هواجس جان جاك روسو بالعربية



*هيثم حسين


يتحدث الفرنسي جان جاك روسو (1712 – 1778) في كتابه “هواجس المتنزه المنفرد بنفسه” عن عدة مفاهيم وقضايا منها الحرية، الحقيقة، الصدق، الكذب، السعادة، الفن والأدب، الثورة، وينقل اعترافاته وآراءه في هواجسه وأحلامه التي تعد جزءاً تالياً لمذكراته الشهيرة “الاعترافات”.

يفتتح روسو كتابه (ترجمة بولس غانم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2015) بالحديث عن وحدته في آخر سنيّ عمره، يذكر أنه أمسى وحيداً على الأرض، لا شقيق، ولا قريب ولا صديق ولا عشير له سواه. تراه يقول إن أكثر الناس ألفة وأخلصهم حباً لبني الإنسان قد أجمع على نفيه عن المجتمع. ويشير إلى أنهم تفننوا في بغضائهم فالتمسوا شر عذاب يمكن أن ينزلوه بنفسه مرهفة الإحساس، فقطعوا جميع الصلات التي كانت تربطه بهم.
بوتقة الضراء
يقسم صاحب “العقد الاجتماعي” كتابه إلى عشر نزهات، يقول إنه كان أحب الناس على الرغم منهم، فلم يستطيعوا أن يتملصوا من حبه إلا بتجردهم من الإنسانية، ويجد أنهم هكذا أصبحوا غرباء مجهولين، بل أصفاراً في نظره، لأنهم أرادوا ذلك. ثم يستدرك متسائلاً “لكن من أكون أنا وقد تجردت منهم ومن كل شيء؟”. يجزم أن ذلك هو ما يتعين عليه البحث عنه.
يحكي بأسى عن الإهمال الذي لقيه، والفظائع التي تعرض لها على أيدي بعض من مجايليه، ويؤكد أنه يعتمد على المستقبل ويأمل أن جيلاً أفضل سيتولى النظر في ما صدر عليه من أحكام من جيله وفي المسلك الذي سلكه منه، يكشف بسهولة خيوط مؤامرة من يصفهم بأنهم هيمنوا على الجيل، ويرون به أخيراً الرجل الذي هو هو.
يلفت روسو إلى أن أوراقه في كتابه هذا لن تكون إلا صحيفة هواجسه المصغرة، وسيدور فيها عليه الكلام كثيراً، لأن الوحيد المنفرد الذي يفكر لا بد له أن يهتم بنفسه. ومع ذلك فإن جميع الفكر الغريبة، التي قد تخطر له وهو يتنزه، ستجد لها محلاً في كتابه.
يقول إن أوراقه يمكن أن تعتبر ملحقاً لاعترافاته ولكنه لن يسميها بهذا الاسم، لأنه لم يبق له مما يقوله شيء يستحق هذه التسمية. يقول إن قلبه تطهر في بوتقة الضراء، ولا يكاد يجد فيه، إذا سبر غوره بقية من سيل محرم، يتساءل ما الذي لديه مما اعترف به، وقد نزعت منه جميع مودات هذه الدنيا، بحسب وصفه. كما يقول إنه لم يبقَ لديه ما يمدح به نفسه أو ما يوبخها عليه، وإنه أمسى صفراً بين الناس، وهذا كل ما يمكن أن يكوّنه إذا لم تبق له علاقات حقيقية كما لم يبق له مجتمع صحيح.
يؤكد أن هذا الأمل هو الذي حدا به إلى كتابة محاوراته وألهمه آلافاً من المحاولات الجنونية لإيصال هذه المحاورات إلى الأبناء والأحفاد. وأن ذلك الأمل كان يستبقيه في ذلك الاضطراب الذي استولى عليه يوم كان يبحث بين رجال عصره عن قلب عادل، وآماله التي كان يحاول عبثاً أن يبعث بها إلى بعيد، كانت تجعله ألعوبة رجال جيله.
في نزهته الثالثة يلفت روسو إلى أن الضرّاء أعظم معلم، ولكن أجر دروسها غال، وكثيراً ما يكون النفع الذي يجنى لا يوازي الثمن الذي تمت تأديته، ومن ناحية أخرى، قبل أن يحرز المرء جميع هذه المكاسب من دروس جاءت متأخرة، والشيخوخة زمن ممارستها، ولا ينكر أن هذه الخبرة تعلم دائماً لكنها لا تفيد إلا بقدر المدة الباقية من الحياة. يتساءل “وهل لدى الإنسان متسع من الوقت لأن يتعلم، ساعة لا بد له من أن يموت، كيف كان يجب عليه أن يحيا؟
معترك الحياة
يقول إننا نخوض معترك الحياة منذ ولادتنا ونخرج منه عند الموت. ويتساءل أيّ فائدة يجنيها الفارس من تعلم قيادة مركبته أحسن من قبل إذا كان قد بلغ بها آخر الميدان، وكيف أنه لا يطلب منه في الحال إلا أن يفكر في كيفية الخروج منه. ويعتقد أن دراسة الشيخ هي أن يتعلم كيف يموت، ويجد أن ذلك أقل ما يعمله إنسان في مثل سنه. إنه يفكر في كل شيء إلا في هذا، والشيوخ يتمسكون بالحياة أكثر مما يتمسك بها الفتيان، ويخرجون منها وهم أشد من الشبان تأسفاً واستياء.
يقول روسو إن ثورة كبيرة بدأت تتمخض في نفسه، وإن عالماً آخر روحياً أخذ ينكشف لناظره، وإن أحكام الرجال البعيدة عن الصواب، والتي لم يكن بعد يستطيع أن يستشف إلى أيّ حد سيكون يوماً ما ضحيتها، بدأ يشعر بتفاهتها، وحاجته النامية إلى امتلاك مقتنى آخر غير الشهرة الأدبية، التي لم يكد يلحقه بعد غبارها حتى تقززت نفسه منها، ورغبته في أن يخطط، حتى آخر أيامه طريقاً أقل مدعاة إلى الضلال والحيرة من تلك التي سلكها في أجمل نصف من عمره. ويعتقد أن كل هذا اضطره إلى القيام بما يسميه بالاستعراض الكبير الذي كان يشعر بالحاجة إليه منذ زمن طويل. وقد بدأ يشرع في كتابته.
يعبّر عن رضاه باختياره العزلة، وحقيقة أن الصبر والرفق والتسليم والنزاهة والعدل الذي لا يحابي، هي كلها مقتنى يحمله المرء معه، مقتنى يمكن أن يحرز الغنى به من دون انقطاع ومن دون أن يخشى أن يسلبه إياه سالب ولو كان الموت. ويصرّح أنه سيكرّس ما بقي من شيخوخته للقيام بهذه الدراسة النافعة، ويقول إنه ما أسعده لو أنه باستكماله لفضائل نفسه، يعرف أن يخرج من الحياة لا أحسن ممّا هو، لاستحالة ذلك، بل أكثر فضيلة منه يوم دخلها.
يعبّر روسو عن رأيه أنه لم يعتقد قط أن حرية المرء تقوم على أن يعمل ما يريد، ولكنها تقوم على ألا يعمل أبداً ما لا يريده، وهذه هي الحرية التي طالما طالب بها، وكثيراً ما حرص عليها وبها كان موضع فضيحة عند معاصريه، كما يقول، لأنهم إذا كانوا ذوي نشاط وطموح وحركة، كانوا يمقتون الحرية عند غيرهم، ولأنهم إذ لا يريدونها لأنفسهم، شرط أن يملوا، في بعض الأحيان، إرادتهم وأن يتسلطوا على حرية غيرهم. ويذكر نفسه كمثال على تنحيته من قبل بعض معاصريه وإقصائهم له.
يرى روسو أن السعادة حالة مستقرة يبدو أنها لم تجعل للإنسان في هذه الحياة الدنيا. ويجد أن كل شيء هو على الأرض في مد متواصل لا يجيز لشيء أن يتخذ شكلاً ثابتاً. يقول إن كل شيء يتبدل من حولنا ونحن أنفسنا نتغير، وما من أحد يستطيع أن يجزم بأنه سيحبّ غداً ما أحبّه اليوم. ومن هنا فإنه يعتبر أن جميع المشاريع من أجل السعادة على الأرض هي أوهام، ويوجب ضرورة الاستفادة من فرح الروح إذا تم للإنسان ذلك، ويحذر من إبعاده بإرادته.
___
*العرب

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *