خاص- ثقافات
*د. يسري عبد الغني عبد الله
على بعد 48 كيلو مترًا من مدينة سمرقند في تركستان (الروسية) ، تقع قرية كيش الصغيرة ، وهنالك في عام 1336 م ولد واحد من أعظم الغزاة في العالم ، كان اسمه تيمور ، ولأن ساقه بترت وهو حدث ، أطلق عليه لقب تيمورلنك ، ومعناها تيمور الأعرج ، ومنه حرف اسمه في أوربا على تامرلين أو تامبورلين ، أما أرومته فغامضة ، فطبقًا لإحدى الروايات ، فإنه ابن أحد رؤساء القبائل ، وتروي أخرى أنه ابن أحد الرعاة الفقراء ، وأنه رقي إلى السلطان عن طريق اللصوصية وقطع الطريق .
على كل حال وأيًا كان الأمر ، فالمعروف أن تيمورلنك ارتقى عرش سمرقند عام 1370 م ، حاملاً اللقب الأخاذ (عاهل ما وراء النهر) .
كان تيمورلنك من التتار ، وهو كما نعلم جنس من الشعوب اجتاح روسيا وأسيا الصغرى قبل ذلك بمائة وخمسين عامًا بقيادة جنكيزخان الشهير ، والذي أعلن تيمورلنك أنه من سلالته ، ولدى وفاة الخان الأعظم عام 1227 م ، كانت إمبراطوريته أكبر ما عرف الإنسان من إمبراطوريات ، حيث امتدت من بلاد الصين في أسيا إلى بولندا في أوربا ، ولكنها منذ ذلك الحين تساقطت أشلاءً ، لذلك كان على تيمورلنك أن يناضل ، أو ما يناضل ، الرؤساء التتر الآخرين ، ولقد ظل شغل تيمورلنك الشاغل خلال الأعوام من 1370 إلى توطيد سلطانه في تركستان .
وجه تيمورلنك اهتمامه بعد ذلك على أشهر التتر أجمعين ، أولئك الذين استقروا حول موسكو وفي شرق أوربا ، ذلك الشعب من البدو الدائب الترحال والذين يحملون معهم خيامهم ويستقلون مركباتهم ، وكانت على جانب من الفخامة والروعة حتى أنه أطلق عليهم اسم القبيلة الذهبية .
وفي عام 1380 م لجأ أمير من هؤلاء القوم اسمه توكتاميش إلى تيمورلنك ، وطلب ملك القبيلة الذهبية بتسليمه إياه ، ولكن تيمورلنك أبى ، وتلت ذلك حرب لم تدم طويلاً ، فسرعان ما ولي تيمورلنك توكتاميش العرش ، مقابل أن يدين له هذا الأخير بالسمع والطاعة .
عندئذ بدأ تيمورلنك يتحرك غربًا ، وفي عام 1381 م غزا بلاد فارس ، ولقد حدث هناك أن ذاعت شهرته في الإبادة الجماعية ، ولما رفضت مدينة أصفهان الإذعان له وتمردت عليه ، قرر تيمورلنك أن يجعل منها عبرة شنيعة ، فيقال : إنه ذبح من سكانها 70 ألفًا ، وكدست رؤوسهم في هرم ضخم رهيب ، إلا أن تيمورلنك لم يكن متعطشًا لسفك الدماء مفتونًا بالقتل ، ولكنه يعتقد أن السبيل الوحيد لقهر أي شعب أو أي بلد يريد إخضاعه لسلطانه إنما هو بث الذعر في قلوب أهلها ، ولقد شبه نفسه ذات يوم بمروض الذئاب الوحشية ، هذا ما قاله بعض المؤرخين ، إلا أننا نرفض أية إبادة جماعية أو أي قتل وترهيب مهما كانت الظروف والأحوال .
وفي عام 1395 م ، كان على تيمورلنك أن يحتك مرة أخرى بالقبيلة الذهبية ، عندما أعلن الملك (الدمية) توكتاميش العصيان عليه ، ففي منتصف فصل الشتاء تحرك تيمورلنك وجيشه شمالاً إلى أواسط روسيا ، ودحر القبيلة الذهبية مرة أخرى .
وقد عاد تيمورلنك آنذاك إلى عاصمته سمرقند ، لكنه بالرغم من تجاوزه الستين عامًا ، إلا أن طاقاته القلقة لم تكن تسمح له بأن يظل ساكنًا ، كان يحدوه الشوق الدائم إلى ساحة القتال ، وفي هذه المرة اتجه نحو شبه الجزيرة الهندية ، حيث استولى على دلهي ، ودمرها حتى سواها بالأرض ، ليتوطد حكم المغول في تلك المنطقة .
وفي العام التالي حل دور تركيا ، وكان الترك في تلك الفترة التاريخية يهددون أوربا ، ولكن قدر عليهم أن يتنحوا جانبًا ، ففي سنة 1402 م ، حلت الهزيمة النهائية بالسلطان التركي بايزيد فوق سهل أنقرة على يد جيش أصغر بكثير .
وعاد تيمورلنك مرة أخرى إلى عاصمته التي كان قد بدأ في إعادة بنائها على مستوى فخم ، لكنه مرة أخرى لم يبق بها طويلاً ، ففي سن الثامنة والستين شرع هذا الرجل الأسطورة في غزو بلاد الصين غزوًا شاملاً ، لكنه حينئذ كان قد بلغ خاتمة مطافه العنيف العارم ، إذ وفاه أجله السريع بعد خروجه للغزو ، ودفن في مدينة سمرقند .
كان تيمورلنك واحدًا من أعظم الغزاة في العالم أو فلنقل من أعظم القادة العسكريين ، فقد جعلت البلاد الشاسعة الخاضعة لسلطانه فتوحات قيصر روما ونابليون فرنسا تبدو ضئيلة إذا ما قورنت بها ، فماذا كان السبب في نجاحه الخارق ؟ ، وكيف حققه ؟ .
ربما كان ذلك يرجع بالدرجة الأولى إلى طاقته الفائقة ، وقدراته على الجلد والاحتمال ، يضاف إلى ذلك ما تمتع به من ذكاء وصبر وروية ، كان يبدو أنه لا شيء يمكن أن يفت في عضده ، كان يقظًا نشيطًا ، لا يكل ولا يمل ، وعلى بعد خطوة من عدوه ، وكان يؤمن إيمانًا راسخًا بضرورة المبادرة وسرعة الحركة في الحرب .
وقال ذات مرة : إنه من الأفضل أن يكون الإنسان في المكان المناسب بصحبة عشرة رجال ، على أن يغيب عنه ومعه عشرة آلاف رجل .
وفي زمان السلم ظهر تيمورلنك بمظهر الحاكم العادل الحكيم ، فضلاً عن أنه كان الراعي العظيم والنصير للفنون ، وكان لاعب شطرنج بالغ المهارة ، ولم يكن تيمورلنك بالرجل المتدين على وجه الخصوص ، بالرغم من أن اهتمامه كان بالغًا بالدين الإسلامي ، وكانت عقيدته تتلخص في الشعار الذي اتخذه لنفسه ، وهو (راستي روستي) والذي يعني بمنتهى البساطة : القوة هي الحق .
_______
* باحث وخبير في التراث الثقافي
yusri_52@yahoo.com