عندما تحكي القصيدة عن حياتها


ترجمة: عبد اللطيف الوراري


«يتحلق الناس حول الشعر ليخبرهم بقصّته ويطلعهم على الاعترافات»
هل لنا أن نقترب بشكل أفضل من سرّ القصيدة إذا كان الشاعر يقولها في طور التكوُّن، وإذا كان يكتب السيرة الذاتية من وحي إلهامه، أو من وحي عمله؟
إنّ هذا هو حلم بعض القرّاء: تلقي المسارّات، اقتحام ورشة الفنّان – كما لو أنّه لم يكن في نفوسهم، أي القراء، أنّه خيمياء يتمّ من تلقاء نفسه، كما لو كان الشعر يمكن أن يُفسّر بالظروف أو يُفكّك في سلسلة من الأحداث أو الوصفات، وكما لو كان المزيد من الكلمات يمكن أن يعطي جوابًا عن كلمات القصيدة… إنّه بمثابة هديّة أتاحها بعض الشعراء لقرائهم. 
وقد نشر لامارتين، بعد عام 1848، طبعة لأشعاره في عدّة أجزاء «مع تعليقات». «يودّ الإنسان أن يرتقي إلى مصدره»، كما كتب في المقدمة. وهذا هو برنامجه: «انظروا كيف ولدت مع قطعة ما يُسمّى بالشعر داخل طبيعتي، وكيف أنّ هذه القطعة من النار الإلهية قد اتّقدت في نفسي بغير علْمٍ منّي، وألقت بعض الضوء الهارب على شبابي، وتبخرت في وقت لاحق في الرياح العاتية من اعتدالي وفي دخان حياتي». ويعقب ذلك حكْيٌ في عشرين صفحة: مشاعر الطفولة، قراءات، كتابات أولى، اتصالات حميمية في بادئ الأمر، ثُمّ النجاح… وبعد ذلك تتوالى القصائد، وكل قصيدة تليها إفادة تفسر ظروف تأليفها. قصيدة «الغدير»، هو وادٍ صغير يجري في دوفيني. قصيدة «الخلود»، أبيات شعرية مُوجّهة إلى امرأة شابة مريضة. بالنسبة لقصيدة «البحيرة»، انظروا رفائيل (الرواية السيرذاتية المنشورة في عام 1849 التي تصوغ هذه الواقعة الغرامية روائيًّا وبكيفية أخرى). تتفتّت هذه القصائد، تِباعًا، إلى طُرَف. ويصير لامارتين هدّامُها السيري الخاص. وثمّة قصائد في حدِّ ذاتها لا تقول شيئًا. والمنهج غير مدينٍ بأن يكون جيّدًا. فهذا ليس تاريخ الشاعر الذي يجب أن يصنع، وإنّما تاريخ القصيدة. وهذا إدغار ألان بُّو. ربما تعرفون قصيدته التراجيدية، الغراب (1845): الشابّ الذي فقد محبوبته يرى الغراب يدخل عليه مساءً، ويستقرّ فوق باب بيته، فيجيبه بهذه الكلمة الوحيدة على جميع ما يُقال له: «Nevermore» («هيهات»). وفي 1846، بعد عام من ذلك، ينشر بُّو مقالة يكشف فيها كيف كتب هذا النص. ويبدأ بالاستهزاء من أسطورة الإلهام التي يخفي خلفها الشعراء أعمالهم الشاقة ومحاولاتهم المتعثرة وتردُّداتهم. وهو، نفسه، يقول بأنّه يعرف ما يفعل ولا شيء طارئًا عنده: «إنّ عزمي يكون بالبرهنة على أنّ أي نقطة في التأليف لا يمكن أن تُعزى إلى المصادفة أو إلى الحدس، وأنّ العمل سائر، تدريجيًّا، نحو حلِّه مع إتقان المشكل الرياضي ومنطقه الصارم». 
وهكذا يُطلعنا على الحكي السيرذاتي لعمله، وأوّل ما اختاره هو الأثر قيد إنتاجه، مُسْتنبطًا منه الوضعية والشخصيات والإطار، بل كذلك الكلمة التي تخدم اللازمة، والإيقاع المتبنّى (البيت التفعيلي)، ثُمّ شرع بترتيب النهاية، ليؤلّف بعد ذلك القصيدة عكسيًّا في تناقص لارتفاع الصوت بالتدريج، وهو ما يرسل للقارئ معنى معكوسًا يتمثّل في التصعيد الأخاذ والتشويق والارتقاء بقوّة، على نحو هيتشكوكي!
يقوم بُّو بتفسير رائع للنصّ، يعرض مبادئه في «فلسفة التأليف» لصالح الحكي السيرذاتي الذي لا يمكن أن يُؤْخذ بمحمل الجدّ إلا من الوسط، بيد أنّهُ حكي ساحر. وأنا أعيد قراءته، أخذت أحلم: لماذا لا أكتب، في مكان لامارتين، البرهنة الرياضية بالطريقة التي كتب بها قصيدة «البحيرة»؟ لأنّي أشاهد عن كثب «ميكانيك» تشظيّاته وأصدائه وانعكاساته، إيقاعاته وتجانساته، المضبوطة بالميليمتر تقريبًا. لا، إنّه لا تكفي جولةٌ بالقارب مع المدام شارل، المُسمّاة أولفيرا، فإنّ ثمّة – لو أيقنتم- ساعات وساعات من العمل في الورشة.
يذهب إدغار بو أبعد، ونحن قلّما فكرنا في ذلك. ولكن هناك شَيْئًا من الصّحة في هذا الخطاب الذي يُذكّر بأنّ الشعر صنعة، وأنّ لعمل الشاعر تاريخًا، وأنّ كل هذا يمكن أن يُحْكى، حتى لو كان الحكي الذي نقوم به لا يستنفد معنى ما أبدعناه، وقلّ أن يستبدله. 
وتحت هذا العنوان «تكوُّن القصيدة»، ترجم بودلير نصّ بو. وتحت هذا العنوان «مقاطع من مذكّرات القصيدة»، أعطى بول فاليري سلسلةً من التأمُّلات حول عمله الشعري. نذكر من ذلك: «دائمًا ما صنعت أبياتي وأنا مُراقبٌ لما أصنعه»، أو: «أعترف أكثر من مرة أن العمل يَهمُّني بشكل لا نهائي بقدر ما يهمّني منتوج العمل». يُقيّد ملاحظات في دفاتره، لكن لا يرعى نسق يوميات إبداعه. ويستحضر اللحظات المحدِّدة لكتابته «بارك الشابة» و»المقبرة البحرية»، لكن من دون أن يصنع منها مَحكيًّا بوليسيًّا على شاكلة بو. رغم كلّ شيء يحلم بالسيرة الذاتية لإبداعه… وقلّةٌ هم من في مثل جيد الذي كان يُدوّن، في العصر نفسه، يوميات روايته «مزيّفو النقود» في أثناء تحريره إيّاها. وتحت هذا العنوان «مصنع المرج»، يقترح علينا فرانسيس بونج بدوره طريقًا مختلفةً تمامًا للولوج إلى كواليس الإبداع، وخلق العمل نفسه من هذه الكواليس. وبعد ذلك، يعرض علينا ببساطة أن نقرأ النسخ المتعاقبة للنصّ ذاته، وصف المرج، مرج اللغة الذي يُصنع من الكلمات. وعلينا أن نكشف ما يحدث من مصنع إلى آخر.
إنّ هؤلاء الشعراء المُتنبّهين لعملهم هم أنفسهم يعلمون، بطريقة أو بأخرى، «مضايق الإبداع»- لأجل أن نستعيد عنوان المجموعة الشهيرة التي أطلقتها دار النشر سكيرا، التي قدّمت العديد من الكتاب، بمن فيهم الشعراء، لمناسبة التأمُّل في تاريخ عملهم… ألا يُدْرج ما يقترحه الصحافيون والنقاد على المبدعين من «حوارات» تحت الشكل المتدهور؟ وتحت الشكل العالم، هل يدخل ما ترصده فرق «علماء الأدب» في المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، وهم يستقصون «ما قبل النص» ومسودات بعض الشعراء؟
يوجد الكثير من الناس يتحلقون حول الشعر لكي يخبرهم بقصّته، ويعبر بهم إلى الاعترافات: أحيانًا الشاعر نفسه، قُرّاؤه، شُـرّاحه في الغالب. لكن الشعر يتفلّت من السيرة الذاتية وينجو بنفسه على أصابع قدميه.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *