الرواية و “تسيـيد” التاريخ غير المروي


*سعيدة تاقي


سؤال المفـتَـتَح:

أتعني كتابة التـاريخ روائـياً بالـضرورة اسـتدعاء أجوائه المفـعمة بالتحقـيب و التسجـيل و التقديس و التوثيق؟ أتعني النهل من نسغ لغته المتورطة في العتاقة و أروقة متاحفها الفخمة؟ أتعني ارتداء لبوس المؤرّخ المتهيِّب من استرسال الحقائق، المرتاب من انسكاب فائض الوجدان على مداد الوقائع الفجَّة؟
وفق هذا التحديد، لم تَكتُب الروايةُ التاريخ، بل كتب المؤرخون رواياتِهم المتباينة.

نحو تورُّط أعمق:

يثير التقاطع بين الرواية و التاريخ أكثر من إشكال و أكثر من مستوى للتحليل و التأمل. ليس من منطلق أن اللقاء الذي سيـتم بين النسق التـأريخي الموحِّد للمنظورات المتعارضة، و بين الكتابة الإبداعية المفعمة بالرؤى المضادة، ستكون خسائره غير مأمونة الصفحات روائيا و تاريخيا. بل لأن فعل التأريخ في السجل المكتوب باللغة العربية ظل لزمن طويل امتيازاً رسـمـيا لا يبتعد عن ظـلال المـؤسسات الحـاكمة الحـزبية أو المـحلية أو الـوطـنية أو القومية.
و من ثم تغدو كتابة التاريخ من خارج المؤسسة الرسمية انحـرافاً أَّول لا سبيل إلا ضبط حوافزه أو لجم انفلاته عن الوصاية السائدة. و تغدو للحقائق التي تمّ إثبـاتها تاريخيا بقلم مؤرخي الدول، أوجهٌ أخرى تشكِّـل انحرافاً ثانيا. فالسجل الرسمي لا يقف أمام الأوجه المتعددة للحقيقة الواحدة، احتكاماً إلى قوانين السيطرة و الإقصاء التي لا تعترف بالبطولة إلا للسائد و لا تخلِّد له سوى الأمجاد المجمَّلة أو المزيَّفة. و تغدو الكتابة التي كانت حكرا على من يمـتلك السلـطة، يفوِّض باسـمها من يوكِله مهـمة تبيـض سيرته أو تجميل هفواته أو تخليد ذكره أو نسف سجل أعدائه أو معارضيه، حقاً متاحا لكل من يمتلك مفاتيح التخييل و سجل الذاكرة الجمعية و امتياز المقاومة الفردية.

سطـوة السرد و سلطة التأريخ:

المادة التاريخية التي تحتويها الرواية ليست مادة فجة، و لا يصح لها إبداعيا أن تكون كذلك. المادة التاريخية المسرودة روائيا تمضي في منحى إنساني يعيد للمكلوم حقه في الصراخ، و تتيح للبطل أن يتحول إلى إنسان قد يضعف و قد يخطئ، فيتعرى إبداعيا من كل تنزيه أو تقـديس ألصقـا بسيرته في سجلات التأريخ. تسرد الرواية حـكايـات المستضعفين و المنبوذين و المقصيين و المهمشين الذي يشكلون في الغالب الضحايـا الذي يسقطون سهوا من متون المؤرخين، و يتحولون إلى مجرد أرقام في الحروب أو في الفتن أو في الانقلابات أو في المجاعات أو الاضطرابات الكبرى التي تلحق بحياة الشعوب بالجمع، و يظل اسم القائد الحاكم خالدا بالمفرد.
التاريخ يكتبه المنتصرون الذين يمتلكون السلطة و السيادة باسم القوة. و لذلك لا يؤرِّخ للمنهزمين أو المستضعفين أو المستبدِّ بهم ممن يمتلكون الحق لكنهم لا يمتلكون القوة لإحقاقه أو لتمجيد محاولاتهم المنكسرة في تجاوز قدر المستضعَفين.

تذويـت التاريخ و كتابة الرواية:

إن تذويت كتابة التاريخ الذي يجانب التوثيق العلمي عن مقصد إبداعي تتوخاه الكتابة الروائية، لا يفضي إلى تزييف التاريخ أو إلى تكذيبه، بل إن التذويت يكتب تاريخا آخر لم تسجِّله المدوَّنات و الأسفار و السجلات، لكونه قد تعرض للإقصاء أو للتجاهل أو للإخفاء أو للنسيان أو للتحريف…
إن انشغال المؤرخ يختلف كلياً عن انشغال الروائي، و رهاناتهما بدورها تمضي في اتجاهات متقابلة دون احتمال متقصَّد للتطابق. فالمؤرخ يضع نصب رصْدِه و ضبطِه الحقائق في عمومها، و الوقائع في ما تَبنَّى عنها من آثار، و القادة فيما حقَّقوه من أمجاد. أما الروائي فـيضع نصب تخـيـيـله الإبـداعي تفاصيل الحـياة في جـزئياتها البـسيطة و العـادية و الأليفة، و الأحداث في تعالقاتها المطردة بالـوجـود الإنساني، و الشخصيات في كينونتها ضعفاً و قوة. في ضوء هذا الاختلاف يغلب على الأنساق الروائية ـ في استدعائها للمادة التاريخية ـ حضورُ الذات الـفـاعلة وجـدانيا و وجوديا و فـكريا و اجتماعيا و لا يراعى في ذلك الحضور رهان “بناء الأسطورة الخاصة” للقادة أو للدول أو للأمم، لأن الذوات الفاعلة في الرواية لا تحمل بالإكراه أدوار القادة و لا تلتبس أزياء البطولة إلا في بعدها الإنساني الوجودي. إن الذات التي تستدرج الرواية إلى تذويت التاريخ ليست الذات الفاعلة من المنظور التـأريخي، و إنما ما عدَّه التاريخ موضوعات مفعولا بها باسم السلطة أو الدولة أو الأمة.

من التسجـيل إلى التخـيـيل:

لا شك أن المادة التاريخية و التخييل السردي لا يتعارضان روائيا، إن تمكن الفعل الإبداعي من التأليف بينها روائيا. فرهان الكتابة في الأصل هو خلق عمل روائي بحيث لا يطمح الروائي إلى الخروج من التخييل إلى التسجيل، و لا يتوخى عبر الكتابة الروائية حملَ لقب المؤرخ. إن الخطاب التسريدي له القدرة الخلَّاقة على استيعاب المادة التاريخية في صلب القصة التي يرويها، دون انفصال بين جسد القصة (أي الخطاب) و بين روح الخطاب (أي القصة). فصلة الخطاب السردي بالقصة صلة وثيقة و مكينة لم تفلح سوى النظرات النقدية البنيوية التي انشغلت بافتراض بنية لنحو السرد على غرار بينة النحو “اللساني”، في تفعيل الفصل بينهما ضمن نطاق التوصيف البنيوي. بينما واقـع التسريد الروائي يكشف أن القـصة إنما تـتـقـدّم عبر ما يـقـتـرحه الـخـطـاب من تأطـيـر و تـركـيب و ترتـيـب و تـكـسيـر و تـوزيع و تقطيع و تبئير و تنظير… مثلما يكشف أن الخطاب لا ينفصل عما يحكيه من قصة، لأن الخـطاب هو الذي يصوغ الحـبكة السردية و يبني المتـتالـيات الحكائية و يـرسـم للأحـداث و الشخصيات و الفضاءات الأبعاد و الدلالات. 

عـبـرة الخـواتـم:

الكتابة الروائية مثل كل كتابة فعل مقاومة ينطلق من الهامش في اتجاه المركز. تتعدد الهوامش و تستقوي المراكز بالسلط المتاحة لها. لكن القضية في العمق الإبداعي هي قضية إنسان يبحث عن السبل الأفضل و الأكثر إنسانية للوجود و للاستمرار و للتغـيير و للعطاء و للخلود.
قد تكون نوايا المؤرخ الرسمي “سليمة” لكنها تؤدي الأدوار الموكولة إليها من داخل المؤسسة التي ترعاها. و لأجل ذلك يحقُّ للرواية أن تقول إبداعيا عبر عوالمها السردية: الـتـاريخ ليس روايـةً واحـدة و وحيدة يحـتـكـرها “المـؤرخ” و تخلِّـدها بانـتـصار “الـدول” و “الأمم”.
____
“الإمارت الثقافية”.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *