هل الفلسفة نوع من الكتابة الأدبية؟


*محمد جديدي




بوتقة الحياة: السؤال الحقيقي
في صميم الحياة تلحتم أنظار الفلسفة وتأملاتها بتجارب الأدب ونصوصه، فلا تغدو الفلسفة مركزا أو مرجعية ولا يصير الأدب مجرد سرد أو وسيلة. إن نسيج الحياة بتعدد خيوطه وتشكّلها وبتجدد خبراته وتفرعها يفسح المجال واسعا لتنوع التجربة البشرية بنزوعها العاطفي وبمنطقها الذهني ومنهجها الأخلاقي أن تتموقع وتتجلى بكل ثراء وتميز.
بالإمكان أن نبدأ بالتساؤل عن الأدب وعن الفلسفة قبل الخوض في تمحيص هذا التساؤل بمثل ما يكون ذلك في عرف الفلاسفة. لكن ما فائدة اجترار استفهام لن ينتج عنه أمر جديد سوى تعليق يسبق أو يجر جملة تعليقات حول موقف أو جملة مواقف. لقد بحث الفلاسفة هوية انتمائهم وتساءلوا عن الفلسفة كما فعل دولــوز Deleuze تماما مثلمــــا فحصوا جوانب السـؤال ما الأدب؟ ومنهم جان بول سارتر – وهو أحد الوجوديين الذين جسدوا خير تجسيد انصهار الأدب بالفلسفة – الذي تطرق بعمق للإجابة عن هذا السؤال من خلال كتابه: ما الأدب؟ وفيه تناول بالرد عن التساؤلات الأساسية وإن كان هدفه الأكبر توضيح صلة الأدب بالالتزام لكنه بشكل واضح على القضايا الآتية:
موضوع الكتابة من جهة ماهيتها أو ما الكتابة؟ Qu’est-ce qu’écrire؟
لماذا نكتب؟ Pourquoi écrire؟
ولمن نكتب؟ Pour qui écrit-on؟
وأخيرا وضعية الكاتب في سنة 1947م[1] La situation de l’écrivain en 1947.
إذن كان بالإمكان أن تكون بداية مقاربتنا للاستفهام المطروح في العنوان من هذه النقطة التي تتخذ من الأدب مثار سؤال لنكشف عن جوهره وخلفياته وأبعاده عن تاريخيته وعن أدواته وأساليبه، عن أنطولوجيته وغائيته. لكنني أتجاوز هذا السؤال من دون تقديم مبرر كما يوجب ذلك فعل التفلسف الذي سيفقده معناه.
يتضح بداية أن مدلول الكتابة يقربنا من مفهوم النص. فليست هناك فلسفة من دون كتابة والأمر نفسه ينطبق على الأدب. فلا فلسفة ولا أدب من دون نص. هذا الإقرار من الطبيعي أن يحيلنا على مسألة التناص لكننا نستبعد هذه المسألة من ورقتنا على الرغم من أهميتها لأننا بصدد إجلاء علاقة الفلسفة بالأدب والكتابة والنص. ربما اعترض أحدهم على هذا الرأي بمثال سقراط الذي لم يترك نصا أو واحدة من الأساطير أو الروايات التي تروى شفاهة غير أن هذا الاستثناء أو ذاك لا يمنعنا من تأكيد القاعدة العامة في الكتابة لكل الفلسفة والأدب. والحقيقة أن سقراط أراد من خلال فلسفته أن يصير نموذجا يطبق فيه المعرفة من زاوية نظرية على سلوك أخلاقي واقعي وبالتالي فالفلسفة بحسبه هي فن في الحياة أو طريقة حياة وعيش تنصهر فيها الرؤية الأنطولوجية مع الأخلاق والإستيطيقا. كما أن الشفاهة في الأسطورة أو الرواية لا تمنعنا من الإقرار بالكتابة التي يرتبط معناها بمرحلة متقدمة من تاريخ الكائن البشري وخاصة في تطوير اللغة واستخدام أدوات في التدوين وانتشار الطباعة. لقد جاءت الكتابة لتبعث الحياة في الرواية الأصل – الشفاهية وتمددها في الذاكرة.
لا تخوم بين الفلسفة والأدب:
سأركز في هذه المقاربة على وجهتي نظر كل من أرتير دانتو A. Danto وريتشارد رورتيR. Rorty باعتبارهما يتقاسمان رأيا واحدا[2] – تقريبا- أي موقفا يخالف كثير من الآراء الفلسفية المتشددة للطرح الفلسفي والقائلة بضرورة اعتلاء الفلسفة عرش الثقافة البشرية كما أن موقفي المفكرين يجعلني في غنى للبحث عن رأي مخالف يناقضهما أو البحث عن إجراء موازنة لا ندري في صالح أي الطرفين[3] ستنتهي إما أولئك المؤيدين لاتصال الأدب بالفلسفة بل والساعين إلى التدليل على هذا التقارب الموجود منذ فجر الفلسفة وأن الحواجز المصطنعة ليست من طبيعة الفلسفة المتفتحة على الآداب والعلوم وهو من طبيعتها نفسها بوصفها مظلة لكل الفنون والمعارف أدبية كانت أو علمية فنية أو تاريخية أو المناصرين لانفصالهما بل وربما لاتهام من رام ذلك من الفلاسفة بتغليب الخطابة على المنطق والتفريط في الماهية المؤسسة للفلسفة كفلسفة.
فذلك هو على سبيل المثال ما نعثر عليه لدى هابرماس Habermas في اتهامه لـ دريداDerrida بتحويل الفلسفة إلى نوع من الكتابة الأدبية. ففي الوقت الذي يحرص فيه هابرماس على التمسك بطبيعة منطقية عقلية منحدرة من النزعات الأفلاطونية والأرسطية ومن التقاليد الألمانية الكانطية والفيبيرية الباحثة عن العقلنة والأبدية يتجه دريدا صوب طبيعة جمالية كفيلة بإيضاح المعنى بدءا من اللغة وعباراتها حتى إن تطلب الأمر اللعب بين كلمات هيغل Hegel ونسر Aigle أو بالتركيز على البعد الاشتقاقي ليستنبط التبرز والتغوط Schato من يوم الآخرة Eschatologie.
ومع أن دريدا يعترف بما بين النصين الأدبي والفلسفي من اختلافات ومن تشابكات قد تفرض انفصالا أو اتصالا حسب الميولات الفردية للمبدعين أو استراتيجيات المؤسسات الاجتماعية والأكاديمية إلا أننا نلحظ تخوما يتقاطع فيها النصين فلا يخلوان من اللغة الشعرية تماما كما لا ينقطعان عن البرهنة المنطقية أو هكذا يمكن أن ننظر إلى الخطاب الفلسفي عند فريدريك نيتشه F. Nietzsche أو بول فاليريP. Valery .[4] لا غرابة من ثم أن نجد في موقف هابرماس Habermas انتقاء من التراث الألماني يتماشى مع دفاعه عن الحداثة من منظور عقلاني لكنه يتناسى عناصر هذا التراث برومانسيته ونصوصه الأدبية والشعرية التي سيوظفها مثلا هيدغر Heidegger من خلال عودته إلى ريلكه Rilke وهولدرلين Hölderlin بحثا عن تقمص الفيلسوف لشخصية الشاعر القوّي The strong poet لذلك نرى في رأي هابرماس Habermas تحيزا للفلسفة بفصلها أو إبقائها داخل نسيج لوحده بعيدا عن الأدب أو عن أي شكل آخر من أشكال التعبير الإنساني.
تبعا لهذا، لا نستغرب إن وجدنا أن رورتي وهو يناقش الفلسفة كنوع من الكتابة انطلاقا من دريداDerrida [5] ليجعل منه سندا في مواجهة خلافه الفلسفي والسياسي مع هابرماسHabermas .
من البديهي، أن نشير إلى أن مواقف رورتي ودانتو الداعية إلى تقريب الفلسفة من الأدب بل ومن فروع وأشكال تعبير إنسانية أخرى إنما هي بالأساس دعوة لمحو الحدود التي فرضت باسم ميتودولوجيا الصرامة والصلاحية أحيانا وباسم الموضوعية العلمية والعقلانية أحيانا أخرى وأيضا بعنوان منطقي التحليل الدقيق في أحايين أخرى وهي أيضا دعوة لإنزال الفلسفة والعلم من عليائهما ولتبني خطاب يوازي بين منجزات الإنسان ومغامراته العلمية والفلسفية والأدبية، التاريخية والسياسية. مثل هذه الدعوات – في نظرنا – ما كان لها لتلقى صدى لولا المنعطفين اللغوي أولا والجمالي ثانيا وهما يندرجان ضمن مسار ما اصطلح عليه بالفلسفة ما بعد التحليلية.

المنعطفان اللغوي والجمالي:
الأول Linguistic turn وقد برز بشكل قوّي في القرن العشرين وبالخصوص في نهاية الستينيات وقد صاغ رورتي رؤيتها ضمن الكتاب الذي أشرف عليه وحمل العنوان نفسه أقصد “المنعرج اللغوي” The linguistic Turn ونُشر سنة 1969 وساهم فيه بثلاث مقالات أما المقالات الأخرى فقد كتبها فلاسفة أغلبهم ينحدرون من التيار الوضعي المنطقي والفلسفة التحليلية وإن كان هذا المنعرج قد أفاد كثيرا فلاسفة التحليل والبراغماتيين الجدد من الذين تخلوا عن اقتفاء أثر لوك Locke في التجربة والخبرة والسير على خطى فريغه Frege في اللغة والمنطق وبذلك أرادوا للفلسفة أن تبقى بجوار المنطق وتبتعد عن السياسة والتاريخ الأدب وهذا هو موقف كواين Quine ومعه زمرة البراغماتيين الجدد أمثال بوتنام Putnam، غودمان Goodman وديفيدسونDavidson .[6] غير أن رورتي الذي بدأ تحليليا بدأ شيئا فشيئا يتملص من تربيته التحليلية ليتحول نحو براغماتية تجمع عناصر شتى من تجربته الفلسفية والتي منها ميوله الأدبية وفيها رأى نوعا من التفتح لذاته وازدهارها على تجربة الحياة بصورة عامة والتي سيلخصها من خلال فكرته الرامية إلى نبذ الإهانة والإذلال. في تقديره فإن الأدب بأنواعه العديدة، روايات، قصص، أشعار، ربورتاجات صحفية مسرحيات أفضل وأقدر من الفلسفة على تجسيد وإنجاز هذه المهمة. وفي تقديره أيضا فإن روايات نابوكوف Nabokov وبروست Proust ووايلد Wild قد كشفت بأحسن مما فعل الفلاسفة عن معاناة الإنسان وعن الوضع البشري المتأزم.
أما الثانيEsthetic turn [7] فقد تبلور تبعا لمحاولات عدة اصطلح عليها بأنها ما بعد حداثية تكسرت عليها قيود الفن التقليدي والحداثي ويعد دانتو واحدا من منظريها حيث أنه أسهم كثيرا في التنظير لفلسفة جمال ما بعد حداثية وكتب العديد من الدراسات في النقد الأدبي وفلسفة الفن. فليس هناك من مجال فلسفي سيرتبط فيه الأدب بالفلسفة قدر ارتباطه بعلم الجمال. ضمن هذا المجال عمل مثلا دانتو على تحيين الإستيطيقا الهيغيلية. ولا ريب في هذه المقاربة إن كانت راهنية هيغل Hegel الجمالية تنتسب إلى حداثة فلسفية وجدت لدى فلاسفة أمثال دانتو Danto وهابرماس Habermas وغودمان Goodman من يدافع عنها ويستلهم منها الكثير نظرا لقيمة ما كتبه هيغل خاصة حول موسوعة العلوم الفلسفية وما خص به الفن (الرسم، الموسيقى، الشعر) من أبحاث وكتابات أصبحت منارات استيطيقية. بيد أن ما بعد الحداثيين – ومنهم رورتي- والذين دخلوا ما بعد الحداثة من باب الفن (الأدب، المسرح، الشعر، فن العمارة، القصة) رأوا في ذلك إمكانا فلسفيا يمكن أن تلتقي فيه رؤية فلسفية جديدة مع أشكال الأدب الجديد وربما سمح هذا الالتقاء بفتح الحدود بين أشكال التعبير الإنساني وتجاوز التقسيمات الوهمية.
ولعله من المفيد الإشارة، إلى أن موقف كل من رورتي ودانتو وإضافة إلى المنعطفين سالفي الذكر يجدان سندا قويا وأرضية في تلك التجارب الحية والحديثة التي عاشها الفرد الأمريكي وجسدها إمرسون خير تجسيد فغدا نموذجا لكل تجربة ممكنة في وصف العالم بعيدا عن الأطر النظرية التي تتشدق بها أوربا في تاريخها الثقافي العريق. إن أمريكا تؤمن بالفكر المتجدد الذي لا يثبت ولا يخشى التجديد إنه على الدوام في حالة صياغة وتحول. فالأدب الأمريكي أيضا ثمرة تجربة كتلك التي قام بها وتفرد بها الشاعر الكبير هنري ديفيد ثورو Henri David Thoreau على بحيرة والدن. ففي الأدب الأمريكي الذي أحبه دولوز ومدحه وجد فيه خاصية الرحيل والهروب الذي يعني رسم خط ليس بالضرورة جغرافيا وخط الهروب هو مغادرة موطنية déterritorialisation والجغرافيا ذهنية وجسدية بقدر ما هي فيزياء في حركة.[8]
السند الثاني يكمن في النفور من الإيغال في النظري والتجريد الذي يطبع سمة الأمريكي عامة. فهذا يفسر حقيقة التصور البراغماتي الذي ينبذ التنظير ويرفض مزاعم الفلسفة في إقرارها بدوغمائية الاعتقاد بالجوهر وقدرتها على النفاذ إلى الماهيات وبواطن الأشياء دون غيرها من أشكال التعبير الإنساني. هنا يخطئ رورتي النقاد في لجوئهم إلى الفلسفة ونظرياتها آملين العثور بها على ما يؤسس مواقفهم النقدية من حيث أن بحثهم عن المشروعية سيكون من مصادر فلسفية. إن وهم التنظير للأدب بلغة فلسفية جعلهم يخطئون الطريق ويبحثون عن دعامة من خارج الأدب بدل التماسها من داخله. وربما كان من الحري بهم أن يتأملوا مواقف الفلاسفة ذاتها – خاصة لدى دريدا – الذي لا يعتبر أن هناك شيء ما يمكن أن ينظر فيه خارج النص.
محو السيطرة:
رورتي كذلك يرى في آراء النقاد هذه تقزيم غير مبرر للأدب وحط من قيمته. ذلك أن الفلسفة و- بناء على أسطورة العقل والمنطق – ادعت أنها رائدة قطاعات الثقافة (الفكرة الموروثة عن عصر الأنوار وعن كانط بالتحديد الذي نصب الفلسفة قاضيا وحارسا على الثقافة) وأنها من دون الأشكال التعبيرية الإنسانية الأخرى الوحيدة القادرة على إدراك ماهيات الأشياء وبلوغ لباب المشاعر وتبريرها بلغة العقلانية لذا فلا العلم ولا الأدب ولا الفن ولا الدين بمقدورهم أن ينجحوا في هذه المهمة أمام الفلسفة. خطأ النقد الأدبيين حسب رورتي أنهم انساقوا وراء هذا الزعم وأخذوه مأخذ الجد ومن ثمة ذهبوا إلى مجاراة المذاهب الفلسفية ليستلهموا منها ما يعزز طروحاتهم.
لذا فإن رورتي حينما يدعوا إلى التضامن الناشئ برفض الإذلال في كل بناء اجتماعي طموح فإنما يحقق ذلك يكون بالخيال وليس بالعقل. هنا يبرز المنظور ما بعد الحداثي لدى رورتي والذي يلتقي فيه الفيلسوف مع بعض رواد حركة ما بعد الحداثة أدبيا ومنهم إيهاب حسن عندما شرعوا في كسر قيود فرضتها الحداثة الأدبية وأرادوا التخلص من تلك الأشكال المنمطة التي يتوجب التقيد بها خلال لمنطق الإبداع وحرية الأديب. وبالتالي التخلص من قيد الالتزام والإحراج الإيديولوجي الذي كبّل شخصية الروائي والفنان وجعلها بنية لغوية تابعة لمسار اجتماعي وسياسي من دون النظر إلى ما بها من رغبات وحاجات فردية تستوجب التحقق والنمو.
تبعا لهذا الموقف يجد رورتي نفسه في إحراج بين طموحاته التي يشارك فيها مجتمعه الليبرالي وليد التجربة التاريخية والطامح إلى الحريات والحقوق والعدالة وبين رغباته وعواطفه الفردية التي تنتظر التفتح والانجاز أو كما عبر هو عن هذا التأرجح بين تروتسكي والسحلبياتTrotsky et les orchidées من حيث أن شخصية تروتسكي وبناء على تربية رورتي العائلية رسخت في ذهنه فكرة العدالة الاجتماعية بينما السحلبيات تشير إلى النباتات البرية ذات البعد الجنسي والغريزي وهي تأمل الإشباع وتحقيق اللذات والرغبات.
يمكن القول أن الأدب من حيث تفتح وتحقق ذاتي يطابق الغريزة والعاطفة والفلسفة من حيث تجربة وتعقل مطابقة للعدالة والغائية. وبتبني رورتي لموقف المثقف الساخري فقد رأى في ذلك خروجا من إحراج سببه له حضوره ضمن مجتمع ليبرالي مكنه من فرصة انتقاده ما كان ليجد هذه الفرصة خارج مجتمع كهذا بني على أنقاض العقلانية الحديثة بعيوبها لكنه مكن أعضاءه من وصف تجاربهم وخاصة الأدبية والفلسفية المناقضة لأسسه بكل حرية.
في الوقت الذي توصف فيه الفلسفة بأنها فن أو بأنها علم أو حتى أحيانا أخرى علما وفنا في آن واحد، لا يثير هذا الوصف أي اعتراض من قبل الفلاسفة لكن حالما تحاول بعض الأصوات وهي قليلة جدا تخطي الحدود التي حاولت بعض النبرات فرضها وتبريرها إلا وتجدهم ينتفضون ضد مثل هذا الموقف.
فإذا كان معروف منذ القديم، أن فلاسفة هاجموا الأدب ورفضوا إدراج وقبول الشعراء بينهم ودعوا إلى طردهم (مثال أفلاطون Platon قديما والوضعيين المناطقة Les positivistes logiques حديثا) فالفلسفة لدى هؤلاء جهد فكري واستدلال منطقي صارم قبل أن يكون آلية في الوصف أو تقنية في التدوين إلا أن هناك من سعى إلى التقريب بينهما إلى درجة المزج والتداخل فلا فلسفة من دون أدب والعكس صحيح ويكفي هنا أن نورد مثال التوحيدي فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة كما لُقب[9] أو حديثا مع فلاسفة الوجودية سواء الذين انحازوا إلى اللغة الشعرية كما هو شأن مارتن هيدغر Heidegger أو مع سارتر Sartre وكامي Camus اللذين صاغا أفكارهما الفلسفية في شكل رورايات ومسرحيات زادت من رواج فلسفتهما وأوصلتها إلى آفاق أبعد ربما مما لو صيغت بقوالب تقليدية كما هو شأن النصوص الفلسفية التي هي على تلك الشاكلة.
الفلسفة والخصوبة الأدبية:
لكن أليس من البديهي التساؤل عن الطريقة الأدبية الرائعة للنصوص الفلسفية التي تعود إلى بداية الفلسفة – في القرن خامس قبل الميلاد – شعرا أو نثرا وفيما بعد محاورات أو أشكالا أخرى متنوعة للكتابة الأدبية والتي بقيت آثارا خالدة ومصدر إلهام لأجيال من الفلاسفة كما هو الحال بالنسبة لنشيد بارمنيدسParménide . ألم تكن الفلسفة المعاصرة في شقها الهيدغيري الممتاز حنينا لتلك الروح الإغريقية التي بحث عنها فيلسوف الكينونة عن جذورها في شذرات هيرقليطس Héraclite وفي قصيدة بارمنيدس Parménide، منقبا عن مفرداتها في الوجود والعدم في الزمان والتاريخ وفي الميتافيزيقا والتجاوز وذلك بالرجوع إلى ماضي فاقت حقبه ألفي سنة.
وبالقدر نفسه، نتساءل عن تلك الروائع الأدبية التي خلفها هوميروس Homère، هزيود Hésiode، سوفوكليس Sophocle وأوريبدس Euripide ألم تحمل في ثناياها أفكارا فلسفية ذات قيمة إنسانية عالية وجسدت ملاحم الإنسان ومغامراته وصلاته بالكون والسماء ثم الم تكن هذه الروائع أيضا محل اهتمام وتأثير في أدباء ومفكرين عديدين من عصور تالية. ألم يستعد جيمس جويس J. Joyce عوليس Ulysse تلك الرائعة التي جعلت منه أحد أشهر أدباء القرن العشرين.
هنا بالذات يتأتى إلى أذهاننا التساؤل القاضي بالبحث عن انفصال مفتعل ومقصود بين الفلسفة والأدب إذ يكفي أن نبطل مثل هذا التوجه بمجرد أن نأخذ بالبعد العملي للفلسفة حتى ندرك مدى التقارب بينهما. فالفلسفة من حيث هي حكمة عملية وسلوك وفضيلة ودعوة إلى القيم هي كذلك هذا الجزء الذي نفهمه من الأدب بوصفه تهذيبا وتربية ودعوة إلى التمسك بالرفيع والنبيل من الشيم والأخلاق. إنهما يهدفان إلى انتصار الخير الأسمى.
وإذا كان من الصحيح أن الإبداع في الأدب كما هو في الفلسفة ينم عن التطلع إلى استقلالية في الطرح وفي الأسلوب، في الفكرة وفي التصور فإن ذلك لن يكون من دون شك دعوة إلى اللاقيمة حتى وإن خالفت السائد والمألوف بل إن معنى الإبداع يتضمن بالأساس شيئا من هذا القبيل.
النموذج النيتشوي
لقد أمكن للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أن يجمع في شخصيته الفذة والفاتنة وأن يدمج في بوتقة واحدة من خلال أعماله بين ميزات اعتقد لزمن طويل أنها من صميم الكتابة الأدبية ومن صنع الأديب وكذا بين خصائص رسخت في الأذهان أنها حكر على الفلاسفة ولا مجال للبحث عنها خارج النصوص الفلسفية. فالنص النيتشوي يرجع ببحثه الجينالوجي إلى ما قبل الفلسفة مدعما الأسطورة تارة ومنددا بالعقل في الوقت ذاته الذي يعلي من قيمة الإنسان الذهنية ويدعو إلى المضي في توسيع استعمالها وبين نقد العقل وتمجيده والثناء على الخيال والحط منه يتألف متن نيتشه.
يقول دانتو: “لا يمكنني تصور ميدان كتابة أكثر خصوبة من ناحية التعابير الأدبية من الفلسفة”[10] فإذا ما ذكرنا عدد الأنواع التعبيرية الأدبية على سبيل المثال لا الحصر سنجد القائمة طويلة جدا فمن المحاورة إلى المذكرة مرورا بنقاط المحاضرة، الشذرات fragments، الأشعار poèmes، الانتقادات critiques، الخطابات discours، التأملات méditations، الرسائل lettres، المحاولات essais، التفسيرات والشروحات explications، التعليقات commentaires، الوصايا testaments، الأفكارidées، الاختباراتtests، الاعترافات confessions، التحقيقات investigations، وأشياء أخرى يطول تعدادها تتجلى الرابطة المتينة التي يسعى دانتو إلى توطيدها بين الفلسفة كمجال فكري رحب وبين نوع الكتابة التي تتخذ من الأدب وأساليبه وسائل وأدوات. إن مقاربة دانتو لعلاقة الفلسفة بالأدب تتلخص – في اعتقادي – ضمن تصورين كلاهما يقرب الفلسفة من الكتابة الأدبية أو كنوع من الكتابة الأدبية:
التصور الأول يمكن أن يكون إبستمولوجي أو نصطلح عليه كذلك، لأنه يذهب إلى الإقرار بالعلاقة المذكورة آنفا، من جهة أن الفلسفة تتمحور حول الحقيقة وبالنظر إلى الواقع الذي سيكون محل تمركز الأدب يصبح فعل الكتابة منحصرا في وصف ما هو واقعي: ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. وبالتالي فإن ثنائية الحقيقي والزائف، هي التي تتحكم في الفلسفة كنوع من الكتابة الأدبية. يقول دانتو: “إن الكيفية التي تضع الفلسفة عبرها علاقة الأدب بالواقع يمكنها أن تجعل من الفلسفة بوصفها أدبا والفلسفة باعتبارها حقيقة شيئا واحدا.”[11] بينما التصور الثاني ويمكن أن نسميه لغوي يعمد إلى ثنائية شبيهة بالأولى لكنها لا تحتكم إلى معيار الحقيقة بقدر ما تعود إلى الخيال المؤدي إلى المعنى. ويعود هذا التصور إلى السيمنطيقيين حيث نجد الأطروحة التي تصب إلى جانب الفلسفة كنوع من الأدب، في الخيال الخارق لمنظّري السيمنطيقا حينما يفترضون الأشياء التي تشير إليها الألفاظ الوهمية[12]
في نفس الوقت الذي يكون فيه رورتي قد ساير بلوم في دعوته إلى تبني ثقافة أمريكية يتم فيها تبني إمرسون Emerson أي الفلسفة ما قبل تحليلية. وهي المرحلة التي لم تعرف فيه الثقافة الأمريكية تمييزا حاسما بين قطاعاتها كما كان يدعو في أوربا كانط Kant وأنصار الثقافة الفاصلة بين العلم والفلسفة والأخلاق مستبعدين الأدب من تصنيفهم. لقد اعتبر بلوم Bloom إمرسون Emerson الوجه الكبير “للأصالة الأمريكية لأنه واضع دين أدبي أمريكي: دين من دون لغة ومن دون كنيسة، دين للغات جديدة ما فتئت تنتشر، ديانة “اعتماد الذات على ذاتها” في مجال النقد والفلسفة”.
يتناول المؤلف تصور رورتي للفلسفة من دون الفلسفة أو للبراغماتية من دون منهج وللأخلاق من دون مبادئ وللعالم من دون جواهر وللحقيقة من دون مطابقة. وترتب عن ذلك نقد للإبستمولوجيا وتخلي الفلسفة تدريجياً عنها كموضوع مركزي لها، لتلتفت ناحية اللغة وتتبناها كموضوع أساسي إلى درجة الحديث عندها على منعرج هو المنعرج اللغوي. وهذا المنعرج لم يمرّ بالطبع من نقاش وما خلفه من جدل أحقيته بالاستحواذ على مباحث والارتكاس نحو أخطاء المعرفة في فترات سابقة على القرن العشرين، لذا فقد ساهم هذا النقاش في انبثاق علوم اللغة والمرجعيات اللغوية، وحسب دريدا Derrida الموجز أصبح كل شيء لغة، فكان تبعا لهذا أن استبدلت الإبستمولوجيا بالهيرمينوطيقا، وصارت الحقيقة ليست غاية للمعرفة، وإنما تابعة لفكرة الخطاب والتأويل والمنطوق والاستعمال الجيد والمفيد.
خاتمة:
يصعب إنهاء الكتابة بإصدار حكم حول إشكال، تعددت وتنوعت فيه المواقف والرؤى ليصير هذا الحكم جزء من أحكام لن يكون بطبيعة الحال نهائيا ومفردة أخيرة في سلسلة المفردات كما أرادها دريدا Derrida في تجاوزه لخطاب هيدغر Heidegger بنفس القدر الذي أراده هذا الأخير بالنسبة لخطابات سابقة وهكذا نقف عند عتبة رأي رورتي في أن كل خطاباتنا إن هي إلا أوصاف للعالم الذي نحيا فيه ولمشاعرنا ورغباتنا وطموحاتنا التي تحفزنا على الكتابة وعلى القراءة وعلى التواصل الإنساني.

قائمة بيبليوغرافية:

1. موريس بلانشو، أسئلة الكتابة، ترجمة، نعيمة بنعبد العالي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط. 1، 2004م.، ص ص 17-26

2. مجلة Autrement، العدد102 لسنة 1988م، حوار مع جاك دريدا، منشور بعنوان: هل هناك لغة فلسفية؟ Y a-t-il une langue philosophique ?

3. Richard Rorty, Conséquences du Pragmatisme: Essais: 1972-1980, traduit de l’anglais par Jean- Pierre Cometti, Paris, Éditions du Seuil, 1993.

4. Richard Shusterman, Vivre la philosophie: pragmatisme et art de vivre, traduit de l’anglais (Etats-Unis) par Christian Fournier avec la collaboration de Jean-Pierre Cometti, Klincksieck, 2001.

Richard Rorty, L’espoir au lieu du savoir: Introduction au pragmatisme, Édition française établie par Claudine Cowan et Jacques Poulain, Paris, Éditions Albin Michel, 1995.
6. جيل دولوز- كلير بارني، حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة، عبد الحي أزرقان- أحمد العلمي، إفريقيا الشرق، المغرب، لبنان، 1999

7. عبد الفتاح كيليطو في كتابه الأدب والغرابة: دراسات بنيوية في الأدب العربي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1997م.

8. Arthur Danto, littérature& philosophie, in, John Rajchman et Cornel West (sous la direction), La pensée américaine contemporaine, traduction de l’américain, (présentation de l’édition française par Jean-François Lyotard), traduction de l’américain par Andrée Lyotard-May, presses universitaires de France, Paris, 1er édition, 1991.

9. John Rajchman, La philosophie en Amérique, in, J. Rajchman & C. west, La pensée américaine contemporaine, traduction de l’américain, (présentation de l’édition française par Jean-François Lyotard), traduction de l’américain par Andrée Lyotard-May, presses universitaires de France, Paris, 1er édition, 1991.

[1] في هذه السنة-أي 1947م- نال فيها الأديب الفرنسي أندريه جيد جائزة نوبل للآداب وكانت تربطه بسارتر علاقة صداقة متينة وقد قال فيه سارتر بعد وفاته سنة 1951 نعتقد أنه مقدس ومعطر: فقد مات واكتشفنا كم يزال بيننا حيا.

[2] يلاحظ كذلك أن لكل من ريتشارد رورتي وأرتير دانتو مقالا يحمل نفس العنوان في مقاربة إشكالية الأدب والفلسفة. الأول كتب عن الفلسفة كنوع من الكتابة: بحث حول دريدا وهو منشور في كتابه الثاني المعنون نتائج البراغماتية (محاولات 1972-1980) أما الثاني فقد كتب مقالا بعنوان الفلسفة باعتبارها أدبا وفلسفة الأدب وهو منشور ضمن كتاب جون راجمان، الفكر الأمريكي المعاصر والذي وضع جان فرانسوا ليوطار تقديما لطبعته الفرنسية. وكل منهما يذهب- من زاويته – إلى الدفاع عن الارتباط والتداخل الموجود بين الفلسفة والأدب.

[3] يتحدث بلانشو عن هذين الطرفين كاتجاهين متعارضين: اتجاه يستدعي اتصالا ولغة يمكن أن نصفها بأنها لغة كروية [لغو بارمنيدس]…..واتجاه آخر يستدعي انفصالا جذريا. انفصال يسميه بلانشو أدب الشذرات نجده لدى المفكرين الصينيين، هيرقليطس وأفلاطون.

أنظر حول هذه الفكرة: موريس بلانشو، أسئلة الكتابة، ترجمة، نعيمة بنعبد العالي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط. 1، 2004م، ص ص 17-26

[4] راجع الحوار الذي أجرته مجلة Autrement مع دريدا في العدد102 لسنة 1988م وهو منشور بعنوان هل هناك لغة فلسفية؟ Y a-t-il une langue philosophique?

[5] أنظر مناقشة رورتي لهذا الموضوع بعنوان: La philosophie comme genre d’écriture: essai sur Derrida, p.p. 193-221, in, Richard Rorty, Conséquences du Pragmatisme: Essais: 1972-1980, traduit de l’anglais par Jean- Pierre Cometti, Paris, Éditions du Seuil, 1993.

[6] يمكن الرجوع حول المنعرج الجمالي إلى كتابات ريتشارد شوسترمان Richard Shusterman, Vivre la philosophie: pragmatisme et art de vivre حول شعرية وجمالية التجربة الفلسفية ومن بين كتاباته الهامة: Vivre la philosophie: pragmatisme et art de vivre, traduit de l’anglais(Etats-Unis) par Christian Fournier avec la collaboration de Jean-Pierre Cometti, Klincksieck, 2001.

[7] Richard Rorty, L’espoir au lieu du savoir: Introduction au pragmatisme, Édition française établie par Claudine Cowan et Jacques Poulain, Paris, Éditions Albin Michel, 1995, p.17.

[8] جيل دولوز- كلير بارني، حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة، عبد الحي أزرقان- أحمد العلمي، إفريقيا الشرق، المغرب، لبنان، 1999، ص ص 54-55

[9] هنا يتوجب أن نشير إلى رأي عبد الفتاح كيليطو في كتابه الأدب والغرابة الذي قدم له عبد الكبير الخطيبي واعتبره مدخل لنقد أدبي جديد حيث أن معنى الأدب Littérature كما هو متداول منذ العصر الحديث يختلف عن معناه قديما في التراث العربي.- أنظر: عبد الفتاح كيليطو في كتابه الأدب والغرابة: دراسات بنيوية في الأدب العربي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1997م.، ص ص 17-18

[10] Arthur Danto, littérature& philosophie, in, John Rajchman et Cornel West (sous la direction), La pensée américaine contemporaine, traduction de l’américain, (présentation de l’édition française par Jean-François Lyotard), traduction de l’américain par Andrée Lyotard-May, presses universitaires de France, Paris, 1er édition, 1991, p.141

[11] Ibid, p.142

[12] Ibid, p.143. (13) John Rajchman, La philosophie en Amérique, in, J. Rajchman & C. west, la philosophie américaine contemporaine, p.43
_________

*المصدر: مؤمنون بلا حدود

شاهد أيضاً

الفيلسوف “ابن رشد”: منهجه العقلاني وعلاقته بعلم الاجتماع وحقوق المرأة

(ثقافات) الفيلسوف “ابن رشد”: منهجه العقلاني وعلاقته بعلم الاجتماع وحقوق المرأة حاتم السروي لا نبعد كثيرًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *