*عبدالله الزعبي
خاص ( ثقافات )
أنصح من لم يقرأ الرواية بعد وعنده نية في ذلك أن لا يطلع على هذا المقال، لأن فيه تسليط لأهم الأحداث وكشف للحبكة واللغز التي تدور حولهما!.
المهم، قبل أن أتعرف عليه كروائي من خلال روايته الأولى «آسيا» الصادرة مؤخرا عن الأهلية للنشر بدعم من وزارة الثقافة 2016، كنت أعرف محمد الصالحي شاعرا يكتب القصائد بين الفينة والأخرى ولم يجمعها حتى اللحظة في كتاب.
يتطرق الصالحي في «آسيا» إلى شيء من تاريخ الشيوعيين في المنطقة ربما من خمسينات وحتى ثمانينات القرن المنصرم، إلى كوادر الحزب وقواعده، نضالات أعضاءه وعذاباتهم، أحلامهم وآمالهم في السعي نحو التحرر الوطني والحرية والعدالة الإجتماعية. يجيء بالأحداث على صياغة البيانات السرية وطباعتها ونشرها في الشوارع والأحياء والأزقة وفي الجامعات باسم الحركة الطلابية النشطة التي هي أذرع حزبية بطبيعة الحال، يأتي على تنظيم مظاهرات وإضرابات تطالب بواقع معيشي أفضل وأدوات إنتاج فاعلة وأنظمة سياسة غير تابعة أو عميلة، ويعرض كيف تم دفع الثمن غالياً بالتعذيب الجسدي والنفسي داخل السجون وإجبار الأعضاء على إعلان البراءة من حزبهم. يجسد ذلك بعدة شخصيات تبدأ بمصطفى الوراق الذي أحرق جسده في المعتقل فمات قبل أن يتم إغلاق الملف على أن ما حصل محض حادث عرضي وقضاء الله وقدره، لتمر بعدها بشخصيات أخرى أهمها مهيب الموصلي.
تدور الرواية في شقين: السيكولوجيا والسياسة، بسرد متوازي فصلا إثر فصل حتى النهاية. الشق السيكولوجي على لسان جاك المصاب بشيزوفرينيا حادة، يخلق لديه هذا المرض مخيلة هائلة فيصنع شخصيات جديدة ومسرح تلعب به هذه الشخصيات وسيناريوهات وأحداث تدور وتفاعل بينه وبينها. يجلس في مشفى الأمراض النفسبية ويسرد للطبيب ما تجود عليه قريحة الروائي المتمرس والمجرب، وبحس لا يخلو من السخرية.
– اسمي جواد يا سيد، أنا لست جاك ولا يمكن أن أكون، حاولت السفر عبر المطار هربا من التجنيد إلا أنهم أمسكوا بي هناك وقادوني إلى الحرب في «أورا»: حيث يقتل جيشنا المدنيين الأبرياء، ويحتل الأرض ويسلب الموارد، ويحارب لجان المقاومة الشعبية التي يسميها «خلايا الإرهاب» بطبيعة الحال، وجدت نفسي طبيبا يدواي الجرحى رغما عن أنفه، ولأنني شيوعي صغير قررت أن أصير عميلاً، هل ثمة عيب في ذلك؟! أنا جواد مهيب الموصلي الشيوعي الصلب قررت أن أصير عميلا لخلايا الإرهاب، وأن أحب كاميليا التي كان يقتادها الجنود مع نساء أورا أخريات للرقص داخل المعسكر في الليل، ضاجعتها وذقت عسيلتها، كاميليا الأجمل من آلهة إغريقية، نمت معها على العشب في الغابة، وصرت أنقل لها وللثوار الأخبار والتحركات الجديدة فأحدثوا في صفوفنا خسائر فادحة، كان ذلك نوع من التكفير عن الذنب يا سيد، تكفير ضئيل عن الذنب. على أية حال، أنا لا أقول لك «دكتور»، ولا يمكن أن أقول، وحتى لا تنطلي عليّ كذبتك الحقيرة في أنني مريض أسمي هذا المكان اللعين سجن لأنه بالفعل سجن مقيت، لست مريضا ولا يمكن بحال من الأحوال أن يكون اسمي جاك، تركت حبيبتي آسيا في البلد وذهبت إلى الحرب باحثا عن كاميليا، وهكذا لم أحصّل العنب ولم أقتل الناطور!.
جاك المجنون لم يحب آسيا، لم يقبلها خلسة أسفل الدرج في المدرسة، ولم ينم مع كاميليا الفتاة الثائرة في أورا، ذلك كله ضرب من الخيال وصناعة لخيوط وهمية تفصله عن الواقع، لقد كان مثليا وحبيبه مالك اقتادة إلى مصح الأمراض العقلية بعد أن قدر الحال الذي وصل إليه!. وطنه التابع الضعيف الذي يمنى بالهزائم ويقتل أفرداه وينهب كل ما فيه، يتحول فجأة إلى دولة امبريالية تحتل وتضرب بيد من حديد، إنه حلم المهزوم بالنصر وحلمه بعدو عادل ينقلب على نفسه!. شخصية خيالية ترمّز للواقع وتمثل الإنسان العربي الحر؛ مفصوم، يتقلب بين ذاته الفردية وذاته الجمعية، يحاول أن يوازن بين أشياءه الخاصة وهمومه الشخصية الكثيرة من جهة، وبين همه الكبير في الإفلات من عقال الرأسمالية والحروب إلى تحرير البلاد ودحض الصهيونية العالمية وسحب الخنجر المغروس في خاصرة فلسطين من جهة أخرى.
ربما ثمة ثغرة لم يسدها الصالحي برأيي وهي السياق الذي قاد جواد إلى الحال التي وصل إليها، سواء في ما يتعلق بحالته النفسيته أو بمثليته، والسبب في ذلك هو أن الشق السيكولوجي، كما سميناه، قائم على لعبة اللغز الذي لا ينكشف إلا في الخاتمة، بإمكاني أن أقوم بتأويل ما حصل كما فهمت بأن جواد تشرد وعاش وحيدا في مهب الأزقة والحواري والجنوح بعد موت أبيه وأمه وتحت أثر الصدمة والفاجعة.
الشق السياسي يرويه مهيب الموصلي والد جاك وزوج الرفيقة صبا، يبدأ حياته السياسية وهو في سن العشرين باجتماع حزبي داخل سيارة تدور في الشوارع بين الناس مع مراد وصبا والمعلم مصطفى الوراق، ثم ما يلبث أن يشرع بمهمته الحزبية الأولى فيحمل سلة من المناشير يغطي وجهها البيض البلدي ويسلمها إلى أحد الرفاق، مناشير تدعو إلى إضراب عام للطلبة والمدرسين في الجامعات بعد رفع الرسوم، يترقى بعد أن يثبت الثقة والصلابة، ويظهر الإنتماء والإطلاع والثقافة، فيعمل في صياغة البيانات ويتسلم مهمة المطبعة في بيت الرفيقين رجاء وهاني داخل غرفة لا يخرج منها أبدا نظرا لحساسية الفكرة وتمثيلها الوجه الظاهر للحزب، إلى يكتشف أمره بالنهاية فيعتقل، يخرج من المعتقل وبنشئ الإتحاد العام للطلبة بتحالفات مع أحزاب أخرى ويلقي خطاب الإشهار فيعتقل من جديد ويقاد إلى أسوأ السجون على الإطلاق ويعذب ويسلخ لحمه عن عظمه، يحجر عليه في بيته مدة ثلاث سنين، يصير أمينا عاما للحزب الشيوعي ويقرر الثورة على النظام مع أحزاب وقوى وطنية متنوعة فيزج بالسجن للمرة الأخيرة التي لن يرجع بعدها إلى البيت، سيقتل تحت التعذيب على يد رفيقه في الخلية الحزبية الأولى والإجتماع الحزبي الأول، المحقق الجلاد مراد الذي تخاذل وتهاون ولم يترك لمسيرته النضالية أن تطول؛ فبعد حجزه وتعذيبه مدة أسبوعين فقط على خلفية مظاهرات تطالب بإسقاط الحكومة وتندد برفع الدعم عن القمح والمحروقات تبرأ من الحزب واعترف على أسماء الرفاق، ثم سرعان ما انضم إلى وحدات الأمن وانقض على رفيقه القديم، كان يشعر بعقدة النقص تجاهه فظل يفرغ كل أحقاد الماضي فيه حتى أرداه قتيلاً.
وجواد الذي يشدد على أن اسمه ليس جاك، عندما انضم إلى صفوف الجيش وقيد إلى الحرب صاغرا، لا حول له ولا قوة، تفاجأ الجنرال باسمه وبحس التمرد في داخله، فصلبه إلى شجرة وعراه من كل ملابسه وراح يجلده بالسوط حتى تقرح منه اللحم وذاب.
– على نفسها جنت براقش يا حبيبتي الحلوة كاميليا، نقلت لك الأخبار عن قدوم القائد العسكري فكمنت له وقتلته برصاصة من سلاحك القناص، وها إنهم اليوم ينتخبون الجنرال قائداً جديدا، الجنرال منشمر الأنف، بشع الأنفاس، قبيح الوجه والملامح، لم أكن أعرف اسمه ولا أريد، تفاجأت وأنا أقرأ ببيان التهنئة أنه مراد ذاته الذي قتل والدي مهيب الموصلي. أنا براقش العاهرة التي جنت على نفسها، ودقت مسمار النعش الأخير، لم أكن أعلم أن على الضعيف أن لا يحفر حفرة لأخيه، لأنها آخر الأمر ستكون من نصيبه وسيقع فيها بلا أدنى شك!.
وأنا وائل، لا يمكن أن يكون اسمي عبدالله الزعبي، وعيت على الدنيا وهم ينادونني بهذا الإسم فخرست ورضيت، لم تكن لدي رغبة في أن أولد أصلا لكنني ولدت على أية حال، وها إنني أقول لكم أن آسيا الرواية وليس الحبيبة المتخيلة تتمتع بلغة لينة وسلسة، سرد منساب غير جاف يتخلله شيء من الشعر، لغة تنطوي على توصيفات شعرية متينة غير مرتبكة لا تقود إلى الإنزعاج كما هو الحال في بعض الأعمال الروائية سيما التي يكتبها الشعراء، يروي فيها جاك ومهيب لكن جاك وهو يتداعى أمام الطبيب يخلط الحابل بالنابل فيحدث بلسانه ولسان جواد وكاميليا تعبيرا عن الحالة الهيستيرية التي يمر بها.
من السخف أن تناديني عبدالله الزعبي يا سيد، قلت لك اسمي وائل. أحب أمندا. أما ليلى فأنام معها بين أشجار البلوط والصنوبر في دبين، ألدغها بين فخذيها وأعوي عليها كالذئب، وهكذا بكل بساطة تتلوى بين يدي كأفعى جلجامش وتسرق عشبتي السحرية، بكل خفة يتأرجح نهداها المشاكسان طوال الوقت جيئة وذهايا، يعرجان بي إلى السماء ثم يهبطان بي من جديد إلى الأرض، وما إن أنتهي منها وتنتهي مني حتى تصيح صياح المرأة التي نام معها سركون بولص في إحدى قصائده: «ماذا فعلت يا عبدالله الزعبي؟!» فأغضب لأن اسمي وائل. أكتب الآن عن رواية المدعو محمد الصالحي، لأنه ببساطة صديقي، هل تستغرب ذلك؟ أنا حر يا أخي، والموضوع ليس إلا مافيا ثقافية، دعنا نقول أنها خلية حزبية ثقافية، حكّ لي حتى أحكّ لك، أكتب اليوم عن روايتك وتكتب في الغد عن مجموعتي الشعرية التي لن أصدرها أبدا، وإن لم تفعل ستنجلي أمامي القضية: أكون أنا مهيب الموصلي وتكون أنت أيها المدعو السخيف محمد الصالحي: المحقق الجلاد مراد، أو أظل على اسمي وائل وتميط أنت اللثام عن وجه جساس الغدار.
__________
*شاعر من الأردن.