شعر السيرة: خريطة هوية ذاتية أم خريطة غيرية افتراضية؟


*محمد بودويك


لئن كان النقد المعاصر حسم في أمر السرديات، وَمَازَ بين السارد والكاتب، محققا في ذلك فتحا قرائيا معتبرا، وسبرا لغور السجلات السردية، والمحافل النثرية بما لا يترك للواحد ثقبا ينسل منه، لاَمِزًا وَغَامِزًا، فإنه (أي النقد) ما زال يعيش بَلْبَالاً في خصوص المدونة الشعرية، في خصوص الشعر، ما بين قائل بانطباق الذات المتكلمة في النص الشعري مع منتج النص، مع الشاعر، وقائل بانبهام العروة، وَتَمَزُّعِ الخيوط الرابطة، وانفكاك المتلفظ في النص، الأنا الغنائي، عن صاحب النص اللحمي والدمي، ما يعني وعي المسافة بين الكائن الورقي، والكائن الإنساني. ولاشك أن هذا النزوع وإن بدا مغاليا وعدميا، إنما يستقي توجهه النقدي، ورؤيته للأقاويل الشعرية، من جهة كونها روحا هيمى، وَنَفَسًا علويا، وقبسا نورانيا، ودما نائسا بين الحبر والنداء، وصمتا جاذبا للمكتوب الشعري، محتفيا ومحتفلا به على أساس من أنه لغة، لغة أميرة، لغة عليا، تقول الذات، فيما هي تنقال بها بعيدا عما يشده إلى القراءة الفيلولوجية الكسلى، والدعوة الانعكاسية البليدة. ولربما كان في الخلفية من هذا النزوع، وهذا التوجه، ما تطارحه النقد الجديد الأنغلو- أمريكي، والبنيوية في زمن ما، من إقصاء للمؤلف بحسبانه فضلة، ونافلة من النوافل، إذ انصب فتحها، أساسا، على النظر إلى النص كبنية مغلقة، وجهاز مقطوع عن الواقع والتاريخ والاجتماع. وزاد في تكريس هذا المنظور النقدي، ما قاله رولان بارت، وميشيل فوكو، وما كتباه ودافعا عنه في السبعينات من القرن الماضي، حول موت المؤلف. وقد ترتد مثل هذه المواقف والأفكار التي كان لها صدى ورنين في تلك الفترة، إلى نظرية الإعلاء من جماليات النص، وإفساح المجال وسيعا للقراءة والمقروئية، للمتلقي والمُسْتَقْبِل، والمبثوث إليه، والتي وجدت تكريسا لها عن طريق مقتربات شعرية وفلسفية على يد شعراء وفلاسفة ألمان.
لكن الرنين وإن خف، إلى رجعه وصداه، مريدون ومتلقفون لأثره وتأثيره في النفس التواقة إلى الجديد، سَرْعَان ما بدأ يَعْرُوهُ التلاشي، حين هبت ريح نقدية جديدة، أسهم في هبوبها الجديد والقشيب، الإبدال الذي طال جوانب مختلفة من الحياة بدءا من الاقتصاد والثقافة والمعرفة، والسياسة، وصولا إلى المثل والقيم.
من هذا المنطلق، شرعت الكتابات النقدية الجديدة التي أولت أهمية لسؤال «من يتكلم في الشعر؟»، والتي انتبهت إلى ما طال مفهوم الغنائية في الشعر من تَجَنٍّ، حين حُشِرَ في الذاتية العاطفية، والانفعالية، وسقوطه في الفردانية، وتمجيد الذات الرومانسية المريضة، شرعت هذه الكتابات الجديدة تَتْرَى. وليست العبرة بذكر أعلام التوجهات الكتابية النقدية الجديدة، بل العبرة بالوقوف السريع عند نظرتهم، ورؤيتهم إلى الغنائية باعتبارها – نفيا لما قيل – أُسَّ القصيدة، ومدماك الشعر، إن لم تكن هي الشعر. وما يكون الشعر إن لم يكن تعبيرا عاليا، رفيعا عن الذات وهي تقول كلومَها وجروحها، خيباتها، أحزانها وأفراحها، في تَمَاسٍّ بل وَتَمَاهٍ – أحيانا – مع الأنا الجمعي، حيث ينهدم الحد، ويتغبش الفاصل، ويهوي الحاجز المعنوي والدلالي العام.
ومع أن كلاما كثيرا دار حول السيرة الذاتية (الأوتوبيوغرافيا) كنوع أدبي، أو جزء مكون لنظام الكتابة العام، كلاما ذهب إلى حد إسقاطها من الأدب، واعتبارها كـ»اليوميات» أو «المذكرات»، ملحقا بالأدب الحق، الأدب «الرسمي»، فإن حضورها في الإبداع – أيا ما يكون لبوس هذا الإبداع وَسَمْتُهُ ونعته – مُسَلَّمَةٌ لا قِبَلَ لنا بدفعها أو دحضها. إذ الإبداع لغة، والإبداع انبثاق من ذات، والذاتية هي ممارسة اللغة بحسب إميل بنفنيست، والنص هو تحقق ذات في لغتها وبها.
وبما أن الأمر كذلك، فأصداء وشآبيب وجوانب الحياة المعيشة، لابد أن تندس في تضاعيف النص، بهذا القدر أو ذاك، وبهذه الكيفية أو تلك، حتى أن السيرة (البيوغرافيا) تعني لغويا: الخط الحياتي – المسار الحياتي: بيو: حياة، غرافي: خط.
ثم إن الشعر هو المغامرة الأكثر ذاتية بما أنه الحقل المميز لقضايا الذات كما يقول هنري ميشونيك. ومن ثم، عَسُرَ البحث فيه عما يصنع الأوتوبيوغرافيا، فضلا عن كونها ميثاقا وتعاقدا ضمنيا أو صريحا مع قارئ محتمل، وعما يُسَوِّرُ أرضها وسماءها ومجالها، وَيُمَظْهِرُ وجهها وجذعها وأطرافها كمثل: المرتكزات المكانية، والإحالات والمرجعيات التاريخية، والثقافية، والفنية، والاجتماعية، وقوانين السرد المدعمة بالحجة، والمنطق والإقناع في إهاب من أسلوب مُغْرٍ ومُشْرِق وجاذب، لتنحاز إلى الأدب، وتستدخل ماءه ونبضه وَرُوَاءَهُ.
فالحد الأوتوبيوغرافي على مستوى حضوره في النص الشعري كتجربة إبداعية حياتية تنهض بها اللغة، يتعلق بسؤال وجودي يتجاوز ما هو لغوي أي: «من يتكلم في الشعر؟»، وسواء قدمنا أو أخرنا المركب الإسمي التوصيفي: الأوتوبيوغرافيا في الشعر، أو الشعر الأوتوبيروغرافي، فإن الدلالة لا تنزاح عن المعنى الحاف في التسميتين معا، ما يقود إلى القول بإمكان هذا الحضور، وامتصاصه من قِبَلِ اللغة الشعرية، وهو ما انتبه إليه فيليب لوجون وكَايْتْ همبرغر، وتادْيِ، وجون ميشيل مولبوا، وآخرون. وفي كل الأحوال، فإن السيرة الذاتية الشعرية، أو السيرة الذاتية في الشعر، تشكل خريطة هوية مخصوصة للذات بإزاء خريطة غيرية افتراضية تقع في نقطة ما بين مقول الأنا الغنائي، والرجع التلفظي الذي يشتغل بِدَعَةٍ داخل النص، محيلا ومُغَبِّشًا، على مرجعية واقعية منقوعة في اللغة أساسا، وعلى زمنية منفلتة وهاربة.
زمن الأتوبيوغرافيا الشعرية متعال ومفارق: Transcendant، دال ومدلول، ما يدفع الشعراء إلى العمل على التحرر من قبضته، بالتحايل عليه، والمكر به مجازيا، رمزيا وتخييليا، فالماضي الشخصي الذي عيش وفقا ليوميات مقدورة، ومختارة، ليس هو الماضي الذي يستعاد في الكتابة، أو تستعيده الكتابة بعد أن تعيث في بنيانه شروخا وَكَدَمَاتٍ. فاللغة تُحَوِّلُهُ عندما تعبث بترتيباته، ودقائقه، وأذكاره، وَتُشَقْلِبُ – من ثمة – الخطية إلى منحنيات زمنية وفضائية و نفسية جديدة، تستنيم إلى سرير الكتابة «البروكوستية»، وتستريح إلى فيء ظلال حاجبة لصهد وَحَرُور تلك الأيام، أو تعمل على إيقاد الجمر بعد تحريك الرماد الهامد الخامد. وفي كل ذلك، ترحل اللغة بالماضي إلى الحاضر المتمنع، إذ الحضور غياب واندثار. ولا يبقى – في الحقيقة – إلا نقطتان متباعدتان بقدر ما هما متقاربتان: الماضي من جهة مؤتلقا وَمُجَنْدلا – في آن – بفعل الكتابة، والمستقبل ملتمعا، متلامحا مندسا في أعطاف وثنيات المحكي الأوتوبيوغرافي، محولا ما كان إلى إمكان ما سيكون. بهذا المفهوم، تسكن العناصر الأوتوبيوغرافية نصوص المبدعين.. نصوص الشعراء.
وفي تقديري، فإن هذا المنحى اللولبي، الخطي، التصاعدي والتنازلي، والحلزوني، الحائل والزائل، هو ما يسمح بالكلام عن نص إبداعي أوتوبيوغرافي، نعم، لكن مسكونا بحرقة اللغة بما هي ترجمان للتجربة الحياتية والروحية، ووسيلة لتعديد الحياة، فإذا هي حيوات متكثرة، أو اختزالها في ما به تتفرد وتتوحد، تَتَوَجْدَنُ، وَتَتَكَيْنَنُ، وتتوهج حتى لكأنها نقطة مضيئة غامزة بعيدة في الأعالي، في سماء ضاحكة ليلا، خافقة بالنجوم، وراقصة لِغَضَارَةٍ قادمة.
ثم، هل يكفي معرفة الشاعر في الحياة لكي تخضع سيرته إلى مطواة التشريح، وتنقاد سهلة ميسورة إلى وضع الأصبع على واقعيتها وحقيقتها، وصدقية ما يحكى شعريا، وينسرد فيها؟
وَهَبْ أنك عرفت، فهل بمقدروك، وفي طوقك أن تبرهن على حقائق انثالت من قلم الشاعر على الكراس والقرطاس؟
ذلك أن اللغة رَوّاغة وزئبقية، ومخادعة، وصاحبها بهلوان يرتدي أقنعة، ويلبس أصباغا، ويلعب بلهيب الكرات الملونة، ويتمازج مع المرايا. ولنا أن نقرأ ما كتبه محمد بنطلحة عن شعره في «الجسر والهاوية»، وما كتبه نزار قباني في كتابيه «الشعر قنديل أخضر» و«قصتي مع الشعر»، وصلاح عبد الصبور في «حياتي في الشعر»، ومحمد القيسي في «الموقد واللهب: حياتي في القصيدة»، وحميد سعيد في «الكشف عن أسرار القصيدة»، ومحمد بنيس في «شطحات لمنتصف النهار» و«العبور إلى ضفاف زرقاء» وفي مقدمته الضافية التي كتبها بين يدي أعماله الشعرية، وعبد الكريم الطبال في «فراشات هاربة»، ومحمد الميموني في «كأنها مصادفات»، والمهدي أخريف في «بين القصرين»، وكبير الروائيين نجيب محفوظ الذي كتب سيرة يزينها الصوغ الشعري: «أصداء السيرة الذاتية».
هؤلاء الشعراء وغيرهم، وهم يكتبون «إفادات» وإيضاحات تمهد للقفز إلى «مهاوي» السيرة المشعرنة والمنسردة وفق قوانين للبوح مخصوصة، ومعايير للتعبير صافية ومُهَجَّنة، خلاسية وميتافيزيقية، إنما يستمرون واقفين أو متحركين وراء أستار الكلام خلف أقنعة لا يد لهم في صنعها وارتدائها، إذ تتلبسهم حين الكتابة، وتلفهم زمن العودة والاستعادة اللغوية.
هي سير ذاتية حقا في الشعر – كما أسلفت – من دون إغماط حق المعيش في الوثوب إلى الصفحة، والطُّفُوِّ على ماء الكتابة، لِيَجْدِلَ باللغة، تصاوير ونبضات أزمنة شخصية، وأفضية مخصوصة، وطفولة تؤرجحها أعشاش طيور وخطاطيف، وشقاوات لذيذة.
وما تكون الطفولة ومراحل العمر الجميل الخوالي، ما لم تكن شعرا، ولذاذة، وجمالا، و«أركاديا» حالمة؟
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *