إرثنا الثقافيّ، وعند الأمم الأخرى أيضا، حتى أنّ الهندوس في جزيرة “بالي” يحتفلون بيوم الصّمت الذي يصادف نزول الأرواح الشّريرة إلى الأرض- حسب اعتقادهم- ما يدفعهم إلى التزام بيوتهم، وتجنّب تشغيل التلفاز والحاسوب والأجهزة التكنولوجية الأخرى؛ للإيحاء بأنّ الجزيرة خالية من البشر. 
ومنعًا للَّبْس، أقصدُ بالكلام هنا؛ الصّوت لا الصّدى، وكأنني على خُطى صاحب قناعة “إذا المرء أضحى كلّ شيء يقوله، كما لو كان يكتبه، لم يغدُ إلا قارئا يتكلّم”؛ جان جاك روسو، الذي اعتبر في (محاولة في أصل اللغات) أنَّ ” المرء يؤدّي مشاعره عندما يتكلّم، وأفكاره عِندما يكتب، فهو –عند الكتابة- ملزم بأن يحمل كل الألفاظ على معناها العام، ولكن الذي يتكلّم ينوّع من الدّلالات بواسطة النّبرات ويعيّنها مثلما يحلو له، فإنّما يكتبُ المرء التّصويتات لا النّغم”، لافتا- وأتّفق معه – إلى أنّ ” النّغَم والنّبرات ومختلف انعطافات الصّوت في اللغة ذات النّبر، هي التي تمنح التعبير أقصى ما لهُ من الطّاقة، وهي التي تقدر على تحويل الجملة من شائعة الاستعمال، إلى جملةٍ لا تستقيم في غير الموضع الذي هي فيه”. 
لا بد من وقفة قصيرة هنا، لأنّ التسليم برأي “روسو” حول الكلام المنطوق والمكتوب، يبدو مجحفا بعض الشيء، إذا أخذنا بعين الاعتبار؛- أولا- أنّ الكتابة تخففت من بعض شروط الكتابة الكلاسيكيّة القاسية، وأنّها- ثانيا- وفقا لـ”جاك دريدا”، يمكن تصنيفها إلى “كتابة حسنة وكتابة سيّئة؛ الحسنة طبيعيّة.النّقش الإلهي في القلب وفي النّفس، ثم المنحرفة والمصطنعة والتكنيكيّة والمنفيّة في خارجيّة الجسد”، الأخيرة التي قال عنها “إنّ ما تخونه الكتابة نفسها في لحظتها غير الصوتيّة هو الحياة”، وثالثا؛ أنّ الحياة العصريّة بتعقيداتها المختلفة ومع دخول التكنولوجيّا إلى تفاصيلنا النّهاريّة، وغرف نومنا، وأحلامنا، حوّلت الصّوت إلى حروف، حتّى أنّنا صرنا نضحك ونبكي ونعشق ونحزن كتابةً، وهو الموضوع الذي سنتناوله بتفصيل أكثر لاحقا. 
وكي لا نخرج عن سياق الموضوع، أعترف لكم أن الخوض في الآراء المختلفة حول أنواع الكلام ومن بينها الكتابة لا يمكن تناوله ضمن هذه المساحة حتى لا تتحول هذه الكتابة إلى ما يصفه دريدا بـ” إنّ الكتابة عندما تقيم في إطار ضيّق مخصّص للأقليّة، تعدّ بمثابة مبدأ الموت والاختلاف في صيرورة الوجود”، لكنني فقط أشير إلى الرأي القائل بـــــ”الكتابة قبل الحرف”؛ بمعنى الكتابة قبل زمن ظهور الكتابة، أو ذاك الذي يجزم بأنّ “مفهوم الكتابة يتجاوز مفهوم اللغة ويحتويه”!.
وأيضا، لا بد من الإشارة إلى أنّني أركّز في مقالتي هذه على (الحكي) لا الكلام. 
ما وجه الاختلاف؟ … لا أعرف كيف أشرح الأمر، لكن ، هؤلاء الذين وقعوا في مِصيدة “غواية اللّغة” يدركون أنّ المرأة ليست نفسها الأنثى/ الشّباك والنّافذة / المِقعد والكرسي / القارورة والعُبوة/ العطر والعَبَق. 
هذا مقطع من نص شعري كنت كتبته سابقا، وهذه محاولة تفسير ثانية: 
” الكَلام;
الذي قُلناهُ 
دون شهيّة 
تركناهُ يَبْرُد فَوْقَ الطّاولة 
وخرجنا جَوْعَى 
إلى 
ما لم نَقُله”. 
( الكَلام) هو الذي تركناه يبرد فوق الطّاولة، ويستحق أن يُترَك، أمّا الذي “لم نقله” فهو “الحكي”؛ لأنّ (الحكي) لا يكون باردا أبدا. 
وفي محاولة ثالثة؛ ما هو (الحكي): 
” إنَّ الكلام والغناء كانا نفس الشّيء فيما مضى” ؛ يقول سترابون. أمّا أنا فأقول، إنّ هذا الكلام “البكر” الذي يرتقي إلى منزلة الغناء، هو نفسه (الحكي). 
أو، في محاولة رابعة، تعالوا (نسمع) الشّاعرة السعوديّة أبرار سعيد، وهي تغني/ تحكي (الحكي): 
” كلّ شيء يصبح هزيلًا 
زائلًا
إذا ما أسندته 
إلى الكلمة فقط 
لأنها ستنفق مثل سمكة 
ما أن تخرج من عناية الفم 
من مائه وحمّاه 
لكنني وبجهد محراث أشقّ لها مكانًا في دمي 
أريدها أن تكون البذرة فقط 
البذرة التي ستكسوني من بعد 
أشجارها العالية 
والعصافير التي ستظلّ تخشخش داخلها 
إذا ما سال الضوء…”. 
وفي محاولة أخيرة، 
لماذا نقول إنّ شهرزاد في “ألف ليلة وليلة” كانت تحكي، ولم نقل إنّها كانت تتكلم؟! 
لأنّ الكلام كان سينتهي بها إلى مصير واحد هو الموت، ولأنّها ذكيّة، فقد اختارت أن تحكي حتّى لو لم يسمعها شهريار!. 
إذن، الكلام موت، و(الحكي) حياة؛ واسألوا شهرزاد. 
هل عرفتم وجه الاختلاف الآن؟. 
______________________________________
ثانيا 
*”أُغْنية بلا كَلِمات،
تبدو لكثرتها أغنية واحدة،
تَقولُ لكَ في غنائِها: إنَّ الوحيد في الحياة لا وجود له”.
*شكسبير في سونيت 8
.
.
( 1)
شعر بالاطمئنان وهو ينظر إلى الطّابور الطويل الذي بات يتقدمه الآن. لم يَعُد يفصلهُ عَنْ غايته إلا خطوة واحدة؛ الفتاة صاحبة الشّعر الأشقر الطويل، أمامه، تستلم أوراق نقد من موظف البنك القابع خلف لوح زجاجي. تدسّ المبلغ في محفظتها وتغادر. يتقدم خطوة. ينحني مقتربا من الفجوة الدائرية التي تتوسط الحاجز الزجاجي. ابتسامة الموظف تظهر أسنانه ناصعة البياض. يقول شيئا. ثمّة خِفّة غير مألوفة تُدهشه وهو يحرّك لسانه. يتكلّم. يحاول أن يتكلّم. تزداد ابتسامة الموظف اتّساعا. يدرك أن كلماته لم تتجاوز صدره. يتحسّس رقبته. يحاول دفع الكلمات إلى الأعلى . ما زال لسانه خفيفا وربما لم يعد في مكانه. لا يشعر بدغدغة وهو يمرره على سقف حلقه وشفتيه. يمدّ يده ويقبض عليه. يبدو محتفظا بشكله. عليه أن يقول شيئا. يضرب على قفصه الصدريّ. يختنق بكلماته. يلوّح بأصابعه. يكتب في الهواء: “فقدتُ صوتي.أنا أخرس”. تتحول ابتسامة الموظف إلى ضحكة. ضحك كثير خلفه. قهقهات. كلمات؛ الكلمات التي يفتقدها. يكوّر قبضته. يضرب الحاجز الزجاجي. التّكسير صار صوته الآن. 
نستطيع وصف الحالة نفسها؛ الخَرَس المفاجئ، وهي تنتشر كوباء يجتاح العالم؛ امرأة تخسر ثرثرتها وهي تشرب فنجان القهوة الصباحي مع جارتها. زوج سليط اللسان لا يستطيع انتقاد زيادة الملح في “حساء الخضار” الذي أعدته الزّوجة العاملة. تلميذ متفوق في المرحلة الابتدائية وهو يحاول أن يثبت لأستاذه أنه يحفظ “جدول ضرب الـرقم 7″… مواقف كثيرة، لم يكتبها جوزيه ساراماغو في روايته “العَمى”، لكنها تحدث بشكل أو بآخر، في روايةٍ تكتبها التكنولوجيا تحت عنوان “الخَرَس”، أو – تحديدا- انحباس الصّوت” أو “موته” بعد أن صرنا نكتب الكلمات حتى لا ننطقها. 
ودعونا نتفق، أولا، أن “الكتابة/الكلام الذي فقد صوته” التي نناقشها هنا، تختلف عن الكتابة التي يمارسها الكتّاب؛ الكلمة التي وصفها –كما ذكرنا في الجزء الأول من المقالة- جان جاك روسو بـ” أنَّ المرء يؤدّي مشاعره عندما يتكلّم، وأفكاره عِندما يكتب،..الخ”. 
( 2 )
فيما يذهب رولان بارت، في كتابهِ “هَسْهَسة اللغة” إلى اعتقاد مفاده:” لو كان لي أن أتخيّل روبانسون جديدا، لما وضعتهُ في جزيرة، ولكن في مدينة يقطنها 12 مليونا، وهو لا يعرفُ سبيلا لا إلى فكِّ الكلام ولا الكتابة؛ سيكون هذا، كما أعتقد هو الشكل الحديث للأسطورة”، أرى أن روبانسون الجديد غير مضطر إلى مغادرة بيته وعائلته؛ إذ يكفي أن نتخيّله جاهلا بوسائل التّواصل الإلكترونيّة. 
بمعنى آخر، لم يعد عامل “اختلاف اللغات بين الشّعوب” هو العائق الأول أمام تواصلها الإنساني، بعد ابتكار ما يشبه “اللغة العالميّة الجديدة”؛ وهي لغة “حرباء” قادرة على التلوّن والتعولم بكبسة زرّ!. 
فعلى المستوى الفردي نحتاج إلى محو الأميّة الإلكترونيّة، إضافة إلى امتلاك الأدوات الضروريّة لممارستها بوصفها “أعضاء النطق!” ، وهذه الأخيرة، تتعلق بالقدرة الماليّة للأفراد، أمّا على مستوى ” الجماعات/ الأمم” فلا بد من “حوسبة” اللغات، وهو الباب الذي امتنعت “العربيّة” عن اقتحامه، ما تسبب في تأخّر الترجمة الآلية منها إلى اللغات الأخرى والعكس بالعكس. 
وللإضاءة على هذه القضية، فالحوسبة تحتاج إلى إنشاء “مدونة” أي جمع مئات آلاف النصوص التي كُتبت باللغة العربية، قديمًا وحديثًا، وفي مختلف المجالات، إلكترونيًا ومن ثم دراستها بطريقة علمية حسابية، لاستخلاص النتائج حول قواعدها وأسس استخداماتها، ومعرفة تحولاتها، وتشكّل دلالاتها وتبدّل صيغها تاريخيًا، والتعامل معها من منظور جديد، وهي خطوة إجباريّة لتصبح الترجمة الآلية ممكنة، كما هي باقي اللغات. 
عموما، تراجع شعبيّة “الكلام التقليدي” مقارنة مع تصاعد “الكتابة/الكلام الذي فقد صوته” رغم كل سلبياتها، مرحلة لا نستطيع القفز من فوقها، كما أن مجابهتها بالتقوقع داخل عزلتنا- سواء فرديّة أو جماعيّة- ليست بطولة تستحقّ الإشادة، .. بانتظار أن يستردّ العالم إنسانيته، على الأقل. 
( 3 ) 
اللغة. الكلام. الإنسان. الكتابة. الصوت. العالَم؛ هذه جميعا تتقاطع في بعض مستوياتها؛ فاللغة التي اعتبرها “دي سوسير” ذات طبيعة مستقلة عن الكلام؛ من حيث أنّها مجموع القواعد الصوتيّة والتركيبيّة النحويّة والصرفيّة والدلاليّة المعجميّة، أمّا الكلام فهو تحقيق المتكلّم لتلك القواعد وتوظيفها ومُمارستها بشكل واقعي؛ أيّ أن الكلام سلوكٌ فرديّ خاص يتوقّف على إرادة المتكلّم وبداهته، بينما اللغة ظاهرة اجتماعيّة عامة.
وبهذا الصدد، يمكن التعرّف على بعض آراء الفلاسفة حول اللغة؛ إذ يفيد غادامير أنّها أحدُ الألغاز العظيمة في التَّاريخ الإنسانيِّ، ويقول دلتاي إنها القناة التي تُمكِّنُ الإنسانَ من إنجاز الفهم، ويؤكّد فوكو إن اللغة هي تحليل الفكر، بينما يقول ريكور إنَّ فهمَ الإنسان لنفسه وللعالم من حوله يرتكزُ على اللغة التي تعبرُ عن هذا الفهم، أمّا هيدغر الذي يرى أنّ اللغة أكبر من كونها أداة للتواصل، فهو يصفها بأنّها “مَسْكَنْ الكائن” أو “بيته”. 
وعودة إلى مارتن هيدغر، فقد عالج في محاضرته “الطريق إلى اللغة”، مسألة اللغة من زاوية الكلام؛ لافتا إلى أن الإنسان كائن لغوي، مستعينا بتأملات أرسطو اللغوية التي تقول إن اللغة إحدى وسائل التعبير الأكثر تعقيداً؛ فالكلام يعتمد على الأصوات التي تظهر المشاعر المُختلجة في النفس وتكشف المشاعر بدورها عن الأشياء التي تثيرها، وهنا يكمنُ فعلُ اللغة؛ في القدرة على الإبانة والكشف والحجب.
ويشدد هيدغر على أن الإنسان مُندرجٌ في حدوث اللغة، وأنَّ وعيه لا ينفصل عن هذا الحدوث إلا بقدر ما يستقلُّ عن اللغة، حيث يُتيحُ الكلام للإنسان البرهنة على موجوديته “إن حضور المتكلمين يتحقق بالأحرى في التكلّم، بحيث إن المتكلمين يتكلمون إلى بعضهم ومع بعضهم وإلى أنفسهم كذلك”.
وفي معالجته لمسألة الصّمت يرى أنه حجبٌ لكلام لا ننوي الاعتراف به؛ إذ يتمُّ تغييبُ رموزٍ لا نرغبُ في الإقرار بها؛ لأنها لا تُعبِّرُ عن موقفنا تجاه الوجود: “ينشأ المتكلَّم بكيفيات متعددة عن اللامتكلِّم، سواءً أكان هذا هو ما لم يُتكلَّم بعد، أو كان هو ذلك الذي يجب أن يبقى ممتنعًا على التكلَّم”. 
حسنا، مهما اختلفت الآراء وتقاطعت، يهمني أن نتفق على أنّ قصر اللغة ( أو ممارستها العمليّة/الكلام) على بُعدها التَّواصلي يهمشّها لأنها ترتبط بوجود الإنسان؛ وهذا ربما يفسّر إدمان البعض على مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أنها لا تحقّق الإشباع الكامل؛ بسبب غياب الصّوت والتفاعل المباشر بين المتكلمين.
____________________________________
ثالثا 

*” بين النّطق والصَّمْت بَرْزخٌ فيه قَبْر العَقْل وفيهِ قبور الأشياء. 
إنما أحادثكَ لترى ، لا لتُحادث. فإذا حادثتُك رأيتَ فإذا رأيتَ، فلا حَديث”.
*(النفّري ) 
.
.
الكَوْن؛ هذا الثَّرثار.. الصَّيٍّتُ هَمْسًا؛ الطَّبيعةُ لغته. 
السَّمَاء. الأرْض. الشَّجَر. البُحور. النُّجوم. الجِّبَال.الكواكب. الهَواء. التُّراب.الضّوء. العَتْمة..؛ حواسّ الكَوْن، المُدجَّجة بالكَلِمات الفَصيحة، لكنَّنا لا نُصيخ السَّمَع؛ نحنُ الذين نتحدَّر من سَمَاء هذا الفَم الكبير، ولا نَعبرُ ضِفَّة الكَلام إلى ضِفَّة المَعْنى المقابلة.
تلك إذن مَعْصِيَة أولى؛ عندما لم نَسْتَعبِرْ الكَوْن عن رُؤاه الكامِنة في الطَّبيعة، ولا الكَلِمات – التي يُشير آلبرتو مانغويل، إلى أنها “هديّة مِن العَالَم” و”تسبح في مكانٍ من المعاني المشتركة بين الجميع”- عن (الآخر)/ و(أنا)/ والكَوْن؛ هكذا تتلاحق الخَطايا!.
” مَعْصِيَة” و”خطيئة”؛ هذه ليست مُبالغة عِندما يتعلق الأمر بـتوقير “الكَلِمة”؛ إذ رُفِعَت مُنذ البدء إلى العالَم الدِّيني؛ عالم “المُقَدّس” بوصفها أداة للخَلْق والكَينونة والمَشيئة في الديانات السّماويّة الثّلاث، كذلك الأمر، في الدّيانات الوضعيّة واعتقادات الشّعوب البدئيّة؛ .. ففي ترتيلة الخلق لدى بولنيزيا التي تصف ما قبل البداية بــ”.. في تلك الأيام لَمْ يَكُن هُناك صَوْتٌ ولا نأْمة..”؛ أي أنَّ الصّمت كان قبل الحياة، وهي تتحدث عن “تاناناوا” إذ يستحث العمليّة التي يزول فيها الصّمت الأصلي “موتوهي” من خلال تقديم نبرة “أونو” فيقترن “آتيا” بـ”الفجر الأحمر(آتانوا)”، وهنا يَبدأ الصّخب أو “قوّة الحياة”؛ وفقا للترتيلة. 
وكَما أنّ الكَلِمة هي الأولى، فهي الأقوى، وغالبًا ما تكون اسم الإله، وليس الإله نَفسه، ولهذا تبدو المصدر الحقيقي للفاعليّة، وهكذا تروي لنا الأسطورة المصريّة، كيف أن “إيزيس” خدعت الإله “رع” وأقنعته بأن يفشي لها اسمه، ثم اكتسبت من خلال امتلاك الاسم، القوّة عليه، وسيطرت على جميع الآلهة الأخرى. 
وفي الهند، تتعالى قوّة (الكَلِمة المنطوقة) حتى فوق قُدرات الآلهة، وفي أحد النّصوص الدينيّة الهنديّة، نقرأ: “على الكلمة المنطوقة تعتمد الآلهة جميعا، والوحوش والنّاس جميعا؛ ففي الكلمات تعيش المخلوقات كلّها؛ لأنّ الكلمة لا تَفنى، وهي أول وليد للقانون الأبديّ وأُمّ الفيدات، وسرّ العالم الإلهي”. 
لا أخطط لجمع مادة أنثروبولوجيّة، فالأمثلة كثيرة، لكن وبالعودة إلى حيث توقفنا،.. يبدو أننا لم نَنْجُ بما اقترفنا من خطايا – ولا أحَد يفعل- ، لهذا نُعاقَب بـــ”سوء فَهْمٍ” مُتبادَل مع الأشياء-والكَوْن شَيء- والأشخاص من حولنا، وللمفارقة، مع أنفسنا أيضا، ولا بد من الإشارة هنا إلى ما أطلق عليه إريك فروم “اللغة المنسيّة”، وهي اللغة الرّمزيّة التي تتحدث بها الأحلام والحكايات والأساطير؛ تلك اللغة الحَميمة التي عوقبنا بنسيانها –ربما- بسبب “سوء الفَهْم” الذي تبادلناه مع أنفسنا، ويبدو أنّ المبدعين من الأدباء والفنّانين والفلاسفة– فقط – يمتلكون بعض مفاتيحها. 
“كُلّ شيء فينا يَبْحَث عَن أوَّله”/ درويش
____________
لا الجّوع ولا العَطَش انتزعا من الإنسان أوّل التّصويتات، بل الحُبّ والكُره والشَّفَقة والغَضَب؛ هذا ما يَذهَب إليه جان جاك روسو، وهو يُفنِّد الادِّعاء بأنّ الإنسان اخترع الكلام للتعبير عن حاجاته، ويرى أنه لو لم تكن لَنا غير حاجات طبيعيّة، لأمكننا أن لا نتكلّم أبدا، وأن نتفاهم فقط بلغة الإشارة، ولكان بمقدورنا أن نقيم مجتمعات لا تختلفُ كَثيرا عمّا هي عليه اليوم، وأن نعمل من الأشياء بقدر ما نعمله منها بفضل الكلام.
و”الكَلام” الذي يتناوله “روسو” هُنا، ليس هو نفسه “البَيَان”، لأنّ الإبانة قد تتحقق دون فعل بشري، حسب هيدغر، وهذا كلام صحيح، لأنّ الكَوْن ثَرثار والأشياء تُبِين وتُبيِّن نفسها؛ كالسّحابة التي تُنذِرُ بالمَطَر أو بطن امرأة يُبَشِّر بطفل..، ولنتأمّل جماليّة التَّعبير الذي نقله “هيدغر” عن “جون بول” وهو يسمي ظواهر الطّبيعة بـ”إصبع البيان الرّوحي”.
نحنُ نتكلّم– ضمن المعنى الذي حددناه أعلاه- تعبيرا عن مشاعرنا، أو إثباتا لموجوديّتنا- وفقا لرأي هيدغر، كما أسلفنا في جزءٍ سابق من هذه المقالة-، أو للبرهنة على موجوديّة الأشياء أو المشاعر المُتَكلَّم عنها؛ إذ أننا ” نستعمِل الكلمات للتّعبير عن الأشياء والأحاسيس، ولكننا في الحقيقة، لا نرى تلك الأشياء ولا ندرك تلك الأحاسيس إلا من خلال الكلمات، والشَّيء الذي لا توجد له في لغتنا كلمة تعبّر عنه فكأنَّما هو غير موجود، وإن وجد في الكون المحيط بنا “؛ كما يقول أمبرتو إيكو.
اللّذة
_____________
في الفيلم المعروف ” فورست غامب”، بطولة “توم هانكس”، هُناك جزء مُدهِش؛ إذ يبدأ “فورست” بالرّكض بعد أن تتركه “جيني” العائدة إليه بعد سنوات. لم يكن يهدف إلى تجاوز الشّارع الذي يسكنه، لكنَّه يقرر أن يركض إلى نهاية الحي، ثم إلى نهاية المدينة، ثم إلى نهاية الولاية، ثم إلى نهاية أمريكا، ليصل إلى الجانب الآخر.. في ركض متواصل دام ثلاثة أعوام، يتبعه خلالها مجموعة من المريدين الذين يعتقدون أن في ركضه حكمة، وأنَّه سيقولها لهم أخيرا؛ لكنَّه يقرّر التّوقف فجأة، ويهمس الرّاكضون خلفه: “سيقولها”، ولكنه لا ينطق أكثر من جملة واحدة: “لقد تعبت وعليَّ أن أعود إلى البيت”. 
لماذا ركَضَ فورست؟ .. هُناك تفسيرات كثيرة تتضمن رغبته بتجاوز القدر أو الإرادة أو غيرها؛ لكنني أجيب ببساطة: حتى يتجاوز الألم الذي أحدثه الفَقْد، لكن – وبرمزيّة مُبدِعة – يكشف لنا عن حجم الألم الشّاهِق الذي يعانيه، إلى درجة احتاج معها إلى استهلاك كل هذه الكميّة من هرمون (الأندروفين). 
من المعروف، أنّ الجَّسَد يُفرِزُ هرمونات السَّعادة ( الأوكسيتوسين، والإندروفين، والسيراثونين، والدوبامين)- عند الرَّكض والمشي، مثلا، لكنني لم أعثر على معلومات تتعلق بدراسات علميّة تربط التَّكلُّم بإفرازات هرمونيّة معيّنة، وهو أمر مثير للاهتمام بالفعل، ويستحق البحث.. طالما نشعر باللّذة تجتاحنا أثناء ممارسة الكلام؟؛ وأقصد تحديدا، تلك الممارسة الكلاميّة التي لا ترمي إلى تحقيق غاية، كما هو الحال، على سبيل المثال، في “المونولوج” الذّاتيّ –صمتا أو جهرا-؛ أن نُنصِت إلى اللّغة التي نتكلّمها، أو بمعنى آخر؛ نتذوقها؛ الكلام بشكلٍ مجانيّ حتى نطأ الجهة المقابلة من الكلام!، .. رغم أن فرويد يقول: “ليس ثمّة أمر مجانيّ سوى الموت”.
نستطيع أن نلمح معنى اللّذة، في أحد نصوص نيتشة، ويتناول فيه ضعف الصّلة بين الأسلوب الألماني والصّوت والأذن؛ “فالألماني لا يقرأ بصوتٍ عالٍ، إنّه يهمل الأذن عند القراءة، كما لو كان وضعها في الجارور”، ويقارنه مع الإنسان القديم الذي كان يقرأ على نفسه-إذا ما قرأ- ، أي كان يقرأ بملء الصّوت؛ “ذاك يعني بكلّ ما للصّوت من نبرات تتصاعد وتنثني وتنقلب وبكلّ ما للايقاع من تبدّلات، أي بكلّ ما كان يعجب به العالم القديم العلني”. 
أنْسَنة الآلة و”تكنكة الإنسان”
_________
تحدثنا في جزءٍ سابق من هذه المقالة، عن “الكتابة/الكلام الذي فقد صوته”، وهو عنوان لمرحلة نخضع فيها تحت وطأة ثورة تكنولوجيّة وظروف معيشيّة فرضَت علينا التّواصل باستخدام الآلة، وهو ما أسمّيه، تفاؤلا، “أنْسَنة الآلة” لا “تَكنكة الإنسان”. 
والحقيقة، أنّ طبيعة هذا النّوع من الكلام “الذي فقد صوته”، تشبه -إلى حدّ ما- الرّسائل الشخصيّة التي مارسها الإنسان منذ بدء الكتابة، وتحوّل بعضها إلى أدبٍ عظيم، عندما كتبها –على سبيل المثال- جبران خليل جبران، ومي زيادة، وغسّان كنفاني، وغادة السّمان، ومحمود درويش، وسميح شقير.
أقصد، أنّها كتابة شخصيّة تتحدث عن المشاعر والأفعال اليوميّة وردود الأفعال، الأمر الذي يُدرجها ضمن تصنيف “الكلام”، وهي تتوجه إلى أفراد بعينهم أو إلى جماعة محدودة أو عامة، وفي حالات معيّنة، يتوجه فيها الشّخص إلى ذاته.
كما رافقها ظهور لغة جديدة، حملت اسم “العربيزي”؛ حيث يستعير الشّخص الحروف اللاتينيّة لتعبّر عن كلماته العربيّة، فيما استغنى عدد كبير من الأشخاص عن القواعد اللغويّة التي تضبط الكتابة، وتداخلت مع اللهجات المحكيّة، ثم ظهرت “الوجوه التعبيريّة” ؛ حيث يكتفي الشخص باستخدامها للتّعبير عن مشاعره، ولا ننسى، أيضا، اختزال المشاعر أو الأفعال بنشر ومشاركة الصّور. 
ورغم كل الآثار السّلبيّة المترتِّبة على الرّدّة الكلاميّة (العودة إلى استخدام الرّموز)، إلا أنّ الحكمة تفرضُ علينا تأمّل الواقع الزّاخر بأمثلة عمليّة تثبت أننا نجحنا، إلى حدّ ما، في استثمار الطّاقة الخلّاقة للنّص المكتوب، إذ تحوّل بعضها إلى نصوص أدبيّة رفيعة المستوى، دون أن ننكِر ظاهرة “الاستسهال ” التي تسببت في خلق نماذج أدبيّة مشوّهة ورديئة.
وعودة إلى الحاجات والأسباب التي تدفعنا لممارسة الكلام، نجد أنّ النّص المكتوب يستطيع إشباعها كلّها- تعبيرا عن مشاعرنا، وبرهنة على موجوديّتنا والأشياء-، لكن تنقصنا، في المقابل، مهارات نصيّة تمنعنا من اختباره ضمن مجال “اللّذة” الذي خاض فيه رولان بارت، والاجتهاد في اكتساب وتطوير هذه المهارات سيرجّح كفّة النّص “الكلام المكتوب” على “الكلام الصّورة” الذي يحاول التقدّم من جهته إلى الصّفوف الأماميّة، مستخدما جاذبيته وسهولة استخدامه وقدرته الفائقة على التّعبير، وهو الأمر الذي يشكّل خطورة كبيرة علينا التّصدي لها، حتّى لا يموت “الكلام”.
المطلوب الآن، التقاط الأنفاس، والتّريّث قبل إطلاق الأحكام المتسرِّعة؛ فالتَّجربة ما زالت غضّة، ولا نستطيع تجاهل مؤشِّرات إيجابيّة تصبّ في مصلحتنا بوصفنا أمّة عانت وتعاني من ظواهر تواصل غير صحيّة، قد تُسهم وسائل التّواصل الإلكترونيّة بالحدّ منها.
“مَنْ يَشْهَد على الشّاهِد؟”/ باول سيلان 
“من المستحيل أن نكذِّب المَوْتى”/ فيروتشو 
__________________
هذه الرّواية “تريستانو يحتضر” للإيطالي أنطونيو تابوكي- نقلها للعربيّة معاوية عبد المجيد 2013 عن “دار أثر”-، تُحْفَة كلاميّة.
وهي عبارة عن “مونولوج” طويل، يمكن نقلها بسهولة إلى خشبة المسرح ضمن فن “المونودراما”، لأنها تعتمد على ساردٍ واحد، إذ يتَّفِق محارب قديم يدعى “تريستانو” مع روائي سبق وأن كتب رواية عن أمجاده على أن يبوح له بقصّة حياته الحقيقيّة، قبل أن يموت؛ .. وهو يُفسّر فلسفته ببساطة: “… ربّما لأنّ الإنسان يحمل حياته معه إلى قبره، وأقصد الحياة الحقيقيّة والخاصّة، تلك التي يعيشها المرء في صدره، ويترك للآخرين حياته الاجتماعيّة التي عاشها معهم خارج ذاته، وهي واضحة وحتميّة ولا تحتاج إلى توثيق، رغم ذلك لي رغبة بالكتابة؛ أي بالكلام .. أرغب بالكتابة عبر شخص وسيط، فمن يكتب هو أنت، لكنّه أنا، أليس هذا غريبًا”. 
يتكلّم “تريستانو” عن انتصارته وهزائمه ومخزونه الثّقافي وذكرياته ومشاعره، ويختبر أثناء ذلك مفاهيم الحياة؛ الشّجاعة، والحبّ، والوفاء، والتّضحية، والحرب والسّلام، والموت والحياة، متسائلا عن جدوى أفعاله، وكأنّه يكتشف نفسه من جديد، وهو عندما يمرّ بهذه المرحلة من السّرد يستغني عن استخدام ضمير المتكلّم، مشيرا إلى نفسه باستخدام ضمير الغائب. 
هكذا؛ .. يدلّنا “تريستانو” كيف نكتشف أنفسنا بالكلمات؛ نسمَع أصواتنا قبل أن تتحوّل إلى صدى، فالكلمات تملكُ حياةً معنويّة لا يليقُ بها أنّ نأخذها معنا إلى قبورنا، ولنهتف بصوته العميق وهو يقول : “إنّ الصّخور لا تقول شيئا… إنَّني صَخْرة مُتكلِّمَة، تَقِفُ عند حافَّة الفَيضَان. أقِفُ هناك بسلام، وأنظرُ إلى المياه، وأقول: امضِ يا أختي المياه، تابعي مجراكِ، لا أحد يعلم ما تظنين نفسك،.. إنَّني هنا ثابت عند الحياة”.
_____________
*المصدر: الجسرة الثقافية الإلكترونية 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *