*كريم الطيبي
تشكِّلُ القهوةُ ضرورةً وجوديةً في حياتنا اليومية، فلا يُمْكن للإنسان أنْ يمرَّ عليه يوم من دون أن يَرْتَشِفَ من رشفاتِ البن، وقد حازت القهوةُ هذه المكانةَ الرفيعةَ عند العرب والمسلمين، على الرغم من عدم قِدم اختراعها أو اكتشافها لديهم، ذلك أن معرفتَهُمْ بها لم تتجاوز الخمسة قرون بوصفها مادة تُشرب، أما بوصفها مصطلحًا فقد عرفَ العربُ مصطلحَ القهوةِ منذ الجاهلية، بَيْدَ أن المعنى مختلفٌ، إذ إنَّ القهوةَ تعني الخمر، وبالرجوع إلى المعاجمِ اللغوية القديمةِ سنلفي إجماعًا على تأكيد هذا المعنى، فقد جاء في لسانِ العربِ لابن منظور ما يلي:» والقهوةُ الخمرُ، سميت بذلك لأنها تُقْهِي شاربَها عن الطعام أَي تُذْهِبُ بشهوته»، والمعنى نفسه نجده في معجم مقاييس اللغة»: وأمَّا القهوة فالخمر، قالوا: وسمِّيت قهوةً أنَّها تُقْهِي عن الطَّعام»، وغير بعيد من هذه الدلالات يؤكد ابن قتيبة هذا المدلول في مصنفه «أدب الكاتب» في باب «معرفة في الشراب» حيث قال: «والقهوة الخمر، سُمّيت بذلك لأنها تقهي، أي: تذهب بشهوة الطعام، قال الكسائي: يقال: قد أقهى الرجل، إذا قلّ طعمه».
وارتبط هذا المصطلح بالبن بحكم أن القهوة هي الأخرى تقهي المرء وتجعله يقلل من الطعام وتغلق شهيته للأكل. وبالعودة إلى اكتشاف القهوةِ نَجِدُ رواياتٍ مختلفةً تحكي عن مكتشف القهوة، فمن الروايات من ترجع اكتشافَ هذا المشروبِ الفاتنِ إلى رجلٍ إثيوبيٍّ كان يعمل راعيا للغنم ونظرًا لحِنْكَتِهِ في تربيةِ ماشيته لاحظ تغيرها حينما تناولت حبوب البُنَّ، وتعود هذه الرواية إلى القرن 19، وفي رواية أخرى تؤكد أن دولةَ اليمن هي أولُ دولةٍ قامت بزراعة حبوب البن، وهي مَنْ وَزَّعَتْهُ على دول العالم. وفي ما يخص انتشار القهوة، يرى صاحبُ كتاب: «من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي» محمد موفق أرناؤوط، أن الفضلَ في انتشار هذا المشروب يعود للمتصوفة وأصحاب الطريقة، إذ كانت القهوة مؤنسهم في لياليهم الصوفية، ورفيقتهم في رحلاتهم الروحية.
انتشرتِ القهوةُ في جميع البقاع فوق الكرة الأرضية، وأصبحت مشروبا يشربه الجميعُ بعد أن كان حكرًا على طبقة اجتماعية معينة؛ وانتقل من كونه مشروبا عاديا إلى مادة ثرية بالمعاني والرمزيات عند الشعراء، لذلك وُظفت القهوةُ في سياقات متعددة تأخذ أبعادا دلالية عميقة. ويهمنا في هذا المقال أن نرصدَ صورةَ القهوةِ عند الشعراء وخصوصا في تجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، إذ نجد حضورا لافتا للقهوة في شعره، فكيف نظر درويش للقهوة؟ وما رمزية هذا المشروب في شعره؟
إن أول ملاحظة تسترعي الانتباه، هي أن القهوةَ عند محمود درويش طقسٌ يومي به يُبَسْمِلُ الشاعرُ نهارَه، إنها دعاءُ الصباحِ الذي يستقبل به يومه، ونستشف هذا مما ذكره في كتابه: «ذاكرة للنسيان» حيث قال: «والقهوة، لمن أدمنها مثلي، هي مفتاح النهار». ودرويش له قهوةٌ مخصوصةٌ تختلف كل الاختلاف عن قهوات الآخرين، فالقهوة، في تصور الشاعر، هي» أن تصنعها بيدك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق، هو حاملُ الكلام». تحيل هذه الإشاراتُ العميقةُ إلى الطقوسِ التي تُرافق شُرْبَ القهوةِ، فالهدوءُ والسكينةُ والاستمتاعُ بشربِ القهوةِ بعيدا عن ضجيجِ المكان، وصراخ الكون هو خَصِيصَةٌ طبعتْ القهوةَ الدرويشية، يقول:» القهوة الأولى يفسدها الكلام لأنها عذراء الصباح الصامت». هكذا تقوم هذه الصورة على عنصر المماثلة بحيث تصير القهوة مثل الفتاة العذراء التي يفسدها الصمت مثلما تُفض بكارة العذراء، ولعل هذه الصورة قمينة بأن تجعل المتلقي يتمثّل ذهنيا عدم مناسبة الكلام للقهوة، فالقهوة حساسة جدا مثل غشاء البكارة الذي قد يتمزق بفعل حركة بسيطة كذلك القهوة، يقول شاعرُ الأرضِ المحتلةِ: «الفجر، أعني فجري نقيض الكلام، ورائحة القهوة تتشرب الأصوات، ولو كانت تحيةً رقيقةً مثل (صباح الخير) تفسد».
إن شرب القهوة في جو هادئ، يتحول إلى مطلب اجتماعيٍّ يتمَنّاهُ الشاعرُ، نظرا لتعلّقه بهذا المشروب الذي يأسره ويلهمه: «أريد خمس دقائق، أريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة، لم يعد لي مطلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة». وينتقل شَغَفُ الشاعرُ وحبُّه للقهوة إلى إحدى لوازمها وهي الرائحة، ويمكن الوقوف على عشقِ درويش لرائحة القهوة من خلال مقاطعَ متعددةٍ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «أريد رائحة القهوة/لا أريد غيرَ رائحةِ القهوة/ ولا أريد من الأيام كلها غيرَ رائحةِ القهوة».
ويقول أيضا: «رائحةُ القهوةِ لأتماسَكَ، رائحة القهوة لأقف على قدميَّ، لأتحولَ من زاحِفٍ إلى كائن، لأوقف حصتي من هذا الفجر على قدميها، لنمضي معا أنا وهذا النهار إلى الشارع بحثا عن مكان آخر». يتبدى لنا أن رائحةَ القهوةِ هي الهواءُ الذي يتنفسُّه الشاعر، إنها المادةُ الروحيةُ التي تبعثُ في نفسه الشعورَ بالتماسكِ بعد أن مزقت الحياة أوصالَه، وهي المشروب الذي يعيد الأمل في الأفق ويجعل الشاعر يقف على قدميه مجددا ليواصل رحلة المشي في الوجود رغم تمزقه النفسي وتشظيه الوجودي.
لا تقف القهوة من منظور محمود درويش فيما ذكرنا فقط، بل تتعدى إلى ما هو أبعد مسافة، وأعمق تصورا، فالشاعر تثير فيه القهوة نشوة التساؤلات، وتنبت فيه الذكريات، فهي تذكره بماضيه، وبأصوله وهويته، يقول الباحث فهد ناصر عاشور في دراسته: التكرار في شعر محمود درويش: «القهوة ورائحتها تذكرانه بأمه وأرضه ووطنه». وقد أكد درويشُ نفسُهُ هذا في أبياتٍ شعريةٍ عميقةِ الدلالةِ منثورة في قصيدته المتميزة «سرحان يشرب القهوة بالكافيتيريا» حيث قال:«رائحةُ البنِّ جغرافيا/ ورائحة البن يَدْ/ ورائحة البن صوت ينادي…» هكذا تقترن رائحة القهوة في ذاكرة الشاعر بالأرض التي ولد وترعرع فيها وناضل من أجلها، إنها دال يذكر الشاعر بكل اللحظات العابرة وتجعلها منقوشة في ذاكرته. إن القهوة، بناء على ما سبق، دواء الشاعر المريض بداء الغربة والاغتراب، فالشاعر وهو بعيد عن موطنه فلسطين يتذكر بالقهوة ورائحتها هويته وأمه وموطنه واللحظات المعيشة لحظةً لحظةً.
وتجدر الإشارة إلى أن القهوة ارتبطت عند محمود درويش بالعزلة والوحدة، ولا شك أن هذه المعاني تتواشج مع صفاتٍ نفسية أخرى تسببت فيها الاضطرابات الوجودية التي رافقت حياة الشاعر، فالمتأمل في دواوين الشاعر يلفي طغيان ثيمات الاغتراب والحزن والتشظي والحنين والبؤس والقهــــر، إن نفسَ الشاعرِ بئرٌ عميقةٌ من الأحاسيس الممزوجة باليأس والتذمر والضياع، الأمر الذي جعله يُؤْثِرُ العزلةَ، وتتمظهر هذه الثيمة بشكل جلي في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها: «وحين أعود للبيت/ وحيدا فارغا، إلا من الوحدة/ يداي بغير أمتعة، وقلبي دونما وردة/ فقد وزعت ورداتي…» إلى أن يقول:»وحيدًا أصنع القهوة/ وحيدًا أشرب القهوة» نستشف من هذا الملفوظ مدى تعالق القهوة بالوحدة، بحيث يغدو البن رفيقَ الشاعرِ في محنته الوجودية ووحدته الروحية.
مما سبق يمكن القول إن القهوة أخذتْ أبعادًا وجوديةً ارتبطت بكينونة محمود درويش، فقد تجاوزت صورة القهوة في شعره النظرةَ السطحيةَ الروتينيةَ التي يشعر بها الإنسان العادي، لقد أصبحت طقسا يوميا يعيشه الشاعر في نظام دقيق، وعادة إيجابية يمارسها مع بزوغ الفجر. والقهوة إضافة إلى كل هذا هي «آخر» كان الشاعر يبادله مشاعره ومحبته وكيانه، وبها عوّض الفراغ العاطفي الذي نَخَرَ نفسيتَهُ الممزقةَ والمتشظية.
________
*القدس العربي
مرتبط
إقرأ أيضاً
القهوةُ كعملٍ منزلي للوحدة*وداد نبيأصنعُ القهوة أكثر عمل منزلي أجيدهُ كربةِ منزلأصغي لرائحةِ المرارة وهي تغليكما تشبهُ تلك المرارة…
«مراثي» محمود درويش*عبده وازنتستحق مراثي محمود درويش التي عكف على كتابتها، نثراً وشعراً، طوال أعوام، أن تُجمع…
-