علاء الدين العالم
عديدة هي الدراسات والبحوث التي تناولت الفيلسوف الألماني الأشهر فريدريك نيتشه (1844 /1900)، منها ما كتبه فلاسفة وعلماء اجتماع كبار كمارتن هايدغر وبيير بورديو، ومنها الدراسات الماركسية التي تناولت الفيلسوف الألماني بإجحاف وحنق واعتبرته الأساس الفكري للنازية. وإلى اليوم مازالت مراكز البحوث والجامعات في كل العالم تتناول نيتشه وفلسفته كمادة بحثية ما فتئت تزداد غنى وثراء مع مرور الوقت، وتؤكد أن هذا الفيلسوف لم يكن مجرد عالم نفس يهذي، أو شاعر هائم، إنما هو فيلسوف يحمل تباشير فلسفة المستقبل.
أحدث الترجمات العربية للكتب التي تناولت نيتشه كانت ترجمة حسن صقر لكتاب “نيتشه مكافحا ضدّ عصره” للفيلسوف الألماني رودولف شتاينر، صدر مؤخرا عن دار الحصاد. يأخذ هذا الكتاب أهميته لكونه كُتب في عصر نيتشه، “صدرت الطبعة الأولى منه عام 1895 أي إبان حياة نيتشه مما يمنحه شيئا من حرارة القرب زمنيا من موضوعه ويضفي عليه بعضا من نكهة القرن التاسع عشر”. هكذا يتناول الكتاب فلسفة نيتشه ضمن ظرفها التاريخي ومكانها من تاريخ الفكر الأوروبي عامة والألماني خاصة، هذا الفكر الذي ضربه نيتشه بمطرقته.
معاداة المثالية
يبدأ شتاينر “نيتشه مكافحا ضد عصره”، بـ”السمات الشخصية”، بقوله “وصف فريدريك نيتشه نفسه ذات يوم، بأنه المتأمل المتوحد، وصديق الألغاز. ليس هذا فحسب، بل إنسان جاء في غير زمانه، على أن كل من يسير على الدروب التي سار عليها لن يقابل أحدا، وهذا ما تجلبه معها الدروب التي لا تخص سوى صاحبها”، وفي هذا الفصل يدرس شتاينر سمات نيتشه الشخصية انطلاقا من فلسفته. بداية ينطلق من الشخصية المركزية في فلسفة نيتشه، أي زارا في كتابه “هكذا تكلم زرادشت”.
حيث يحاول شتاينر أن يستشف سمات نيتشه الشخصية من زارا، فيجد أن نيتشه وزاراه يجتمعان في نكران النبوة والابتعاد عن الإيمان، أي إيمان “أنتم تقولون بأنكم تؤمنون بزارا؟ ولكن ماذا يعني زارا؟ أنتم تؤمنون بي: ولكن أي شيء هم أولئك المؤمنون؟ أنتم لم تبحثوا حتى اللحظة عن أنفسكم، ولهذا عثرتم عليّ. وهذا ما يفعله المؤمنون كافة. وللسبب ذاته أقول: ما أصغر شأن المؤمنين”. ينهي شتاينر الفصل الأول بتأكيده على الحرية كسمة أساسية من سمات نيتشه الشخصية.
في أماكن معينة من الكتاب يتكلم شتاينر لغة نيتشه ووفق مبادئه محطما المسافة بينه وبين موضوع كتابه نيتشه فنجده يُجهر بالتوجه النيتشوي “إنهم يضللون الناس من حيث أنهم يزعمون بأن الإنسان الكامل ليس ذاك الذي يضع نفسه في خدمة حياته ذاتها، وإنما ذلك الذي يسفح حياته قربانا على مذبح المثل الأعلى”.
وفي مكان آخر من الكتاب يتكلم الكاتب عن الفكرة ذاتها، لكن مباعدا بينه وبين موضوع كتابه فنراه يتكلم عن فكرة الإنسان الأعلى/ السوبر مان (وهو موضوع الفصل الثاني) بقوله “وبديهي أن نيتشه يعلي من شأن الفرد الذي لا يضع نفسه في خدمة أهداف لا شخصية، وإنما يرى هدف وجوده ومعناه في ذاته”.
تتضح ميول الكاتب المادية ومعاداته المثالية الألمانية بما يتفق مع أفكار نيتشه، فهو يجد -كما نيتشه- أن “المثاليين عملوا على تقطيع أوصال الوجود الإنساني، بأن قسموه نفسا وجسدا تارة، وفكرا وواقعا تارة أخرى. ولم يكتفوا بذلك، بل أعلوا من شأن النفس والروح والفكر للحط من شأن الواقع الفعلي والجسد” يسعى شتاينر هنا إلى تحطيم الثنائيات المثالية القائمة على (نفس/ جسد، حقيقة/ وهم…) مقتفيا أثر نيتشه، ولعل هذا يعيدنا إلى عمل الفيلسوف الفرنسي المعاصر، جاك دريدا الذي أعاد الاعتبار في هذا الجانب إلى فلسفة نيتشه التي يؤكد الكتاب أنها كانت محاربة في ذلك الوقت (نهاية القرن التاسع عشر) بشدة وضراوة.
يلتفت الكتاب إلى جذر الخلاف بين فاغنر ونيتشه، فبعدما كان الثاني قد أعجب بالأول وعده أبرز الموسيقيين الألمان، انقلب عليه بعد أن غير فاغنر نظرته للموسيقى بعد تأثره بأفكار شوبنهاور الذي يرى أنه عبر الموسيقى يتحدث إلينا جوهر الأشياء في ذاتها وكأن الموسيقى “هاتف موصول بالعالم الآخر”.
إن هذا التحول في فكر فاغنر ونظرته للموسيقى دفعت نيتشه إلى القول عنه في كتابه أصل الأخلاق “لم يتكلم بعد ذلك بالموسيقى مطلقا، خطيب البطن هذا، خطيب الله، لقد صار يتكلم في الميتافيزيك” في إشارة من الكاتب على سخرية نيتشه من فاغنر الذي وصفه سابقا في كتابه “تأملات غير عصرية” بأنه “المجدد للروح الديونيسية”.
نقد جذري
يعكس الكتاب بعض إرهاصات الفكر الأوروبي المعاصر، من ذلك النقد الجذري الذي يقدمه الكاتب للفلسفة المثالية الألمانية ورائدها إيمانويل كانط، محتذيا حذو نيتشه الذي أسس لقطيعة مع الفكر المثالي الألماني، وهذا ما يؤكد عليه شتاينر في نهاية الفصل الثاني مؤكدا أن “الحركة الفلسفية التي تتحدث عن الشيء في ذاته، والتي تتكئ قولا وفعلا على كانط ليست سوى الإيمان بالعدم، إنها عدمية فلسفية”.
ويرى الكاتب أنه “ليس القصد من شأن هذه المعالجة أن تضيف شيئا إلى ما يكدسه خصوم نيتشه من اختلافات وتقولات، وإنما القصد منها تقديم إسهام ما من أجل التعرف إلى هذا الإنسان من وجهة نظر محددة، لا بدّ أن يكون لها شيء من الاعتبار لدى تقويم الحصيلة الفكرية له.
تلك الحصيلة الاستثنائية بلا جدال” كذلك يقدم شتاينر للفصل الثالث الذي يقرأ فيه فلسفة نيتشه على ضوء الرؤية السيكولوجية، وهذا ما يورده الكاتب صراحة بقوله “على أن كل من يتعمق في العالم الروحي لنيتشه، لا بد أن يصطدم بعدد لا يحصى من المسائل التي لا يمكن إلقاء الضوء عليها إلا من خلال علم النفس المرضي” انطلاقا من هذا يسوق شتاينر قراءته السيكولوجية للنص النيتشوي، إذ يبدأ من “ضمور حس الحقيقة الموضوعية” عند نيتشه، ويستشهد بذلك بقول الأخير في كتابه أفول الأصنام “الأشياء المستقيمة مثل الناس المستقيمين لا تحمل أسباب وجودها في ذاتها. إنه لمن قلة الذوق أن نعد على الأصابع الخمسة. وكل ما يحتاج إلى برهان يحمل في طياته قيمة وضيعة”. يتناول الكتاب كذلك في هذا الفصل ما يسميه “الروح التدميرية النيتشوية”.
ويبحر الكاتب عن جذور لمرض نفسي أوصل نيتشه إلى جنونه من جانب، وكان ملهمه من جانب آخر. ينطلق في البداية من الحالة الصحية السيئة التي اعترت نيتشه منذ شبابه المبكر، ومن ثم يبحث في عائلته عن مرض وراثي قد يكون انتقل صدفة لهذا العبقري، ليصل في النهاية إلى المشهد الأخير من حياة نيتشه في تورينو حينما انهار أمام أحد الأحصنة وفقد عقله إلى أن مات بعد ذلك بعشر سنوات.
يقول شتاينر “لقد رأيت رأي العين 1896 كل ما عاناه نيتشه والذي تمثل في حمله لحدس الطبيعة كأنه جمرة متقدة في وجدانه. وهو حدس ظل مهيمنا على النصف الثاني من القرن التاسع عشر”، كذلك ينهي المؤلف كتابه مؤكدا على حضور نيتشه القوي في الفلسفة الأوروبية، وربما لو قدّر لشتاينر نفسه العمر لرأى أن نيتشه حضر عند أهم فلاسفة القرن العشرين وشكلت فلسفته الأساس لفلسفة الكثيرين كمارتن هايدغر وميشيل فوكو وجاك دريدا وغيرهم الكثير.
______
*العرب