الشعر.. جواب الأسئلة الكونية


*محمد الأسعد


تنوعُ التجارب الشعرية الهائل، والعصي على العدّ، قد يتوقف عنده سائلٌ ويسأل عما إذا كانت هناك وحدة من نوع ما تجعل الشعر شعراً، وتمنحنا ميزاناً نزن به هذه التجربة أوتلك. هذا السؤال هو الأشهر، إلّا أن الجواب عليه أشد إبهاماً مما نتصور للوهلة الأولى، فما الذي يجمع بين شعر يحتفي بالحياة مثل الشعر الياباني في أصفى نماذجه، قصيدة الهايكو عند ماتسو باشو مثلاً، وشعر يمجد القتل ويزهو بالرؤوس المقطوعة مثل شعر العربي المتنبي، وشعر يتأمل في سر الوجود مثل شعر ريلكة الألماني، وشعر ينتقد الحضارة المعاصرة ويصفها بالعقم والموات مثل شعر الإنكليزي ت.س. إليوت، وشعر يحتفل بحياة النسك الروحية مثل شعر الهندي طاغور، وشعر مكرس للطرب وأهله وإشغال الناس عما هم فيه وعليه مثل شعر العربي علي محمود طه والكثرة الكاثرة ممن تابعوه، وشعر يتظاهر ويغضب مع متظاهرين غاضبين وينفض مع انفضاضهم؟
هذه أمثلة كلاسيكية أذكرها متعمداً؛ لأن «أوراق» الشعر المعاصر في مختلف حدائق القارات لا تتخارج عن هذه الجذوع التي نمت عليها. ولأن السؤال جوهري كما هو كل سؤال وجودي، لا أجد سبيلاً إلى جواب عليه، أو أجوبة إن شئتم، في العودة إلى ما قيل هنا وهناك، وفي هذه اللغة أو تلك، بل في تجارب مررتُ بها، ووجدتُ أنها الأجدر بالانتباه؛ لأنها قراءة في الملموس وليس تهويماً وراء مفاهيم نظرية ورغبات في الدفاع عن هذا الموقف أو ذاك. 
التجربة الأولى كانت حين سألتني ذات يوم الشاعرة الفنلندية بريجيتا بوكت: «ما معنى الحياة في نظرك؟». جاء السؤال بلهجة طالبة مرتبكة وراء نظارتها الطبية، وأوراقها التي لا تعرف أين تضعها؛ ولم أتعجل الإجابة. كان السؤال قطعاً لثرثرة ومفاجأة حولت فضاء الجالسين معنا إلى صمت يترقب. وأمام الأنظار التي اتجهت إليّ لم أطل التفكير. بدا لي السؤال، وإن كان فلسفياً خالصاً، بديهياً يشبه سؤال المرء عن اسمه أو مهنته أو جنسيته. وفي لحظات خاطفة انتقل بي الخيال إلى طاولة أخرى، وإلى مكان آخر ذات صيف من أصياف روما. كنت أيضاً برفقة مماثلة من جنسيات وألسنة مختلفة حول مائدة حافلة، وارتفع فوق الضجيج سؤال همست به ستيلا الإيطالية «ما معنى الحياة في نظرك؟». 
السؤال نفسه، يبحث عن جواب لدى شاعر. فماذا قلت؟ أو لماذا قلتُ ما قلته آنذاك؟ كانت المائدة حقيقة مجسدة وصلبة، ولم يكن هناك كتاب لأتصفحه. كان الاحتفال ومجموعة من البشر. وها أنا أعيد الجواب نفسه وأقول لبريجيتا بوكت: «هذه الحياة احتفالٌ، وتمتمة بالوداع.. إلى الملتقى في الزمان حيث لا مكان، وحيث تكتسب كلمة الوداع معناها مما كان وليس مما سيأتي؛ لأن ما سيأتي أبدٌ من الفراق».
وتساءلت بريجيتا: «أليس عجيباً هذا الجواب نوعاً ما؟» 
قلتُ: «لا بالطبع، إنه الجواب الأكثر ملاءمة عن سؤال يتجاوز وجودي الفردي، وهذا المكان المنعزل، وهذه الجماعة البشرية. أمام مثل هذا السؤال العميق لا يمكن إلّا أن أتساءل عمن يسأل حقيقة؛ هو ليس أنتِ بل صوت الزمن، الزمن الإنساني منذ أن تكوّن الكونُ وكانت الحياة. هو ليس سؤالاً خاصاً بكِ أو بي، بل هو سؤال الكائن. وحتى يجيء الجواب استجابة للإنساني، لكل فرد عاش ويعيش وسيعيش، من الضروري أن يكون جواباً معنياً بالشمول. إنه يجيب عن سؤال دار مع دورة ملايين الشموس، ومع كل نفس تردّد على هذه الأرض».
وأجدني أضيف الآن وأقول، جواب الشعر لا يتعلق بأسئلة خاصة جداً إلّا إذا انحرفنا بمعنى الشعر والشعرية، بل بأكثر الأسئلة عمقاً وشمولاً. ولعلني حين فكرتُ بالإجابة مرّ في ذهني هذا المعنى، فحسبتُ حساباً لتعدد الألسنة المحيطة بي آنذاك، وتعدّد المشاغل والاهتمامات والثقافات، ولعلني فكرتُ بأعماق التاريخ الماضي والحاضر والقادم وملايين المصائر التي تنتظر جوابي، فوجدتُ نفسي ملزماً بتقديم جوابٍ يدفع به هذا المدى الكوني من البشر والمصائر.
كان بإمكاني تقديم جواب مختلف، جواب خاص بوضعيتي الراهنة، بما أريده وأطمحُ إليه، بوصفي وجوداً خاصاً محدداً بتاريخه ومعضلاته، أو همومه كما يقال عادة، كأن أقول؛ معنى الحياة بالنسبة لي هو العودة إلى الوطن، أو التغيير، أو التمرد.. وما إلى ذلك. وكان بإمكاني أن أقدّم جواباً يستجيب لنوازع ورغبات مجموعة بشرية دون أخرى، كأن تكون طبقة من الطبقات، أو طائفة من الطوائف. وكان بالإمكان الاستجابة لعدد كبير من الأوضاع الجزئية، ولكن الشعر لا يقع هنا، وبخاصة الشعر العظيم، إنه يتجاوز الجزئيات إلى الكلي حتى وهو يحتضنها، ويتجاوز اللحظة الراهنة إلى جماع الزمان والمكان، وما فوقهما، أي الأبد. 
صحيح أن بإمكان الشعر أن يكون جواباً جزئياً عن حالة جزئية، كما هو معظم الشعر الشائع في اللغات العربية والأجنبية على حد سواء، ولكن حين نفكر بالشعر لا نفكر بهذه التجارب التي تقع بين أيدينا مصادفة أو اتفاقاً أو بفعل المجاهدة، بل نفكر بقدرة خلاقة تجتذبنا لدى عدد متميز من الشعراء في مختلف العصور والأمكنة. ولو لم يكن الشعرُ جواباً على حظ كبير من الشمول والكونية لما اجتذبنا شعر شاعر عاش قبل بضعة آلاف من السنين، ولما وجدنا فيه صدى لأشواقنا العميقة.
هاهنا سرٌ جديرٌ بالتأمل؛ فما الذي يجعلني، أنا الإنسان الذي عاش في القرن العشرين، والداخل تدريجياً في القرن الحادي والعشرين، أنجذب نحو أجوبة قيلت في عصور وأمكنة مختلفة، ربما تكون عصوراً سحيقة وأمكنة لم أعرفها، أي في أوضاع لا تعلق صريحاً لها بوضعيتي التاريخية؟. 
الجواب البسيط، الجواب الوجودي، الذي اكتشفته بفعل هاتين المحادثتين القصيرتين المتباعدتين مكاناً وزماناً، هو أن هذه الأجوبة ومثيلاتها، والتي لا تتعلق بوضعيتي التاريخية الزائلة حتماً ما أن أزول، إنما تتعلق بوضعيتي التي تتجاوز التاريخ، بوضعيتي ككينونة غير معطاة في هذا الكون بعد. وفي هذا معنى كبير يصلح أن يكون مقياساً نقدياً على حظ كبير من الدلالة، كأن يقاس عمق الصورة الشعرية، والشعر في جوهره صور، بمدى كونها جواباً عن الكوني لا الجزئي، عن الإنساني العام لا الخاص. 
وأستطرد هنا من الجواب الشعري إلى الجواب الثقافي، فالشعر عنصرٌ من عناصر ثقافة وليس مجرد نبع منعزل. إننا نكتشف صلته بثقافة من الثقافات في ميوله واتجاهاته العامة، وفي المدى الذي يجيب عنه أو يردّد صداه. إنه هنا يردّ على أسئلة، ولكن أي نوع من الأسئلة؟ إنها الأسئلة التي يطرحها عمق الشخصية الشاعرة الثقافي. ولنا في مبدأ المعلمين الأوائل، عرباً وهنوداً وصينيين ويابانيين.. إلخ، أمثولة توقظنا على ما غاب عنا. 
من مبادئ التعلم الأولى، أن الإنسان يستوعب ثقافته الخاصة في البداية، أي موروثه الخاص بمعاييره وقيمه، فيعيد تملكه في لحظة زمنية معينة، ولكن هذه البداية لا تكفي لتجعل من هذا الإنسان «معلماً» بالمعنى الإنساني. هو قد يصبح معلم قرية أو منطقة صغيرة، ولكن ليس «معلماً» للجنس البشري. ولكي يصير كذلك لابد له من الرحلة، وهذا هو مبدأ التعلم الثاني؛ الرحلة التي يتجاوز فيها الإنسان شرط ثقافته الخاصة إلى الثقافات الإنسانية. وفي مثل هذه الرحلة سيجد المتعلم أسئلة من نوع آخر، وسيحاول إيجاد أو ابتكار أجوبة من نوع آخر لم تعتد عليه ذاكرته. وسيجد نفسه في قلب صراع بين معاييره المكتسبة وضرورة معايير جديدة تتخلق في مناخ التعدد الثقافي.
لن يعود المتعلم هنا معنياً بالإجابة عن أسئلة عرق معين أو قومية معينة أو معتقد معين، بل سيصير معنياً بالإجابة عن أسئلة الأعراق والقوميات والمعتقدات كلها. إنه ينتمي إلى كل الجنس البشري عند هذا المستوى، أي سيصير كونياً. 
وهنا موقع الشعر العظيم وهواجسه وملحوظاته واتجاهاته، وهنا تتنوع صوره كما تتنوع صور الفن التشكيلي ومدارسه، بكل ما يحمله هذا من غرابة غير معتادة أحياناً وشذوذٍ عن المألوف. فإذا كانت منابع الشاعر لدى ت.س. إليوت مثلا هي جماع تجربة الموروث الخاص بأمة من الأمم، أو مجموعة أمم تضمها قارة مثل أوروبا، فهو هنا على خطى كبار «معلمي» حضاراتنا الشرقية جماع الموروث الخاص بالجنس البشري.
وأخيراً نجيء إلى السؤال: «هل الشعر جوابٌ يتجاوز التاريخ؟» 
إذا كنا نعني بالتاريخ هذه الشروط الضيقة للمكان والزمان، يكون جوابنا بالإيجاب؛ نعم إنه يتجاوز التاريخ. ربما هو تجاوز لصالح تاريخ متخيل أكثر صفاءً ونقاءً، يشعر فيه الشاعر أنه مسؤول عن مصاير الماضين وهواجسهم، كما أنه مسؤول عن مصاير الراهنين وهواجسهم بالطبع، وعن مصاير القادمين وهواجسهم، فماذا لو وقف الجنس البشري بماضيه وحاضره ومستقبله على صعيد واحد وطالب الشاعر أن يجيب عن أسئلته؟ أليست هذه هي مسؤولية الشاعر التي يلخصها القول، إن الشعر جواب عن أسئلة كونية؟
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *