*هاروكي موراكامي/ ترجمة: أحمد شافعي
عندما اختفى الفيل من بيته في بلدتنا قرأت عن ذلك في الجريدة. أيقظني منبهي كالعادة في السادسة وثلاث عشرة دقيقة. ذهبت إلى المطبخ أعددت قهوة وخبزا محمّصا، فتحت المذياع، فردت الجريدة على مائدة المطبخ، وبدأت أمضغ وأقرأ. أنا من الناس الذين يقرأون الجريدة من الأول إلى الآخر، بالترتيب، فاستغرقت وقتا حتى وصلت إلى مقالة اختفاء الفيل. كانت الصفحة الأولى متخمة بأخبار التوترات التجارية مع أمريكا، مضيت بعد ذلك بالأخبار المحلية، والسياسية الدولية، والاقتصاد، ورسائل القراء، وعروض الكتب، وإعلانات العقارات، والأخبار الرياضية، وأخيرا أخبار المنطقة.
خبر الفيل كان الخبر الأساسي في قسم أخبار المنطقة. لفت نظري العنوان المكتوب كالعادة بخط كبير: فيل تائه في ضاحية بطوكيو وتحته بخط أصغر قليلا عنوان فرعي خوف المواطنين يتصاعد. مطالبات بالتحقيق. ثمة صورة لشرطي يتفقَّد بيت الفيل الخاوي. في غياب الفيل، بدا خطأ ما في المكان. بدا أكبر مما ينبغي، فارغا خاويا أشبه بحيوان ضخم محنط انتزعت منه أحشاؤه.
مزيلا فتات الخبز أخذت أتمعَّن في كل سطر في الخبر. لوحظ اختفاء الحيوان للمرة الأولى في الثانية من صباح 18 مايو ـ أي قبل يوم ـ عندما جاء رجال من شركة الوجبات المدرسية لتسليم شحنة الطعام المعتادة (وكان الفيل في أغلب الأحيان يأكل بقايا غداء تلاميذ المدرسة الابتدائية المحلية). كانت الأغلال الحديدية التي تُثبَّت في ساق الفيل الخلفية لم تزل ملقاة على الأرض، مغلقة كما هي، ومع ذلك انسلَّ منها الفيل. ولم يكن الفيل هو الذي اختفى وحده. حارسه اختفى أيضا، الرجل الذي كان مسؤولا عن رعايته وإطعامه منذ البداية.
بحسب الخبر، كانت آخر مرة شوهد فيها الفيل والحارس في وقت ما بعد الخامسة من اليوم السابق (17 مايو)، وكان آخر من رأوه تلاميذ من مدرسة ابتدائية جاؤوا في زيارة لبيت الفيل لرسمه بالطباشير. قالت الصحيفة إن أولئك التلاميذ لا بد أن يكونوا آخر من رأوا الفيل لأن الحارس يغلق البوابة المفضية إلى محبسه عندما تنطلق صافرة الساعة السادسة.
وبحسب شهادة التلاميذ التي أُغفلت أسماؤهم، لم يكن هناك شيء غير معتاد في الفيل أو في حارسه. فالفيل كان واقفا حيثما وقف دوما، في منتصف القفص، محركا خرطومه بين الحين والآخر أو مضيِّقا عينيه المغمضتين. كان فيلا طاعنا في السن حتى أن كلَّ حركة منه كانت تبدو نتاج جهد هائل، لدرجة أن الذين كانوا يرونه للمرة الأولى كانوا يخشون أن ينهار في أي لحظة لافظا أنفاسه الأخيرة.
كان عمر الفيل هو سبب تبنِّي بلدتنا له في المقام الأول. فحينما أدَّت مشكلات مالية إلى إغلاق حديقة الحيوانات الصغيرة القائمة على أطراف بلدتنا أبوابها، عثر تاجر حيوانات على أماكن للحيوانات في حدائق منتشرة في شتَّى أرجاء البلدة. ولكن جميع الحدائق كانت لديها وفرة من الفيلة، فلم ترغب أيٌّ منها في استقبال ذلك الشيء الواهن المسنّ الذي بدا على وشك الموت بسكتة قلبية في أي لحظة. فبقي بعد ذهاب جميع رفاقه، في الحديقة المتداعية، وحيدا لقرابة أربعة أشهر، لا يجد ما يفعله، وليس معنى ذلك أنه كان لديه ما يفعله قبل ذلك.
تسبَّب ذلك في كثير من المصاعب، لكلٍّ من حديقة الحيوانات والبلدة. فالحديقة كانت قد باعت أرضها لمقاول كان يعتزم إقامة بناية سكنية شاهقة وقد حصل على ترخيص لها فعليا من البلدية. وكلما طال بقاء مشكلة الفيل بلا حل، كان المقاول يدفع فوائد بلا طائل. وكان قتل الحيوان أمرا غير مطروح أصلا. ولو أنه كان نسناسا أو وطواطا لسهل عليهم أن يتخلصوا منه، ولكن قتل فيل كان أمرا تصعب تغطيته، ولو انكشف لاحقا لكانت له عواقب هائلة. وهكذا التقت الأطراف المختلفة لبحث الأمر، وصاغوا اتفاقا على التخلص من الفيل العجوز:
1 ـ تنتقل ملكية الفيل إلى البلدة بلا مقابل.
2 ـ يوفِّر المقاول، دونما تعويض، أرضا لإسكان الفيل.
3 ـ يتولى ملاك حديقة الحيوان السابقون مسؤولية دفع راتب الحارس.
وكان لي اهتمام قديم بمشكلة الفيل منذ البداية، وكنت أحتفظ بدفتر يضم كل القصاصات الصحفية التي أمكنني العثور عليها. بل إنني ذهبت لحضور نقاشات مجلس البلدية للمسألة، ومن هنا قدرت على تقديم هذا السرد الكامل الدقيق للأحداث. وفي حين قد يبدو سردي مسهبا بعض الشيء، إلا أنني رأيت أن أعرضه هنا تحسبا لاحتمال أن تكون له علاقة مباشرة باختفاء الفيل.
عندما انتهى العمدة من التفاوض على الاتفاقية ـ بالبند الخاص بمسؤولية البلدة عن الفيل ـ بدأت تظهر معارضة للإجراء في صفوف الحزب المعارض (الذي لم أكن أتخيل له وجودا من الأساس حتى ذلك الحين). وسألوا العمدة :«لماذا تتولى البلدة ملكية الفيل؟» ، وأثاروا النقاط التالية (وأعتذر عن كل هذه القوائم، ولكنني أعتمد عليها في تسهيل فهم الأمور):-
1 ـ مشكلة الفيل مسألة تتعلَّق بمشروع خاص ـ هو حديقة الحيوان، والمقاول ـ ولم يكن هناك سبب لتدخل البلدة.
2 ـ الرعاية والتغذية سوف تتسبّبان في تكلفة مرتفعة.
3 ـ ما الذي ينوي العمدة عمله بشأن المشكلة الأمنية؟
4 ـ ما الفائدة التي تعود على البلدة من امتلاكها فيلها الخاص؟
وأعلن الحزب أن «لدى البلدة من المسؤوليات عددا كبيرا عليها أن تتولاه قبل أن تنخرط في مسألة الاحتفاظ بفيل منها: إصلاح المجاري، وشراء عربة إطفاء جديدة، وما إلى ذلك» ،وبرغم أنهم لم يصرِّحوا بذلك، فقد ألمحوا إلى صفقة سرية ما بين العمدة والمقاول.
وردًّا عليهم قال العمدة:
1 ـ لو سمحت البلدة بإقامة البناية السكنية، فإن عوائدها الضريبية سوف ترتفع ارتفاعا دراماتيكيا تكون تكلفة الاحتفاظ بفيل بالغة التفاهة مقارنة بها، وهكذا فمن المنطقي أن ترعى البلدة الفيل.
2 ـ الفيل مسنٌّ للغاية فلا يأكل الكثير وليس محتملا أن يمثل خطرا على أحد.
3 ـ عندما يموت الفيل سوف تنتقل إلى البلدة ملكية الأرض التي تبرّع بها المقاول للفيل.
4 ـ الفيل سيصبح رمزا للبلدة.
ووصل النقاش الطويل إلى نتيجة مفادها أن تتولى البلدة مسؤولية الفيل في نهاية المطاف. ولأن البلدة تعد بمثابة ضاحية سكنية عريقة، فقد كان سكانها موسرين نسبيا، وكان وضعها المالي سليما. وتبنِّي فيل لا مأوى له كان خطوة يمكن أن يؤثرها الناس، فهم يحبون الفيلة أكثر مما يحبون البلاعات وعربات الإطفاء.
أنا عن نفسي كنت أؤيد تولي البلدة مسؤولية الفيل. صحيح أنني كنت أضيق بالبنايات المرتفعة، لكنني أحببت فكرة امتلاك بلدتي فيلا.
أزيلت قطعة أرض من الغابة، ونقلت إليها قاعة الجمنازيوم القديمة الخاصة بالمدرسة الابتدائية لتكون بيتا للفيل. وصار على الرجل الذي عمل حارسا للفيل سنوات طويلة أن ينتقل ليعيش مع الفيل في بيته. وصارت بقايا غداء التلاميذ طعاما للفيل. وأخيرا نقل الفيل نفسه في مقطورة إلى بيته الجديد، ليقضي فيه سنواته الباقية.كنت ضمن المحتشدين لحضور المراسم المخصصة لبيت الفيل. وقف العمدة أمام الفيل وألقى خطبة (عن تنمية البلدة وإثراء منشآتها الثقافية)، وتلميذ من المدرسة الابتدائية، ممثلا للكيان الطلابي، ألقى كلمة: (من فضلك عش طويلا، وفي صحة جيدة، يا سيد فيل) وأقيمت مسابقة رسم (وصار رسم الفيل منذ ذلك الحين جزءا أساسيا من دراسة التلاميذ للرسم)، وقامت امرأتان في فستانين فضفاضين -ولم تكن أي منهما جميلة- بإطعام الفيل بضع موزات. وبقي الفيل خلال هذه الشكليات عديمة المعنى فعليا (وعديمة المعنى تماما بالنسبة للفيل) دون أن يتحرك تقريبا، فقط يمضغ الموز فارغ العينين فلما انتهى من أكلها صفق الجميع.
في ساقه اليمنى الخلفية كان قيد حديدي يبدو ثقيلا تمتد منه سلسلة سميكة لعل طولها ثلاثون قدما، وهذه بدورها مثبتة بإحكام في بلاطة من الخرسانة. وكان بوسع أي أحد أن يرى أي مرساة متينة تبقى الحيوان في مكانه: كان يمكن أن يبذل الفيل أقصى ما في وسعه من الجهد لمائة سنة دون أن يكسر قيده.
لم أدر إن كان الفيل متبرِّما من قيده. بدا ظاهريا على الأقل غير واع بكتلة الحديد الضخمة الملتفة على ساقه. كان يبقي نظرته الخاوية مثبَّتة على نقطة ما غير بعيدة في الفراغ، وأذناه وشعرات بيض قليلات على جسمه تتمايل بخفة في الهواء.
وكان حارس الفيل شيخا نحيلا بارز العظم، يصعب تقدير سنّه، فلعله كان في أوائل الستينيات أو أواخر السبعينيات. كان من الناس الذين لم يعد لعمرهم تأثير على مظهرهم وقد تجاوزوا نقطة معينة من الحياة. كان لبشرته نفس التورّد الداكن المسفوع صيفا وشتاء، وشعره ثابت وقصير، وعيناه ضيقتان. لم تكن لوجهه قسمات مميزة، لكن أذنيه شبه المستديرتين تمام الاستدارة كانتا بارزتين على جنبي رأسه بروزا مزعجا.
لم يكن شخصا غير ودود. فإن كلَّمه أحد كان يرد معبّرا عن نفسه بوضوح. وكان بوسعه إن شاء أن يكون جذابا، ولكنك كنت تستشعر دائما أنه منزعج إلى حدٍّ ما. كان إجمالا رجلا مسنا قليل الكلام، بادي الوحدة. كان يبدو أنه يحب الأطفال الذين يزورون الفيل، وكان يجتهد كي يكون لطيفا معهم، دون أن يبدو دفء حقيقي بينه وبينهم.
لم تكن الحميمية بينه وبين أحد إلا الفيل. كان الحارس يعيش في غرفة متصلة ببيت الفيل، ويقيم برفقته طيلة اليوم ملبيًّا احتياجاته. عاشا سويا لما يزيد عن عشر سنين، وكنت تستشعر القرب بينهما في كل حركة وفي كل نظرة. فكلما كان الفيل يقف ساكنا فارغ النظرات ويريده الحارس أن يتحرك، فكل ما كان عليه أن يفعله هو أن يقف بجواره، ويربت على ساقه الأمامية، هامسا في أذنه بشيء. فحينئذ، متمايلا بجرمه الهائل يتجه الفيل إلى حيث أشار الحارس بالضبط، ومن موقعه الجديد يواصل الحملقة في نقطة ما في الفراغ.
في العطلات الأسبوعية كنت أمرّ ببيت الفيل وأراقب هذه الحالات، دون أن أفهم مطلقا المبدأ الذي يقوم عليه التواصل بين الحارس والفيل. لعل الفيل كان يفهم القليل من الكلمات البسيطة (ومن المؤكد أنه عاش حياة طويلة تتيح له ذلك)، أو ربما كان يتلقى المعلومات من تغير التربيتات على ساقه. ويمكن أنه كان صاحب قدرات خاصة تشبه التخاطر الذهني فيستطيع قراءة العقول. ومرة سألت الحارس كيف يبلغ أوامره للفيل، فلم يزد الحارس على أن ابتسم وقال «نحن معا منذ وقت طويل».
ومضى عام ثم بدون إنذار اختفى الفيل كان في يوم موجودا، وفي اليوم التالي لم يعد له وجود.
ملأت لنفسي فنجانا ثانيا من القهوة وقرأت الخبر مرة ثانية، من البداية إلى النهاية. وكان في الحقيقة خبرا غريبا، من النوع الذي قد يثير شيرلوك هولمز. فيقول وهو يطرق على غليونه «انظر هنا يا واطسن. خبر مثير للغاية. مثير فعلا في واقع الأمر».
ما كان يضفي على الخبر غرابته هو وضوح ارتباك الصحفي وحيرته. وكان مصدر الارتباك والحيرة هو عبثية الموقف كله. كان بوسعك أن ترى كيف جاهد الصحفي ليعثر على طرق ذكية للالتفاف على العبثية كي يكتب خبرا «طبيعيا». ولكن مجاهدته تلك لم تحل الارتباك والحيرة إلا إلى أقصاهما.
فقد ذكر الخبر ـ على سبيل المثال ـ أن «الفيل هرب»، ولكنك تقرأ الخبر من أوله إلى آخره فلا تجد أن الفيل «هرب» بأي حال. لقد تلاشى في الهواء. أفصح الصحفي عن حالته الذهنية المضطربة بقوله إن «تفاصيل» قليلة تظل «غير واضحة» ولكن هذه لم تكن بالظاهرة التي يتم تناولها باستعمال مصطلحات عادية من قبيل «التفاصيل» و»غير واضحة»، أو هكذا شعرت.
أولا، كانت هناك مشكلة القيد المعدني الذي كان مثبتا في قدم الفيل. فحينما عثر عليه كان لا يزال مغلقا. والتفسير الأكثر منطقية لهذا هو أن يكون الحارس فتح القيد، وأزال الحلقة عن ساق الفيل، ثم أغلق الحلقة من جديد، وهرب مع الفيل ـ وهذه فرضية تشبثت بها الصحيفة على الرغم من أن الحارس لم يكن يحمل مفتاح القيد! فلم يكن للقيد غير مفتاحين، وكلاهما كان محفوظاـ لأغراض أمنية ـ في خزانتين مغلقتين، إحداهما في مقر الشرطة والأخرى في مقر الإطفاء، وكلاهما بعيدان عن يد الحارس ـ أو أي شخص قد يسعى إلى سرقتهما. وحتى لو نجح أحد في سرقة أي منهما، فلم يكن ثمة معنى لأن يعنى ذلك الشخص بإعادة المفتاح بعد استعماله. غير أنه عثر على المفتاحين في الصباح التالي في خزانتيهما في مقري الشرطة والإطفاء. وهو ما يصل بنا إلى استنتاج أن الفيل أخرج ساقه من القيد الحديدي بدون مساعدة من مفتاح، وهو أمر محال تماما ما لم تنشر قدم الفيل نفسها.
المشكلة الثانية تمثلت في طريق الهرب. فقد كان بيت الفيل وأرضه محاطين بسور ضخم يقارب ارتفاعه العشرة أقدام. كانت مشكلة الأمن قد حظيت بنقاش ساخن في مجلس البلدة، واستقرت البلدة على نظام قد يعد مفرطا إلى حد ما في تأمين فيل واحد. فوضعت أسياخ حديدية ثقيلة في أساسات خرسانية سميكة (وتحملت شركة المقاولات العقارية تكلفة السور)، ولم يكن هناك إلا مدخل واحد، عثر عليه مغلقا من الداخل. فلم يكن هناك سبيل إلى هروب الفيل من ذلك المحبس الشبيه بمعتقل.
المشكلة الثالثة تمثلت في آثار الفيل. فوراء نطاق بيت الفيل سهل شديد الميل، لا يمكن أن يصعده الحيوان، فحتى لو افترضنا أن الفيل تمكن بطريقة منا من استلال قدمه من الحلقة الحديدية، وقفز فوق السور المرتفع لعشرة أقدام، سيبقى من الصعب عليه أن يهرب إلى الطريق المواجه لنطاق البيت، ثم إنه لم يترك موطئ قدم على التراب اللين في الطريق.
في ظل هذا اللغز المركب، بهذه الحيرة وكل هذا اللف والدوران، لم تبق للخبر الصحفي إلا نتيجة واحدة محتملة: هي أن الفيل لم يهرب. الفيل اختفى.
غير أنه لا حاجة بنا إلى أن نقول إنه لا الصحيفة ولا الشرطة ولا العمدة كانوا مستعدين للاعتراف ـ في العلن على الأقل ـ بأن الفيل اختفى. كانت الشرطة مستمرة في التحقيق، والمتحدث باسمها يقول إن الفيل إما أن يكون «أُخذ أو سُمح له بالهرب بطريقة محسوبة وبارعة. ونظرا لصعوبة إخفاء فيل، فهي مسألة وقت فقط قبل أن نحل القضية». وأضاف إلى هذا التقدير المتفائل قوله إنهم يخططون للبحث في منطقة الغابات المحيطة بمعاونة أندية الصيد المحلية وخبراء الرماية في فرقة الدفاع الذاتي.
عقد العمدة مؤتمرا صحفيا، اعتذر فيه عن عدم كفاية موارد الشرطة. وفي الوقت نفسه أعلن أن «نظامنا المتبع في تأمين الفيل لا يقل بأية حال عن الأنظمة المتبعة في أي حديقة حيوانات في البلد. بل إنه في واقع الأمر أقوى وأكثر تأمينا من أي قفص عادي». وقال أيضا إن «ما جرى عمل خطير وغير منطقي ومعاد للمجتمع وكريه إلى أقصى حد، ولن نسمح بمروره بدون عقاب».
ومثلما فعلوا في العام السابق، أطلق أعضاء حزب المعارضة في مجلس البلدة الاتهامات. «إننا نعتزم النظر في مسؤولية العمدة السياسية، وقد تواطأ مع مشاريع خاصة ليبيع لأهل البلدة حزمة من السلع باسم حل مشكلة الفيل».
وفي ثنايا تغطية صحفية نقلت الجريدة عن إحدى الأمهات، وهي في السابعة والثلاثين من العمر، وقد «بدا عليها القلق»، قولها «إنني أخشى أن أترك أبنائي يخرجون للعب».
تضمن التحقيق موجزا تفصيليا بخطوات قرار تبني البلدة للفيل، ورسما من أعلى لبيت الفيل وأرضه، وتاريخا موجزا للفيل والحارس الذي اختفى معه. كان الرجل نوبورو وتانابي، في الثالثة والستين، من تاتياما في ولاية تشيبا. عمل لسنين كثيرة حارسا لقسم الثدييات في حديقة الحيوان، وكان يحظى «بثقة كاملة من سلطات الحديقة، لما له من دراية واسعة بهذه الحيوانات ولطبيعته الشخصية الحسنة». كان قد جيء بالفيل من شرق أفريقيا قبل اثنين وعشرين عاما، ولم يكن يعرف الكثير عن عمره بالضبط أو عن «شخصيتـ»ـه. وانتهى التحقيق بمطالبة الشرطة مواطني البلدة أن يتقدموا بأي معلومات قد تكون متعلقة بالفيل.
فكرت في هذا الطلب لوهلة وأنا أشرب فنجان قهوتي الثاني، لكنني قررت أن لا أتصل بالشرطة، لأنني لم أفضل أن أقيم علاقة معهم إذ أمكنني أن أساعد ولأنني شعرت أن الشرطة لن تصدق ما يمكن أن أخبرهم به. فما نفع الكلام مع أشخاص كأولئك لن يعنوا يوما بالبحث في إمكانية أن يكون الفيل ببساطة قد تلاشى؟
أنزلت دفتر قصاصاتي من على الرف، وقطعت خبر الفيل، وألصقته فيه. ثم غسلت الأطباق وخرجت إلى المكتب.
شاهدت البحث في نشرة أخبار السابعة. كان هناك صيادون يحملون بنادق ثقيلة محشوة بطلقات المخدر، وقوات من فرقة الدفاع الذاتي، ومن الشرطة، ومن رجال المطافئ، يمشطون كل بوصة من الغابة والتلال في المنطقة الملاصقة بينما تحوم طائرات الهليوكوبتر من فوقهم. ونحن بطبيعة الحال نتكلم عن نوعية من «الغابات» و»التلال» كالتي يمكن أن تصادفها في ضاحية خارج طوكيو، فلم تكن منطقة البحث هائلة الحجم. وفي ظل اشتراك هذا العدد الكبير من الناس، كان ينبغي أن يكفي يوم واحد لإنجاز المهمة. ثم إنهم لم يكونوا يبحثون عن قاتل مجنون ضئيل الحجم، بل فيل أفريقي ضخم. فكانت الأمكان المحتملة لاختفاء شيء بذلك الحجم محدودة. ومع ذلك لم يتمكنوا من العثور عليه. وظهر رئيس الشرطة على التليفزيون قائلا: «إننا نعتزم الاستمرار في البحث»، واختتم المذيع التقرير بقوله «من الذين أطلقوا سراح الفيل؟ وكيف؟ وأين أخفوه؟ كل ذلك لا يزال سادرا في الغموض».
استمر البحث أياما عديدة، ولم تستطع السلطات اكتشاف خيط وحيد إلى مكان الفيل. وظللت أتمعن في التقارير الصحفية، وأقصها جميعا، وألصقها في دفتري، دون أن أتجاهل حتى الرسوم الكاريكاتيرية في الموضوع. وسرعان ما امتلأ الدفتر وصار عليّ أن أشتري غيره. وبرغم حجم القصاصات الهائل، لم تحتو جميعها على معلومة واحدة من النوع الذي كنت أبحث عنه. فإما أنها كانت تقارير تافهة أو ضالة تماما: لا يزال الفيل مفقودا، ظلام كثيف يحيط بالبحث. وحتى تلك النوعية من المقالات صارت أندر وأندر بعد أسبوع واحد من ذهابه، إلى أن اختفت الأخبار تماما. وكان قليل من المجلات الأسبوعية يصدر بمواد مثيرة ـ بل إن إحداها استعانت بوسيط روحاني ـ ولكنها عدمت ما تبرِّر بها عناوينها الجامحة. بدا أن الناس كانوا قد بدأوا يزيحون قضية الفيل إلى فئة «الألغاز الغامضة» الهائلة. ما كان لاختفاء فيل مسن وحارس فيل مسن أن يترك أي أثر على مسار المجتمع. ستبقى الأرض على دورانها الرتيب، والساسة يصدرون أقاويلهم التي لا يؤخذ عليها، والناس يتثاءبون في طريقهم إلى العمل، والطلبة يذاكرون لامتحانات الالتحاق بالجامعة. وفي غمرة مد الحياة اليومية وجزرها، لا يمكن أن يستمر الاهتمام بفيل مفقود إلى الأبد. وهكذا مرَّ عدد من الشهور فلم يميِّزها شيء، مرور جيش منهك بشباك بيت.
وكلما كانت تسنح لي لحظة فراغ، كنت أذهب لزيارة البيت الذي لم يعد الفيل يعيش فيه. كانت سلسلة سميكة قد وضعت حول قضبان البوابة الحديدية المفضية إلى الفناء، منعا للناس من الدخول. وأنظر فأرى باب بيت الفيل قد أوصد بالسلاسل هو الآخر، كأنما كانت الشرطة تحاول تعويض فشلها في العثور على الفيل بمضاعفة طبقات الأمن على البيت الذي بات خاليا من الفيل. هجرتْ المنطقة، وحلت محل حشود الزوار القديمة أسراب يمام مسترخية على السطح. لم يعد أحد يعتني بالأرض، فنبت فيها عشب صيفي أخضر كثيف كأنه كان في انتظار أن تسنح تلك الفرصة. ذكّرتني السلسلة الملتفة حول باب بيت الفيل بثعبان هائل يحرس قصرا خربا في غابة مهجورة. كانت شهور كافية من غير فيله كافية لتضفي على المكان هالة من الخراب والهجران معلقة فوقه كأنه غمامة معتمة حبلى بمطر كثيف.
قابلتها قرب نهاية سبتمبر. كانت قد ظلت تمطر في ذلك اليوم من الصباح إلى المساء، ذلك المطر الواهن الرتيب الضبابي الذي غالبا ما ينهمر في ذلك الوقت من العام، ماحيا رويدا رويدا ذكريات الصيف المحفورة بالنار في الأرض. منساقةً عبر المزاريب، مضت الذكريات تنجرف إلى البالوعات والأنهار، محمولة مع الموج إلى المحيط الداكن العميق. لاحظ أحدنا الآخر في حفل أقامته شركتي لإطلاق حملتها الإعلانية الجديدة. أعمل في قسم العلاقات العامة بشركة كبرى في مجال تصنيع الأجهزة الكهربائية، وفي ذلك الوقت كنت مسؤولا عن الترويج لخط إنتاج للتجهيزات المطبخية كان مجدوَلا له أن يطرح في الأسواق في موسم الأعراس في الخريف والعلاوات الشتوية. كانت وظيفتي تقتضي التفاوض مع العديد من مجلات المرأة لنشر مقالات مصاحبة، لا من النوع الذي يستوجب الكثير من الذكاء، فقد كان عملي هو التأكد من أن المقالات التي ستنشرها هذه المجلات لن تكون شبيهة بالإعلان. وحينما كانت المجلات تحقق لنا الشيوع، كنا نجازيها بنشر إعلانات في صفحاتها. كانوا يحكّون لنا ظهرنا، ونحكّ لهم ظهرهم.
وبوصفها محررة مجلة موجهة إلى ربات البيوت الشابات، فقد حضرت حفلنا بحثا عن مادة لإحدى هذه «المقالات». وتصادف أن كنت مسؤولا عن التجول معها، واستعراض سمات ما صمَّمه لنا مصممنا الإيطالي من ثلاجات وآلات قهوة وأفران ميكروويف وبوتاجازات وخلاطات مبهرة.
قلت «إن النقطة الأهم هي الوحدة، فحتى أفضل المنتجات تصميما تموت إذا افتقرت إلى التوازن مع ما حولها. وحدة التصميم، ووحدة اللون، ووحدة الوظيفة، هذا ما يحتاج إليه الكيتشن [المطبخ] اليوم قبل أي شيء آخر. البحوث تنبئنا أن ربة البيت تقضي أكبر قدر من وفتها في الكيتشن. الكيتشن هو مكان عملها، ومكتبها، وغرفة معيشتها. ولذلك فإنها تفعل كل ما في وسعها لتجعل الكيتشن مكانا مبهجا. وليست لهذا علاقة بالحجم. فسواء كان كبيرا أم صغيرا، فإن هناك مبدأ أساسيا يحكم الكيتشن الناجح، وهذا المبدأ هو الوحدة. وهذا هو المفهوم الكامن وراء سلسلة تصميماتنا الجديدة. انظري إلى سطح البوتاجاز على سبيل المثال …»
أطرقت تدوّن أشياء في دفتر صغير، لكن كان واضحا أنها لا تولي اهتماما كبيرا بالمادة، ولم تكن لي أي مصلحة شخصية بسطح البوتاجاز. كان كلٌّ منا يؤدي مهمته.
قالت حينما انتهيت «أنت تعرف الكثير عن المطابخ»، واستعملت المفردة اليابانية بدلا من كلمة الكيتشن الإنجليزية».
قلت بابتسامة مهنية «هذا ما أعيش منه. وبعيدا عن هذا، أنا أحب الطبخ. لست بارعا، لكنني أطبخ لنفسي كل يوم».
«ومع ذلك لا أعرف إذا كانت الوحدة هي أهم شيء بالنسبة للمطبخ».
وجّهتها قائلا «نحن نستخدم كلمة الكيتشن، ليس الأمر مهما، ولكن الشركة تريدنا أن نستعمل الكلمة الإنجليزية».
«آه، آسفة، ولكنني لا أزال أتساءل: هل الوحدة بهذه الأهمية في الكيتشن؟ ما رأيك أنت؟»
قلت بابتسامة عريضة «رأيي الشخصي؟ هذا لا يظهر ما لم أخلع ربطة العنق. ولكنني اليوم أقوم باستثناء. المطبخ في الحقيقة بحاجة فعلية إلى قليل من الأشياء أكثر من حاجته إلى الوحدة. ولكن هذه الأشياء الأخرى أشياء لا يمكن أن نبيعها. وفي عالمنا البرجماتي هذا، ما لا يباع يكون بلا أهمية».
«هل العالم على هذا القدر من البرجماتية؟»
أخرجت سيجارة وأشعلتها بولاعتي.
قلت «لا أعرف. وجدت الكلمة على لساني فقط. ولكنها تفسر الكثير. وتسهّل العمل أيضا. يمكن التلاعب بها، والخروج بتعبيرات محكمة: (جوهريا برجماتي) و(برجماتي الجوهر). إذا نظرت إلى الأمور هذه النظرة، يمكنك تحاشي الكثير من المشكلات المعقدة».
«يا لها من رؤية مثيرة!»
«ليس إلى هذه الدرجة. هذا رأي كل الناس. أوه، بالمناسبة عندنا شراب ممتاز. هل تهتمين بشرب شيء منها؟»
«أشكرك. سيكون هذا رائعا».
وفيما نثرثر أثناء شراب، أدركنا أن بيننا الكثير من المعارف المشتركين. لم يكن مجال عملنا بحيرة مترامية الأطراف، فلو أنك ألقيت حصاتين أو ثلاثا، فمن المؤكد أن تقع اثنتان منهما على معارف مشتركين. فضلا عن أنها وأختي الصغرى تخرجتا في جامعة واحدة. وبمسارات من هذا النوع، امتد الحوار بنا في سلاسة.
لم تكن متزوجة، ولا أنا. كانت في السادسة والعشرين، وأنا في الحادية والثلاثين. كانت ترتدي عدسات لاصقة، وأنا أرتدي نظارة. امتدحت ربطة عنقي، وامتدحت سترتها. قارنّا الإيجارات، واشتكينا من الوظائف والرواتب. بعبارة أخرى، كان الإعجاب قد بدأ بيننا. كانت امرأة جذابة، وغير متعالية على الإطلاق. وقفت هناك أكلمها لعشرين دقيقة كاملة، دون أن أكتشف سببا واحدا يدعوني إلى أن لا أفكر فيها تفكيرا إيجابيا.
وبينما كان الحفل ينتهي، دعوتها إلى الانضمام إليّ في قاعة الشراب في الفندق، وهناك مضينا نستأنف حوارنا. ظل مطر صامت ينهمر خارج شباك القاعة البانورامي، وأضواء المدينة تبعث رسائل مغبشة عبر الضباب. كان سكون خانق يخيم على قاعة الشراب شبه الخاوية. طلبت كوكتيل الروم والليمون daiquiri المثلج وطلبت اسكوتش مع الثلج.
مرتشفين كأسينا، مضينا في حوار كالذي يجري بين رجل وامرأة التقيا للتو وبدأ بينهما إعجاب. تكلمنا عن أيام الكلية، وذوقينا في الموسيقى، والرياضة، والروتين اليومي.
ثم حكيت لها عن الفيل. لا أتذكر كيف حدث الأمر بالضبط. لعلنا كنا نتكلم عن شيء له علاقة بالحيوانات، ومن هنا بدأ الكلام. أو ربما كنت بلا وعي أبحث عن شخص ما – يحسن الإنصات – لأعرض عليه وجهة نظري الخاصة في اختفاء الفيل. أو ربما هو الشراب الذي أطلق لساني.
على أي حال، في الثانية التي تركت الكلماتُ فيها شفتيّ، عرفت أنني وقعت على آخر المواضيع ملاءمة لهذه المناسبة. لا، لم يكن ينبغي أن آتي على ذكر الفيل. كان الموضوع – ماذا أقول؟ – مكتملا، مغلقا، أكثر مما ينبغي.
حاولت بسرعة أن أغيّر الموضوع، لكن شاء الحظ أن تكون شديدة الاهتمام باختفاء الفيل، فما كدت أعترف أنني شاهدت الفيل مرات عديدة، حتى أمطرتني بوابل من الأسئلة – أي نوع من الفيلة كان؟ في رأيي كيف هرب؟ ما الذي كان يأكله؟ ألم يكن يمثّل خطرا على المجتمع؟ إلى آخر تلك الأسئلة.
لم أقل لها أكثر مما كان يعرفه الجميع من الجرائد، لكن بدا أنها استشعرت تحفظا في نبرتي. ولم أكن قط كذابا بارعا.
بدون أن تظهر ملاحظتها أي غرابة في سلوكي، شربت كأسها الثاني وسألتني «ألم تشعر بالصدمة حينما اختفى الفيل؟ هذا ليس بالشيء الذي يمكن أن يتنبأ به أحد».
«لا، ربما لا» وأخذت واحدة من المقرمشات من تل في طبق زجاجي على مائدتنا، فكسرتها إلى قطعتين، وأكلت أحد النصفين. وضع لنا النادل مطفأة نظيفة.
نظرت لي في انتظار. أخرجتُ سيجارة ثانية وأشعلتها. كنت قد أقلعت عن التدخين قبل ثلاث سنوات ثم رجعت مرة أخرى عندما اختفى الفيل.
«ولمَ ترى أنه (ربما لا)؟ أتعني أنك كنت تتنبأ بهذا؟»
قلت مبتسما «لا بالطبع، ما كان لي أن أتنبأ بذلك. اختفاء فيل فجأة ذات يوم، هذا أمر لا سابقة له، ولا حاجة إلى أن يحدث شيء كذلك. أمر غير منطقي بالمرة».
«لكن إجابتك مع ذلك تظل شديدة الغرابة. فحينما قلت إن هذا ليس بالشيء الذي يمكن أن يتنبأ به أحد قلت أنت (لا. ربما لا) أغلب الناس كانوا ليقولوا (نعم، عندك حق) أو شيئا من هذا القبيل. أتفهم قصدي؟»
أطرقت إطراقة غامضة ورفعت يدي مستدعيا النادل. وساد صمت مشحون بينما ننتظر النادل أن يحضر لي كأس الاسكوتش الثاني.
قالت برقة «يصعب عليَّ فهم هذا. لقد كنت تجري معي حوارا طبيعيا بصورة مثالية حتى دقيقتين مضتا، إلى أن ثار موضوع الفيل على الأقل. ثم حدث شيء طريف. لم أعد قادرة أن أفهمك. خطأ ما. هل هو الفيل؟ أم أن أذنيّ تتلاعبان بي؟»
قلت «ما من خطب في أذنيك».
«إذن الأمر يتعلق بك أنت. المشكلة فيك».
وضعت إصبعي في كأسي أحرك به قطع الثلج. راق لي الصوت في كأسي.
«لا أصفها بالـ(مشكلة) بالضبط. الأمر ليس ذا شأن خطير. أنا لا أخفي أي شيء. كل ما هنالك أنني لست متأكدا أن بوسعي أن أتكلم عنه بصورة حسنة، لذلك أحاول أن لا أقول أي شيء. لكن عندك حق – الأمر شديد الغرابة».
«ماذا تعني؟»
لم تكن هناك فائدة، كان لا بد أن أحكي لها القصة. تناولت جرعة من كأسي وبدأت.
«الأمر أنني ربما أكون آخر شخص رأى الفيل قبل أن يختفي. رأيته بعد السابعة من مساء السابع عشر من مايو، ولوحظ غيابه في عصر الثامن عشر. لم يره أحد بين الوقتين لأنهم يغلقون بيت الفيل في السادسة».
«لا أفهمك. إذا كانوا يغلقون البيت في السادسة، فكيف رأيته أنت في السابعة؟»
«هناك تل ما وراء بيت الفيل. تل منحدر في ملكية خاصة، يخلو من أي طرق. هناك نقطة في خلفية التل، يمكنك منها أن تري بيت الفيل. ربما أكون الشخص الوحيد الذي يعرف بأمرها».
كنت قد عثرت على ذلك الموضع بالمصادفة المحضة. بينما أسير في المنطقة في عصر يوم سبت، ضللت الطريق ووصلت إلى قمة التل، حيث يوجد صدع ما. عثرت على مساحة ممهدة، لا تتسع لأكثر من شخص، وعندما نظرت من وسط الآكام، رأيت سطح بيت الفيل. وأسفل حافة السطح فتحة كبيرة بعض الشيء، عبرها كنت أرى بوضوح بيت الفيل من الداخل.
صارت عادة لي بعد ذلك أن أزور ذلك المكان بين الحين والآخر لأنظر إلى البيت حينما يكون الفيل بداخله. ولو كان أحد سألني لماذا كنت أكبِّد نفسي مشقة القيام بمثل ذلك، لما عثرت على إجابة لائقة. كنت أستمتع وحسب بمشاهدة الفيل في وقته الشخصي. لم يكن في الأمر أكثر من ذلك. بالطبع لم يكن بوسعي أن أرى الفيل في بيته أثناء الظلام، لكن في الساعات الأولى من المساء كان الحارس يبقي المصابيح مضاءة طوال الوقت الذي يعتني فيه بالفيل، فكان يتسنَّى لي أن أتمعّن في المشهد بتفاصيله.
ما كان يبهتني على الفور حينما كنت أرى الفيل والحارس وقد صارا بمفردهما هو الإعجاب الواضح من أحدهما للآخر، وذلك ما لم يكن يظهر عليهما مطلقا وهما بالخارج أمام الجمهور. كانت المحبة بينهما بادية في كل حركة. بل كان يبدو أنهما يختزنان مشاعر النهار كله، حريصين ألا ينتبه إليها أحد، ثم يطلقانها بالليل حينما يصيران وحدهما. ولا يعني هذا أنهما كانا يفعلان أي شيء مختلف حينما ينفرد كلٌّ منهما بالآخر. فقط كان الفيل يقف، فارغ النظرات كعادته، ويؤدي الحارس المهام المتوقعة في نهاية المطاف من أي حارس: يدعك بدن الفيل بفرشاة أرضيات، يلملم فضلات الفيل الهائلة، ينظف موضع طعام الفيل. لكن لم يمكن من الممكن أن يخطئ أحد الدفء الخاص، وما بينهما من إحساس بالثقة. ففيما كان الحارس يمسح الأرض، كان الفيل يحرك خرطومه ويربت على ظهر الحارس. وكنت أحب أن أرى الفيل وهو يفعل ذلك.
سألتني «هل كنت دائما مغرما بالفيلة؟ أقصد، ليس هذا الفيل بالذات؟»
قلت «همممم، حين أفكر في الأمر، نعم أنا أحب الفيلة. فيهم شيء يبهجني. أعتقد أنني طالما أحببتهم. ولا أعرف السبب».
«وفي ذلك اليوم أيضا، وبعد أن غربت الشمس، أتصوّر أنك كنت وحدك على التل، مطلا على الفيل. في أي يوم قلت من شهر مايو؟»
«السابع عشر. في السابعة مساء السابع عشر. كان النهار طويلا جدا في تلك الفترة، وفي السماء وهج محمرّ، ولكن المصابيح كانت مضاءة في بيت الفيل».
«وهل كان هناك شيء غير معتاد بين الفيل والحارس؟»
«يعني، كان ولم يكن. لا أستطيع أن أقول بالتحديد. الأمر ليس كأن تقفي أنت في مواجهتي تماما. لعلي لا أكون أكثر من يمكن التعويل عليه من الشهود».
«ماذا حدث بالضبط؟»
أخذت جرعة من كأسي الذي بات يغلب عليه الماء. كان المطر خارج القاعة لا يزال ينهمر، دون أن يقوى أو يضعف عن ذي قبل، كان عنصرا ثابتا في الأفق لا يتغير.
«لم يحدث شيء فعليا. كان الفيل والحارس يفعلان ما كانا يفعلان دائما – تنظيف وأكل ولعب بطريقتهما الودودة تلك. لم يكن ما يفعلانه هو المختلف. بل منظرهما. شيء ما في ما بينهما من توازن».
«التوازن؟»
«في الحجم. في جسديهما. جسد الفيل وجسد الحارس. بدا أن التوازن تغيّر بصورة ما. انتابني إحساس بأن الفارق بينهما قد تقلص».
أبقت نظرها شاخصا على كأسها لبعض الوقت. كنت أرى أن الثلج قد ذاب وأن الماء يشق طريقه عبر الكوكتيل شأن تيار ضئيل في المحيط.
«تعني أن الفيل تضاءل؟»
«أو أن الحارس تضخّم. أو الأمران معا».
«ولم تقل هذا للشرطة؟»
قلت «لا. بالطبع لم أقله. أنا متأكد أنهم ما كانوا ليصدقونني. ولو قلت لهم إنني كنت أشاهد الفيل من الصدع في وقت كذلك لصرت أول المشتبه به لديهم».
«طيب هل أنت متأكد أن التوازن بينهما تغيّر؟»
«محتمل. لا أستطيع أن أقول إلا (محتمل). ليس لديّ أي دليل، ومثلما قلت مرارا، كنت أنظر إليهما عبر فتحة التهوية. ولكنني نظرت إليهما بتلك الطريقة مرات لا أعرف عددها من قبل، لذلك لا أعتقد أنني قد أرتكب خطأ في أمر أساسي كالعلاقة بين حجميهما».
في الواقع، لقد تساءلت وقتها إن كانت عيناي تتلاعبان بي. جربت أن أغمضهما وأفتحهما وأن أهز رأسي، فبقي حجم الفيل على حاله. كان يبدو بلا شك أنه قد تقلص، وبدرجة كبيرة ، لدرجة أنني فكرت أن تكون البلدة قد جاءت بفيل جديد، فيل أصغر حجما. ولكنني لم أكن سمعت عن شيء كذلك، وما كان ليفوتني خبر صحفي عن الفيلة. فلو أن ذلك لم يكن فيلا جديدا، فالنتيجة الوحيدة المحتملة هي أن يكون الفيل، لسبب أو لآخر، قد تقلّص. وفيما كنت أشاهد، بدا لي أن لهذا الفيل الجديد نفس حركات القديم. فكان يدق في سعادة بقدمه اليمنى على الأرض أثناء غسله، وبخرطومه الذي بات أصغر يربت على ظهر الحارس.
كان مشهدا غامضا. ناظرا من خلال الفتحة، انتابني إحساس بأن نوعا مختلفا وباعثا على القشعريرة من الزمن يحكم بيت الفيل دون أي مكان آخر. وبدا لي أيضا أن الفيل والحارس يسلمان نفسيهما عن طيب خاطر لهذا النظام الجديد الذي كان يحاول أن يحتويهما، إن لم يكن قد احتواهما بالفعل.
ربما لم أقض في متابعة المشهد في بيت الفيل إلا أقل من نصف ساعة. أطفئت المصابيح في تمام السابعة والنصف – قبل المعتاد بكثير – ومنذ تلك اللحظة سادت العتمة كل شيء. انتظرت في مكاني، آملا أن تضاء المصابيح من جديد، فلم يحدث ذلك قط. وكان ذلك آخر ما وقعت عليه عيناي من الفيل.
«إذن أنت تعتقد أن الفيل ظل يتقلص إلى أن صغر حجمه حتى خرج من بين القضبان، أو أنه ذاب إلى العدم. هل الأمر كذلك؟»
قلت «لا أعرف. كل ما أحاول أن أفعله الآن هو أن أتذكر ما رأيته بعيني، بأقصى دقة ممكنة، ولا أكاد أفكر في ما حدث بعد ذلك. الصورة البصرية التي لدي في غاية القوة، وبصدق، مستحيل عمليا بالنسبة لي أن أتجاوزها».
ذلك كل ما أمكنني قوله عن اختفاء الفيل. وحدث ما كنت أخشاه، كانت القصة من الاكتمال والتميز في ذاتها بحيث لا يمكن استعمالها موضوعا لحوار بين رجل وامرأة تقابلا للتو. شملنا الصمت بعدما انتهيت من حدوتتي. فأي موضوع كان يمكن أن يأتي به أحدنا بعد قصة عن فيل تلاشى، قصة من الواضح أنها لا تتيح مجالا للمزيد من النقاش؟ مرَّرت إصبعها على حافة كأس الكوكتيل، وجلست أنا أقرأ وأعيد قراءة الكلمات المطبوعة على الورقة الموضوعة تحت كأسي. ما كان ينبغي مطلقا أن أحكي لها عن الفيل. لم تكن بالقصة التي تحكيها بأريحية لأي شخص.
قالت بعد صمت طويل «عندما كنت فتاة صغيرة، اختفت قطتنا. ولكن طبعا اختفاء قطة واختفاء فيل – هذان أمران مختلفان».
«صحيح. ما من مقارنة. تأملي فارق الحجم».
بعد ثلاثين دقيقة، ودّع أحدنا الآخر خارج الفندق. تذكرتْ فجأة أنها نسيتْ مظلتها في قاعة الشراب بالداخل، فركبت المصعد لأحضرها إليها. كانت مظلة حمراء باهتة ذات مقبض ضخم.
قالت «شكرا»
قلت «تصبحين على خير».
تلك كانت آخر مرة رأيتها فيها. تكلمنا مرة على الهاتف بعد ذلك، حول بعض التفاصيل في مقالتها المصاحبة. وفيما كنا نتكلم، فكّرت جديا في دعوتها إلى عشاء، ولكنني لم أدعها في نهاية المطاف. بطريقة أو بأخرى لم يبد ذلك مهما.
وكان ذلك شعوري غالبا بعد تجربتي مع اختفاء الفيل. كنت أبدأ التفكير في شيء ما، ثم أعجز عن التمييز بين النتائج المحتملة للقيام به أو عدم القيام به. وغالبا ما أشعر أن الأشياء المحيطة بي فقدت توازنها السليم، وإن يكن محتملا أن إدراكي أنا للأشياء هو الذي يتلاعب بي. لعل نوعا من التوازن بداخلي أنا هو الذي اختل منذ مسألة الفيل، ولعل ذلك يتسبب في ظاهرة خارجية أصابت عيني بطريقة غريبة. لعله شيء ما بي أنا.
أستمر في بيع الثلاجات وأفران الخبز وآلات القهوة في العالم البرجماتي معتمدا على بقايا صور وذكريات لدي من العالم. وكلما حاولت أن أزداد برجماتية، ازددت نجاحا في البيع – ونجحت حملتنا متجاوزة أكثر التنبؤات تفاؤلا – وازداد عدد الذين أنجح في بيع نفسي لهم. ربما يرجع ذلك إلى أن الناس يبحثون عن الوحدة في هذا الكيتشن الذي نسميه العالم. وحدة التصميم. وحدة اللون. وحدة الوظيفة.
لا تكاد الجرائد تنشر شيئا عن الفيل الآن. ويبدو أن الناس نسوا أن بلدتهم في يوم من الأيام كان لديها فيل. ذبل العشب الذي نبت في بيت الفيل، وبدا في المكان إحساس شتاء دائم.
الفيل والحارس تلاشيا تماما. ولن يرجعا مرة أخرى.
_____
عن ترجمة جاي روبن إلى الإنجليزية.
*جريدة عُمان