هل نحتاج إلى الفلسفة؟



*سعيد ناشيد


في سياق العمل على إعادة صياغة بعض الرّؤى المتعلقة بتاريخ الفلسفة قصد المساهمة في إصلاح العقليات وتنظيف الذهنيات، يستبدّ بنا سؤال جذري، لكنه سؤال واضح اللفظ صريح المعنى: هل للتفكير الفلسفي من دور في بناء الحضارة المعاصرة؟.. أم أنّ الحضارة المعاصرة – لكي تكتمل صياغة السؤال – كانت ستأتي بهذا المنوال الذي هي عليه الآن، بالتمام والكمال، وفي مستويات العقل والمؤسسات والسلوك وتنظيم الحياة كافة، من دون حاجة إلى تلك المفاهيم الكبرى التي صاغها ديكارت وسبينوزا وروسو وكانط وهيجل وماركس ونيتشه، إلخ؟ هل كنا سنفكر كما نفكر الآن، نتصرّف كما نتصرّف، بنفس بنية العقل السياسي، ونفس بنية العقل الأخلاقي، ونفس بنية العقل المعرفي، ونفس بنية العقل الجمالي، حتى ولو لم يقل الفلاسفة أي شيء؟
على الأرجح، حتى الذين يعتبرون الفلسفة مجرّد كلام فارغ لن يستطيعوا الإجابة بنعم من دون تلعثم، وإلا فمن أين كانت ستأتينا المفاهيم الأساسية التي بها نفكر الآن؟ إننا لا نفكر بواسطة اللغة فقط، لكننا نفكر بالأحرى بواسطة المفاهيم. لكن، طالما هناك من يصر – لدواع دينية أو تكنوقراطية أو لمجرّد العناد – على أن يكون جوابه بالإيجاب، فما علينا سوى مواصلة السؤال إلى آخر المدى.
لو غاب الفلاسفة عن التاريخ، لو لم يتكلموا، لو لم يكتبوا، لو لم يوجدوا أصلاً، فكيف سيكون حال العقل الإنساني اليوم؟ لو غابت عن تاريخ العقل الإنساني تلك النصوص المؤسسة للتفكير السياسي والأخلاقي والعلمي، والمتعلقة على سبيل المثال بجمهورية أفلاطون، وقواعد ديكارت، وأخلاق سبينوزا، ورسائل فولتير، وثلاثية كانط النقدية، وفينومينولوجية هيجل، ورأس مال ماركس، وجينيالوجيا نيتشه، إلخ، لولا تلك النصوص الكبرى، فكيف سيكون تفكيرنا الآن؟ كيف ستكون علاقتنا بالدين والحلم والأسطورة والخيال والحب والجمال؟ كيف ستكون قدرتنا على التفكير والنّقد والتأمل والتفكيك؟ كيف ستكون مقارباتنا، تمثلاتنا، تصوراتنا، إيديولوجياتنا، بمعنى – وها نحن نقولها – فلسفاتنا؟
طبعاً، لسنا ننكر وجود شعوب لديها حضارات متقدمة في بعض مجالات التنمية أو المعرفة الإنسانية من دون أن يكون لديها ما يماثل الفلسفة. ودعنا من الذين يقولون إننا نحتاج إلى إعادة تعريف الفلسفة حتى ندرك بأنّ جميع الحضارات تقوم على نوع من الفلسفة. الفلسفة ليست الحكمة، ليست الدين، ليست العلم، ليست الفن، ليست الأسطورة، ومن ثمة فإنها لا توجد إلاّ حيثما تتوافر لها شروط دقيقة. إنّها النشاط العقلي الأكثر هشاشة، غير أنّ الهشاشة هي ثمن السمو والرقي كذلك. فعلاً، لسنا ننكر أنّ التفلسف طبيعيّ في الإنسان، وأنّ أسئلة الأطفال تتشابه في كل الثقافات، لكن الاستمرار فيها يستدعي فرصاً لا تتيحها كل البيئات وقد لا تتوافر للجميع. كل الناس يتفلسفون لكن الاستمرار في التفلسف جهد استثنائي نادر يحتاج إلى بيئة حاضنة لا تلزم العقل بتقديس المسلمات.
تاريخ العقل
ثمة فرضية وضعها هيجل ولم نتمكن من دحضها إلى اليوم: تاريخ الفلسفة هو التاريخ نفسه. هذا واضح إذا ما اعتبرنا تاريخ الفلسفة هو تاريخ العقل، لكنه يصبح أكثر وضوحاً حين نعتبر تاريخ الفلسفة هو تاريخ المفاهيم الكبرى التي بواسطتها يستطيع عقل الإنسان أن يفكر في العالم والحياة، في الحضارة والسياسة، في الصيرورة والطبيعة، وأيضاً، في الموت والفناء، إنه تاريخ التصورات الكبرى التي يقارب بها عقل الإنسان مسائل الوجود والزمان والكينونة والمعنى. بهذا المعنى يكون الدفاع عن الفلسفة تعبيراً عن شيء آخر أكثر دقة، هو الدفاع عن العقل الإنساني نفسه.
هكذا، لا تحتاج الفلسفة إلى حجج لبيان أهميتها، فإنها السلّم الذي ارتقته الحضارة المعاصرة صعوداً متدرجاً نحو تحسين قدرة الإنسان المعاصر على التفكير في مواجهة الأوهام، تحسين قدرته على العيش في مواجهة الشقاء، وتحسين قدرته على التعايش في مواجهة عنف الإنسان ضد أخيه الإنسان. هذا الأفق قد لا يُدرك كله، هذا صحيح، وإن شئت القول قد لا يُدرك معظمه، هذا محتمل، غير أنه الأفق الذي لا بديل عنه إن قصدنا تركه، سوى الهمجية والانحطاط.
سنكون صرحاء أكثر، صحيح أننا قد لا نحتاج بالضرورة إلى الكثير من الفلسفة لكي نفكر في مسألة فصل السلط على سبيل المثال، لكن، هل كان مثل هذا التفكير ممكناً قبل أن يؤسس مونتسكيو لمفهوم فصل السلط؟ قد لا نحتاج إلى الكثير من الفلسفة لكي نفكر في مسائل العقد الاجتماعي وتفاصيلها، لكن هل كان مثل هذا التفكير ممكناً قبل أن يؤسس روسو لمفهوم العقد الاجتماعي؟ وصحيح أيضاً أن هناك أشخاصاً متسامحين بالفطرة ودونما حاجة إلى قراءة رسالة التسامح لفولتير أو لوك، لكن المؤكد أن قبل هذين الفيلسوفين لم يكن مفهوم التسامح قد تبلور كأفق للتفكير، أو ليس بعد. فقد كان التسامح –إذا ما وُجد- أقرب ما يكون إلى الحالة المزاجية غير المؤسسة نظرياً.
دور تأسيسي
إن التأسيس النظري ليس مجرّد تجريد صوري زائد على الحاجة، كما يظنّ خصوم الحق في التفكير الفلسفي، لكنه الشرط الذهني والعقلي لقواعد ممارسة حياتية وسلوك مدني يحترمهما عقل الإنسان أينما كان. لذلك تمثل الفلسفة بما هي تاريخ العقل، صيرورة متواصلة نحو تأسيس عقل إنساني كوني. فالعقل الكوني يمثل أفقاً نظرياً أمام النوع البشري كما توضح دينامية القوانين وروح التشريعات داخل المجتمعات الحديثة والمجتمعات السائرة في طريق الحداثة. لذلك ليس مستغرباً أن يكون أول أعداء الفلسفة في كل زمان ومكان هم دعاة الخصوصيات المحلية بمختلف خلفياتهم الثقافية والدينية.
رغم ذلك، وطالما أن الاعتراف فضيلة كما يقال، دعنا نعيد الاعتراف مرة أخرى بأنّ الكثير من المجتمعات غير الغربية قد لا تحتاج بالضرورة إلى الكثير من الفلسفة لغاية استيراد الديمقراطية والحداثة السياسية، هذا لا ننكره، لكن السؤال، هل كان بوسع الحضارة التي أبدعت تلك التجارب أن تبدعها في غياب الفلاسفة (فلاسفة الحق الطبيعي، فلاسفة العقد الاجتماعي، فلاسفة التنوير، إلخ)؟ وبعد كل هذا، هل يتم الآن تطوير الحداثة، فيما يسميه البعض بما بعد الحداثة، خارج إطار التفكير الفلسفي النقدي ممثلاً في جهود ليوتار وفوكو وديريدا وبودريار إلخ؟ وهل تطورت الديمقراطية الغربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، نحو استيعاب حقوق الأقليات، بمعزل عن النقد الفلسفي للأنظمة الشمولية من طرف فلاسفة من حجم حنا أرندت وكارل بوبر وهابرماس وغيرهم؟
ودعونا نواصل التساؤلات: هل نستطيع قراءة الفن المعاصر من دون أدوات الفلسفة الراهنة؟ هل نستطيع قراءة التحولات الجارية في فن المعمار من دون أدوات الفلسفة المعاصرة؟ هل نسينا بأن المهندس المعماري الذي أشرف على إعادة بناء مركز التجارة العالمي عقب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، دانيال لبسكيند، يستلهم كلياته النظرية من تفكيكية جاك ديريدا؟ هل نستطيع استيعاب الجيل الأخير من حقوق الإنسان خارج أدوات الفلسفة الراهنة؟ هل نستطيع تأسيس أخلاقيات البيولوجيا، بعيداً عن جهود الفيلسوف الألماني هابرماس؟
بكل تأكيد، الدفاع عن الفلسفة ليس مجرّد دفاع عن الفلسفة كفلسفة في حد ذاتها، وإنما هو دفاع عن شيء أعم وأهم، هو صيرورة تطور العقل الإنساني نحو تحسين القدرة على التفكير في عالم تطورت فيه تقنيات الاستلاب والاغتراب، تحسين القدرة على العيش في عالم محكوم بالاضطراب والارتياب، وتحسين القدرة على التعايش في عالم يحاصره الإرهاب والاحتراب.
أي نعم، بدون الفلسفة قد نحقق النمو والتقدم في بعض المجالات، لكن بدونها لن نذهب بعيداً. بل، بدونها قد لا نجرؤ على التفكير، مجرّد التفكير، في السؤال الكبير: إلى أين نحن سائرون.. إلى أين يجب أن نسير؟
ضرورة التفكير الفلسفي
عموماً، هناك شيء نعرفه ونعترف به، بإمكان أي مجتمع اليوم أن يلحق بركب الحضارة من دون حاجة في الضرورة إلى التفكير الفلسفي (الصين، الهند، جنوب إفريقيا، إلخ)،ويمكن لهذه المجتمعات أن تتعلم الصناعة والإدارة والتسيير والديمقراطية من المجتمعات الغربية، لكن السؤال، هل في وسعها أن تبدع أنساقاً علمية جديدة في الفيزياء الفلكية أو الميكروفيزياء تتخطى حدود أينشتاين وماكس بلانك وغيرهما؟ هل تستطيع المساهمة في اقتراح نظام أخلاقي متكامل وفعال ضمن أخلاقيات البيولوجيا بنحو يتخطى حدود كانط وهابرماس وغيرهما؟ هل تستطيع اقتراح منظومة جديدة لتطوير الممارسة الديمقراطية بنحو يتخطى حدود روسو وكارل بوبر وغيرهما؟ ألا يحتاج الإبداع النظري التصوري إلى ما كان يسميه أرسطو بعلم الكليات؟
_______
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *