أتم يوم الثالث عشر من آب، عامي السادس والخمسين من مشواري المرسوم سلفاً دون أن أدري إلى أي مدى سيطول. نعم .. ستة وخمسون، مجرد رقم أصم قد لا يوحي بشيء لأحد، بينما في هذه اللحظة يعني كل شيء لي. رقم يحملني إلى أجواء أينشتاين ونسبيته اللعينة، حيث يذكرني بنسبية مقاس حذائي المكافئ لثلاثة وأربعين حبة شعير، ضخم في حساب البعض، ومعقول عند آخرين، في حين أنه موغل في الضآلة في عيون غيرهم ..!
أرأيتم كيف وقعت في حبائل مفارقة من السخف النسبي وواءمت بين عمري وحذائي، أوقظتني على حين غرة على حقيقة شوهاء شدتني بقسوة من شيبتي صارخة في أذني المعطوبة بأن العمر مجرد حذاء.
نعم هو كذلك، ولا شيء في هذا في الواقع ..
فنحن ننتعل أعمارنا بحسب قدراتنا ومقاديرنا وكذلك مرامينا ونوازعنا التي تحكم مشاويرنا. أوليست هناك أعمار خفيفة نظيفة لا يكاد صاحبها يشعر بوطأتها، في الوقت الذي توجد فيه بساطير تنوء بثقلها الأيام والليالي. أليست هناك أعمار نفيسة باهظة القيمة يخشى عليها صاحبها ذرة الغبار في مقابل أعمار أخرى بخسة لا يكاد يلتفت إلى تلفها أو فقدها أصحابها أو غيرهم؟
ألا توجد أعمار رسمية أنيقة رصينة لامعة ومنشاة، وأعمار أخرى كاجْوال وسبور لأغراض العبور السريع على صراط الزمن؟
أدعوكم يا سادتي إلى التفكر مليّاً في ذلك قبل الإقرار بأن تلك هي الحياة.
“الشباب شباب القلب ..”
كم هي دميمة ومملة وبالية هذه العبارة على الرغم صحتها، فصحة الشيء ليست دائماً دليلاً على جماله.
السر في دمامة تلك الجملة هو أنها تلقى بنمطية فجة واجترار مقيت لا ينم إلا عن غباء وجمود قائلها ممن توسم في نفسه الصبا ورشاقة الروح والإهاب، يقذف بها على سبيل المواساة وجبر خواطر في وجه من تم فرزه وأرشفته باعتباره مجرد طيف لذكرى فقدت صلاحيتها الحياتية، مهما كان لمقدراته من رأي في ذلك. والأشد سماجة من ذلك تلك الجملة التقريرية يراد من اجترارها إفحامك بالضربة القاضية معتبراً بأنك (الخير والبركة).
في الواقع أن الشعور الدفين بالضآلة والدونية مفهوم تماماً عند معظم الأفراد في المجتمعات الشرقية، كنتيجة منطقية لمسلسل الخيبات المتراكمة وسلاسل الهزائم والإهانات التاريخية المتلاحقة التي تعرضت إليها هذه المجتمعات، وهو ما تفصح عنه بجلاء مظاهر العجرفة والاستعلاء والنفخة الزائفة والعدائية المفرطة تجاه الغير ، وقد أضحى ذلك سمة من سمات المجتمع. يتساوى ذلك مع الغلو الفاضح في استعراض الدماثة وانتحال الأدب الجم وتمثل كل ما يوحي بالبراءة والاستقامة والخلق القويم، استجداءً لشيء من التقدير والإطراء من الغير، على سبيل التعويض عن الإحساس المرضي المزمن بالصغر الشديد لدى الفرد، ما يجعله دائم الالتصاق بطفولته المندثرة وصباه الزائل، حتى يبقى في نظر نفسه ذلك اليافع الحدث المستديم، فيصبح بذلك سائر الشباب وصغار السن من في محيطه أقراناً له ويصبح ذويهم بالضرورة أعماماً وخالات للمذكور، يتصرف في حضورهم مثل ما يتصرف تلميذ الإعدادية النجيب في حضرة مدرس التاريخ، دون أن يعي الكوميديا السوداء للمشهد الذي يستلقي فيه شيب ذوائبه مقهقهاً على بلاهة تفكيره وسلوكه.
نعم أيها السيدات والسادة، أطفئ اليوم ستاً وخمسين شمعة كاملة، أعترف للأمانة بأني لم أوقد واحدة منها مثلما أجهل تماماً ولا تشغلني معرفة كم تبقى لي في الجعبة من شموع ..
أطفؤها دون أدنى التفاتة مني إلى الوراء، فلا وقت عندي للندم على شيء لن يعود، فما بين يدي اليوم يكفيني لكي أنام ملء جفوني عن شواردها،
أطفؤها وفي جيبي حفنة من سكاكر ملونة أمنحها للأطفال من حولي علّي أرى على وجوههم الغضة ابتسامة كانت قد أفلتت مني في الزحام،
أطفؤها وأنا أبتسم إشفاقاً وحزناً على ذلك الخمسيني الذي يصر على مناداتي “عمي أبو فلان ..” سائلاً إياي الرضا عليه والدعاء له في صلواتي،
أطفؤها وأنا أبٌ لشابين رائعين وجد لحفيد هو أجمل ما كان في حياتي متمنياً لأيامه ما له من جمال خلقته وكل أملي أن يكون متبوعاً بآخرين على مثاله ..
أطفؤها غير آبه بتلف أو باهتراء حذائي .. فلا بد للمشوار أن يكتمل إلى أن ينتهي يوماً حتى ولو اضطررتُ إلى إكماله حافياً ..