الياس خوري
في فيلم عماد برناط وغاي دافيدي ‘الكاميرات الخمس المحطمة’، لم استطع ان لا اتذكر جوليانو مير خميس خلف كاميرا رائعته ‘ابناء ارنا’.
كان اغتيال جوليانو وسقوطه شهيدا امام مسرح الحرية في جنين، هو الخاتمة التراجيدية لفيلم لا يشبه الأفلام، لأنه بُني من حجارة الزمن الواقعي، وتشكّل على ايقاع موت اطفاله/ ابطاله امام المشاهدين، محولين الزمن الفلسطيني الى اطار يكثّف علاقة الانسان المعاصر بزمننا الوحشي.
عماد برناط نقل التجربة الى حيّز آخر، والى اطار جديد. فبينما شكل ابطال فيلم جوليانو شهداء الانتفاضة الثانية، يتشكل هذا الفيلم على الايقاع الخافت والمتواصل لبدايات الانتفاضة الفلسطينية الثالثة التي تساهم المقاومة الشعبية الفلسطينية في صنع تجلياتها المختلفة.
نحن امام رجل يروي سيرة قريته بلعين وسيرة مقاومة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية ومقاومة جدار الفصل العنصري، بعيون خمس كاميرات تحطمت في سياق تصوير شخصي وغير محترف، يدمج الخاص: ولادة الطفل جبريل، بالعام: مقاومة الجدار، بطريقة مباشرة وواضحة وسلسلة. الكاميرا تشهد وتتكسر، لذا اضطر عماد برناط الى استخدام خمس كاميرات كي يصور خمسة اعوام من حياة المقاومة الشعبية وبطولاتها.
ولا يصل الاندماج بين الخاص والعام الى ذروته الا حين يسقط باسم ابو رحمة ‘الفيل’ شهيدا في احدى مواجهات الجدار، نتيجة اصابة مباشرة بأسطوانة غاز رماها عليه جندي اسرائيلي.
‘الفيل’، الشاب الجميل والمرح الذي كان يستعد للزواج، يسقط في عيوننا وامام عين الكاميرا، محولا المشاهد التي صورها عماد برناط خلال خمس سنوات الى لحظة تراجيدية، تلخّص مأساة علاقة الفلسطينيين بأرضهم. وعندما نستمع الى الطفل جبريل وهو يسأل لماذا قتل الجيش ‘الفيل’، ببراءة الحزن التي تسم علاقة الفلسطينيين بأرضهم، نفهم ان الفلسطينيين امس واليوم وغدا كتبوا ويكتبون واحدة من اكبر مآسي الانسان، انها مأساة علاقة الانسان بأرضه.
الأرض التي حلت عليها لعنة التاريخ من خلال حركة عنصرية نظمت الوحشية وعقلنتها، هي مأساة الفلسطينيين الكبرى، لأنهم صاروا هم الأرض، وامتلأت اغصان زيتونهم بأرواح الضحايا التي التجأت الى شجرة النور لتشهد كيف يقوم المستوطنون بمحاولة قتل الأرواح عبر احراق الأشجار المضيئة من قلب جذوعها.
كما في فيلم جوليانو، لا يستطيع المشاهد هنا ان يمنع احتراق الدموع في عينيه. سمة زمن النكبة المستمر منذ اربعة وستين عاما هي العيون المحترقة. شعب كامل يعيش منذ اكثر من نصف قرن في عيون نضب ماؤها بالقهر والاذلال. مأساته ليست ذاكرته الموشومة بالدم، بل مأساته الكبرى ان من احتل ارضه وامتهنها لا يترك له مجالا للتذكر، لأنه يصنع له في كل يوم مأساة جديدة.
فيلم برناط يحمل كل سمات التواضع، انه مدرسة في الهواية التي تصير معادلا للحياة. من الواضح ان المحصلة هي عمل توليفي تم على طاولة المونتاج، وان سياقات التصوير كانت تسجل حب الحياة. الحياة في وسط المآسي تتجاوز الاحتراف وتقدّم لنا صورة عن الألم الفلسطيني، ألم الفلاحين الفقراء وهم يواجهون اقدارهم بسلاح وحيد هو اجسادهم العارية التي صارت امتدادا لأرضهم المستباحة.
وصول هذا الفيلم الى ترشيحات الأوسكار انتصار كبير للفلاح الفلسطيني في مواجهة آلة الاعلام الصهيونية الضخمة. وصل الفيلم الى هنا، لأن الصرخة الانسانية التي اطلقها ‘الفيل’ وهو يسقط محتضنا الأرض، تصادت مع براءة الطفل جبريل وهو يسأل الموت، وتداخلت بملحمة صمود المقاومة الشعبية في مسيرتها الطويلة التي بدأت الآن تفتح ابواب الشمس في السجون الاسرائيلية، تمهيدا لمواجهة سجن الاحتلال وشراهته للأرض والدم.
بالطبع لم تفز الكاميرات المحطمة بالاوسكار، وكان هذا متوقعا، لكنها فازت بما هو اكبر من كل الجوائز، فازت بقلوبنا التي نبضت مدة ساعة ونصف على ايقاع حياة قرية فلسطينية تدعى بلعين صار اسمها اليوم مرادفا للحرية.
بالطبع اثيرت بعض الاسئلة السخيفة والسطحية حول التطبيع، بسبب مشاركة المخرج والناشط الاسرائيلي غي دافيدي في اخراج الفيلم. اختنقت هذه الأصوات لأن بلاغة المقاومة الشعبية كانت كفيلة بأن تعطي هذا الفيلم صفته، انه فيلم فلسطيني وعن فلسطين، ومشاركة المخرج دافيدي هي هنا تأكيد لما ذهب اليه ايال سيفان في حواره مع ايلان بابيه عن الارشيف المشترك، الذي هو ارشيف الأرض الفلسطينية ومآسيها.
في المقابل لم يتورع النجم الصاعد في السياسة الاسرائيلية، رئيس حزب البيت اليهودي نفتالي بنيت من التعبير على صفحته في الفيسبوك (هآرتس 1-3-2013)، عن سعادته بعدم فوز ‘الكاميرات الخمس المحطمة’ بجائزة الاوسكار، وانه ‘لن يذرف دمعة على هذا الفيلم’.
هذا كلام واضح، فالخواجة نفتالي بنيت الذي ركز حملته الانتخابية على ضرورة عدم الانسحاب من الضفة الغربية، وعلى الدعوة الهستيرية لضم الأراضي من الغور الى القدس وضواحيها لا يملك القدرة على النظر في الألم، ففاشيو النكبة اليوم كأسلافهم من فاشيي حرب النكبة عام 48، لا تستطيع قلوبهم المتحجرة بالهوس العنصري والديني ان ترى ألم جبريل، وان تحمل مشاعر انسانية نحو الطفل الذي ولد في بداية الفيلم، وصار في الخامسة عند نهايته.
انهم يقتلون الأطفال.
هذا ما احسست به وانا ارى ‘الفيل’ يموت، وهذا ما رسمه جوليانو وهو يروي حكايات موت اطفال ارنا، وهذا ما اشار اليه عرس راني المشلول بسبب اصابته بطلقة اسرائيلية امام الجدار.
لم يقل لنا جبريل ان الجدار سيهدم، لكنني رأيت في عينيه صورة الجدار وهي تتداعى امام صرخة الألم.
تحية الى عماد برناط وغاي دافيـــدي، والى الألم الفلسطيني.
( القدس العربي )