خيمةُ النخيلِ في بسنادا

خاص- ثقافات

*حازم شحادة

حتى دخلتُ مرحلة التعليمِ الثانوي كانَ حلمُ حياتي أن يكون عندي..خيمة.
وكي يكونَ عندي خيمة لا بدَّ أن يكونَ عندي.. سطح.
وكي يكونَ عندي سطحٌ لا بدَّ أن يكونَ عندي منزل، وأنا لم يكن عندي منزل.
كنّا نعيشُ في بيتٍ مستأجرٍ يقبعُ في الدورِ الأول ولا سطحَ له.
بعد فترةٍ من الزمنِ ساءت الأحوالُ المادية (للأبِ المناضلِ) أكثر فانتقلنا للعيشِ في غرفةٍ واحدة لا يمكن الصعودُ إلى سطحها المزدحمِ بالشقاء لكن، مع مطلع العام 1998 حصلَ والدي المُفدّى على تعويضٍ جرّاء استيلاء إحدى شركات الطرق على قطعةٍ من أرضه في القرية وكان المبلغُ في تلك المرحلة مناسباً للبدء ببناء شقة.
كنتُ حينَ أمشي في شوارعِ بسنادا وألمحُ خيماتِ القصب والنخيل منتشرة على الأسطحةِ وهي مزدانةٌ مساءً بالأنوارِ يكادُ قلبي أن يقف.
ـ أريدُ خيمة خاصة بي كي أجلسَ فيها مع أصدقائي نشربُ المتة ونستمعُ لأمّ كلثوم بينما ندخِّنُ الحمراء الطويلة وسجائر الشام بالسر..
هكذا أقولُ لنفسي بحسرةٍ..وأمل.
إطلالةُ سطحِ منزلنا الذي أبصرَ النورَ أخيراً هي كما أقول لكم:
ـ أمامنا يبدو البحر ممتداً رحيباً من رأس البسيطِ حتى ميناء اللاذقية.
الجبلُ الأقرع وسلسلة جبال الساحل السوري عن يميننا وخلفنا وعن يسارنا تتمدّدُ بسنادا سالية الزمنَ وعاشقة لنفسها حدَّ التصوف.
بسنادا.. القرية التي كانت في ذلك الوقت جنّتي التي لم أخرج منها بعد بزيتونها ومروجها وصلولينها والشيخ قليعة وأرض أم صلاح والبيدر والخرنوب والشوباس والحميضة والكينا.
بكلِّ ما يمكنُ للجمالِ أن يتجسّد كانت هيَ.. وكان هذا فيما مضى.
قبلَ أن ينقضي ربيعُ ذلك العام ولأنني لم أطق صبراً قمنا أخي مجد وأنا باستئجار سيارة صغيرة (سوزوكي) بمبلغ وقدره (25) ليرة سورية.. ليرة تنطح ليرة وذهبنا إلى مقبرة الشهداء حيث تنتصبُ هناك أشجار النخيل.
أوقفنا الحارس وسألنا عن غايتنا فأخبرناه وقال:

ـ لا تتركوا ورقة نخيل يابسة إلا وتأخذوها.
أرحتموني من عناء جمعها أراحكم الله.
هكذا.. قمنا بتجميع ما اتسعت له (السوزوكي) من أوراق النخيل ومباشرة إلى المنزل.
عملنا طيلة النهارِ في إرساءِ الدعامات الخشبية وترتيب أوراق النخيل ثم تثبيتها بأسلاكٍ معدنية ناعمة.
مع المساء كنّا قد أوصلنا إليها الكهرباء مع مصباحِ أديسون الأصفر وقمتُ بتخصيصِ حجرتين (بلوكتين) لتكونا الطاولة التي أضع عليها مسجلة (الشارب) الوسيلة التكنولوجية الوحيدة المتوفرة مع التلفاز في المنزل.
بقيَ أن أضع السرير في الخيمة وطاولة لا على التعيين حتى يتحقق الحلم.
لكن من أين السرير؟
شراءُ واحدٍ جديدٍ مستحيلٌ بكلِّ معنى الكلمة ولا يوجد لدينا واحدٌ قديمٌ لا نحتاجه.
ـ  الصباحُ رباح.
قلتُ لنفسي فالجزءُ الأصعبُ من المهمةِ تمت تسويته.
في اليوم التالي أخبرتني خالتي العزيزة أن الزاوية اليسرى من حديقةِ منزلها تضمُ سريراً حديدياً صدئاً ملقىً بإهمال منذ العام ألف وتسعمائة وخشبة.
ـ عظيم.
قلت لنفسي وفكرتُ سريعاً..
ـ  لا أملكُ خمساً وعشرين ليرة كي أسـتأجرَ (سوزوكي) لنقله واللهفة تعصفُ بي.
ـ حسناً.. سأحملهُ على ظهري.
اندفعتُ إلى منزلها وحملتُ السريرَ ثم عدت أدراجي.
أكثرُ من ثلثِ الساعة وأنا أسيرُ حاملاً السريرَ على ظهري وما تفرعَ من حديدهِ يقوم بتجريحِ يدي وظهري.
ـ لا مشكلة.
المهم أن أتمدّدَ عليكَ اليوم أيّها السرير.
اليوم سأنام في خيمة النخيل.
ما أن فرغتُ من إعدادِ مكان السريرِ حتى قمتُ بوضعِ طاولة خشبيةٍ قديمةٍ مهترئةٍ كانَ يمتلكها ربما القائد سلوقس ثمَّ قمتُ بتسخينِ أبريقِ الماءِ وإعدادِ كأس المتة.
جلسنا مجد وأنا نطالعُ البحر أمامنا كيفَ تتماوجُ ألوانهُ بين الأزرقِ الغامقِ والسماوي وفي الأفقِ البعيدِ سفينة تمخرُ العباب..
أصبح عندي خيمة.
استمعُ فيها مساءً لأم كلثوم وهيَ تشدو:
ـ  (هذه ليلتي وحلم حياتي.. بين ماضٍ من الزمانِ وآتِ، الهوى أنتَ كله والأماني.. فاملأ الكأسَ بالغرامِ وهاتِ، بعدَ حينٍ يبدِّلُ الحُبُّ دارا.. والعصافيرُ تهجرُ الأوكارا، وديارٌ كانت قديماً ديارا.. سترانا كما نراها قفارا، سوفَ تلهو بنا الحياة وتسخر.. فتعالَ أحِبُّكَ الآن أكثر).
ومساءً كانَ الضوءُ الأصفرُ يتسربُ عبرَ أوراقِ النخيلِ ليهطلَ قُبلاً على سطحنا المُسوَّرِ بأوراق التين والزيتون المتناثرةِ حول المنزل.
ـ كان حلمي جميلاً..
لم يكن تحقيقه يحتاجُ لمعجزات.
حينَ كبرتُ أصبحت أحلامي ثقيلة، ضخمة، متعبة..
إنها تحتاجُ للسفرِ آلاف الكيلومترات ولا ترضى..
تستهلكُ من صحتي وروحي ونفسي، ولا ترضى.
منذُ زمنٍ بعيدٍ لم أقم ببناءِ خيمةٍ على السطح.
أصلاً.. لم يعد البحر مطلاً علينا كما في تلك الأيام..
ارتفعت العمارات الإسمنتية وحجبت الرؤية.
أشجارُ الزيتون تم قطعها.
الرضا الذي كنتَ تلمس بريقهُ ـ نوعاً ما ـ  في عيون البشر.. مات.
أمّا أنا ـ وفوق كل ذلك ـ  لستُ موجوداً هناك إلا لأيام قليلة بحكمِ عملي خارج سوريا..
وأنا الآن أكثرُ من أيّ وقت مضى أريد خيمة على السطح يزورها البحرُ وتزوره متى شاءا..
ولا أريدُ أن تلهو بي الحياة وتسخر..

حازم شحادة
شاعر وكاتب قصة قصيرة من سوريا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *