السارد المتخفّي

*د.حاتم الصكَر

يبدو أن الأجناس والأنواع الأدبية لا تكف عن التحول والتغير. تلك حقيقة يثبتها استقصاء مفردات تلك الأنواع ونصوصها. وهي كالأحياء ينالها التطور والتبدل والتكيف. لاسيما في عصر صعود مفاهيم – ومناهج – ما بعد الحداثة، واقترابها من النزعة الشعبوية، وتمركز الأنا في الملفوظ الأدبي، والنظر للأدب كنتاج خاص، لكونه ترميزاً للحياة ومعادلاً موضوعياً لأشيائها التي تتناولها الآداب والفنون.

بصدد كتابة السيرة الذاتية التي يجري الحديث دوماً عن موانعها ومحدداتها، نجد عبر تتبع تاريخ الأدب ونظرياته النقدية أن السيرة الذاتية نالها التوسع والتمدد النوعي بفعل تغيرات مفاهيم ما بعد الحداثة، فجرى لها ما جرى للرسم مثلاً حين خرج من اللوحة والمرسم والمتحف ليكون فن الشارع والفضاء الطلق، وما جرى للموسيقى التي اندمجت فيها الاتجاهات والتيارات، وشاع العزف العفوي والمرتجل. وما جرى للمسرح من تجريد مكاني وزماني، وتغريب وانتقال بفضائه صوب الساحات والأمكنة المفتوحة، وعودة للارتجال والتماهي مع المتلقي في العمل، واستخدام الخلفيات الصورية والسينوغرافيا خلال العرض.

تحولات السيرة

يوصلنا تعقب التوسع في كتابة السيرة الذاتية إلى تشخيص تحوّلين واضحين: الأول خارجي يتعلق بشعريتها وشروط كتابتها ومؤهلات كتّابها. فيعلن كاتب مثل فيليب لوجون – يعد من أبرز منظري كتابة السيرة الذاتية وأكثرهم اهتماما بها – أن كتابة السيرة الذاتية صارت في متناول الجميع، فيحق حتى لطلبة المدارس أن يدونوا يومياتهم وينتجوا سيراً ذاتية. ولم يعد كاتب السيرة الذاتية خاضعاً لشرط الشهرة في حقل تخصصه أو بقدر إضافته لما يمارس من تخصص. وانتفى بالضرورة الشرط الأخلاقي أو التربوي للسيرة الذاتية على مستوى القراءة. وهو في الحقيقة مغزى السيرة الذاتية أو هدفها، وأعني ما نص عليه النقاد القدامى حول مساهمة السيرة الذاتية في تربية القراء ومنحهم أملاً ووعياً نتيجة ما يقرأون من سير المشاهير.

هكذا ظهرت سير ذاتية لمنبوذين ومهمشين وخارجين على القانون والمجتمع أحياناً، وصارت المصارحة مقبولة بين القارئ وكاتب السيرة، فيمكن مثلاً قراءة اعترافات جان جاك روسو على هذا الأساس، وعربياً – وبشكل نادر وقليل – كما في الخبز الحافي لمحمد شكري. وهذا ما حصل في السيرة الغيرية أيضاً، حين أخذ الكتّاب يترجمون لحياة أناس عاديين أو لمشاهير في حياتهم خلل أو مروق، كما فعل سارتر في تسمية جان جينيه بالقديس في كتاب عنه رداً على سجن جينيه لأسباب أخلاقية.

والتحول الثاني داخلي يتعلق بصلة السيرة الذاتية بالأنواع الأخرى في الجنس الأدبي أو سواه، فقد تغير الكثير من شروط كتابة السيرة الذاتية كما أرادها الرواد الأوائل من نقادها والمهتمين بها. فضمير السارد في السيرة لم يعد حصراً على المتكلم (الأنا)، بل توسع ليشمل السارد السيري بأي ضمير كان: للمتكلم أو الغائب، فيكون الكاتب سارداً خارجياً عليماً بالأحداث التي يسردها، أو راوياً ضمنيا – داخلياً – مشاركاً في الأحداث ومحدود العلم إلا بما يشارك في فعله. ولكي يأخذ الكاتب مهمة الكائن السيري سيتم الانتقال – كما سنرى – إلى الكتابة بضمير الغائب والراوي العليم للإحاطة بالأحداث والوقائع، وترميم نقصها وملء فراغاتها بسبب ما تهمله الذاكرة أو تتناساه أو تنساه أو ترغب في تحويره وتجميله وسوى ذلك من عوائق وجود سيرة ذاتية متكاملة تفلت من رقابة الذات التي تخفي عفوياً أو قصداً عيوبها وإخفاقاتها، أو تستجيب لرقابة المجتمع وأعرافه، وما يضعه للشخصية من أبعاد ومؤهلات تنقضها اعترافات السيرة أو كشوفها الصريحة والصادقة.

لقد كان النقاد يعدّون «الأيام» لطه حسين خروجاً على شرط الضمير السارد «أنا» لكونه يتحدث عن غائب يسميه الفتى، ويشير له بالضمير (هو). وكنت في كتاب لي عن السيرة الذاتية اعتبرت سرد الأيام بضمير الغائب هروباً من التبعات التي تفرضها الكتابة بضمير المتكلم وعائدية الأحداث على كاتبها، لا سيما وأن طه حسين لا يفصّل كثيراً في مفردات سيرته ويتوقف عن تكملتها. ولكنني بعد مراجعة (الأيام) في قراءة استعادية وجدت مبرراً له في تجنب السرد الذاتي المباشر، فهو يخضع لمهيمنة السرد أي استعادة ماضٍ انقضى وانتهى زمنياً بتعبير النحويين، وعملية استعادته تتطلب التمثل وتعقب الدلالات والإشارات نظرا لغياب الوعي بها في حينها. لا التقمص التام والتماهي. فالفترة التي يسترجعها كتاب (الأيام) لا يمكن سردها إلا بالإطلال عليها من بعيد، ومحاولة تجميع الكِسَر والمفردات الممكنة لصنع الصورة، وسيقوم ضمير الغائب بتحقيق ذلك، لأنه يباعد بين الواقعة وساردها. إن رواية السيرة الذاتية بضمير المتكلم الدال على العائدية، سيجعل ((التبئير على بطل السيرة شيئاً مفروضاً في الشكل السير ذاتي)) بتعبير جيرار جينيت الذي يرى أن السارد السير– ذاتي غير ملزم بأي تحفظ بإزاء ذاته، والتحدث باسمه الخاص، بسبب تطابق السارد مع البطل، لكن جينيت يثير المشكلة من زاوية (وجهة النظر) حيث إن التبئير الوحيد من وجهة نظر السارد – البطل، يتحدد بالعلاقة مع معلوماته الحالية كسارد، وليس بالعلاقة مع معلوماته الماضية كبطل، أي أن اتجاه السرد لا يبدأ بشكل خطي، كما هو في الحياة التي عاشها في (الماضي)، بل الحياة التي يرويها (الآن) كجزء من ماضيه.

عند التدقيق في موضع المتلفظ المحدد بضمير المتكلم ثلاثة أنواع من الأنا تندرج في المتن السير- ذاتي هي:

– أنا المؤلف الحقيقي أو الكاتب المعلن بأنه صاحب التلفظ المندرج في المتن.

– أنا السارد المتموضع في متن السيرة الذاتية، لكونها سرداً ذاتياً.

– أنا الكائن السيري الذي سوف يتعين بأبعاد محددة نسبة إلى الأفعال والوصف والمحددات السردية داخل العمل نفسه.

تلك الأنوات التي يختلط فيها النحوي بالكتابي والسردي تدعو إلى السؤال عن إمكان التطابق بين المؤلف والشخصية والسارد، أو عبارة (أنا الموقع أدناه) كما يلخص فيليب لوجون. ولكنها كمحصلة تتيح التحرر من قيد العائدية أو التطابق بين المؤلف وملفوظه، وما يتبعه من استحقاقات في عملية التلقي وإنجاز فعل القراءة.

تحرير الزمن

على مستوى زمن السيرة الذاتية جرى تبدل مهم بتأثير السينما والرواية، فقد تخلى كتاب السيرة عن المجرى الخطّي للأحداث، أي بدايتها بالطفولة وتعاقب السرد على وفق المراحل العمرية اللاحقة. وبدلاً من ذلك التعاقب التقليدي أخذ الكتّاب يتنقلون عبر الزمن ليربطوا الأحداث والوقائع ببعضها من دون اشتراطات زمنية، ويتم ذلك بالتداعي الحر كتقنية سردية تتيح الانتقال من زمن لآخر لا يليه مباشرة بالضرورة، واسترجاع حدثٍ ما بدلالةٍ أوإشارةٍ يتيحها حدثٌ بعيد عنه زمنياً من دون تفكك بنية الملفوظ السيري. وسيوفر ذلك لكاتب السيرة فرصة النجاة من مأزق الوعي المسقَط على الحدث. وأعني بذلك المأزق ما نراه في بعض السيَر من استباق يجري بسببه إسقاط وعي الحاضر، وما تعتقده الشخصية في بُعدها الثقافي والاجتماعي المعاصر على فترات تسبقها، ومحاولة تجميل تلك الفترات لتلائم حاضر الشخصية ولا تنتقص من نجاحها أومكانتها الآنية. وربما يمس الحذف والتعديل الحالة الاجتماعية والمواقف الفكرية للكائن السيري التي لا يراها ملائمة لما يريد لنفسه في زمن الكتابة.

يتحصل عند فحص الزمن في السيرة الذاتية أنه ثلاثي الأبعاد: فثمة زمن ماضٍ مستعاد هو زمن الحدث، وزمن حاضر هو زمن الكتابة، وزمن غير متعين يحدده وعي القارئ أثناء إنجاز فعل القراءة.

قصيدة السيرة

في ترجمة حديثة قام بها الشاعر المغربي عبد اللطيف الوراري لمقال كتبه فيليب لوجون عن الأنثروبولوجي والشاعر ميشيل ليريس- مقتبساً من تقديم ليريس لديوانه «الفهرس حيث أضع أخطائي اللغوية» يشرح فيه ما يشبه الوصفة اللغوية من وجهة نظر سوريالية لكتابة سيرة شعرية، عبر اللعب الحر بالكلمات وإهمال الدلالة المسَلّم بها ((وهكذا، تتحوّلُ اللغة إلى وسيط..، ويكون بحوزتنا ــ إذا ما اقتضى الأمر ذلك ــ خيْطٌ لكي يرشدنا داخل بابل روحنا)).

ذلك الخيط في مقولة ليريس تصنعه الكلمات وتتآزر كتابة السيرة وعملية قراءتها لاكتشافه، وتتبع مسيرته داخل مغلقات وألغاز أرواحنا التي يهدف القارئ أن يتعرف إلى أسرارها. هكذا تقتضي لعبة العقد السيري غير الموقّع بين كاتب السيرة وقارئه، ويحتّمه ميثاق القراءة بينهما. لكن الشعر يتيح التخفي والتحوير أكثر من النثر. سقوف الخيال وفضاء الصورة ومجازات اللغة تساعد في عملية الإخفاء تلك وتتجاوز متطلبات التراتب الزمني والتدرج المرحلي أوالعُمري في سرد نص السيرة الشعري.

إن قصيدة السيرة هي أكثر تجليات الصلة بين الشعر والسرد وانفتاح الأجناس الأدبية على بعضها. ويمكننا عربياً التمثيل بذلك لنصوص وأعمال قدمها شعراء مثل أدونيس في (هذا هو اسمي) ومحمود درويش في (لماذا تركت الحصان وحيدا). وبالعودة إلى فيليب لوجون ومقالته عن ليريس نجده يخالف وصف ليريس لكتابته بأنه يقيم ((بين الشعر والسيرة الذاتية علاقة تتابع، الواحد تلو الآخر، وتعارض. إنما العكس، فقد صهر الشعر والسيرة الذاتية في الفعل نفسه… يتمثل مبدأ هذه السيرة الذاتية الجديدة في إعادة وضع الحكي والحِجاج في مرتبة ثانوية، واتخاذ تداعيات الأفكار والكلمات مُحرِّكًا رئيسيًّا..)) وهذا يعني أن العلاقة داخل قصيدة السيرة انصهارية بين مكونات الشعر وعناصر السرد، ولكن عبر تداعيات حرة ينجزها النظم الشعري تكون اللغة والأفكار محرّكه الأساسي.

ثمة مداخل ومقتربات أخرى يمكن العودة إليها في قراءات لاحقة لرؤية التنويعات الممكنة في كتابة السير ذاتية، كالسيرة الثقافية، وسيرة الرحلة والمدن، والتجارب الشخصية، كالمرض وموت المقربين والحب والحرب وسواها من الممكنات التي تستدعيها كتابة السيرة الذاتية، لكونها كشفاً داخل الروح الملتبسة بما حولها، والمتأملة في أعماقها وجوهرها الغامض العميق.

سيرة الأب الروحي

يعتبر فيليب لوجون الأب الروحي لفن السيرة الذاتية الأدبية، وهو ناقد فرنسي بارز له اهتمام خاص بدراسة السيرة الذاتية. وضع مفهوم «ميثاق السير ذاتي».

وهو يعرف السيرة الذاتية في كتابه الشهير «أدب السيرة الذاتية في فرنسا» بأنها «المحكي الاسترجاعي النثري الذي يقوم به شخص واقعي لوجوده الخاص، عندما يركّز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة».

أما كتابه «الميثاق السير ذاتي» فمثل الانطلاقة العالمية لمشروعه النقدي حيث لفت اليه الأنظار منظّرا وناقدا مختصا في دراسة الأدب الشخصي، على الرغم مما يعانيه هذا النوع من الكتابة من التهميش. وليس من قبيل المبالغة القول إنه تكرس واكتسب مشروعيته بفضل لوجون الذي عكف عليه، منظراً ودارساً وباحثاً في جمالياته وفنونه.

وعلاوة على كتابيه السابقين له: الأنا هو آخر، أنا أيضا، ممارسة اليوميات الشخصية، كراستي العزيزة، الذاكرة المفقودة، مسودات الذات، أنا الآنسات، من أجل السيرة الذاتية، شاشتي العزيزة، علامة حياة، اليوميات الخاصة وغيرها.
________

*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *