*حاوره: أيهم محمود العباد
خاص ( ثقافات )
(مَن جَدَّ وَجَدَ) بهذه الجملة “الخرقاء” يفتتح الكاتب العراقي علي غدير روايته (سفاستيكا) الحائزة على جائزة بغداد للرواية العراقية لعام 2016 “لما توفرت عليه من مهارة في السرد وقدرة على توظيف الوقائع ومعالجتها فنياً” حسب ما جاء في تقرير اللجنة التنظيمية العليا للجائزة.
ببساطة، هي رواية حظ مسكونة بالألغاز، كلما رفعت عينك عن لغز سقطت في آخر أعمق منه، ووحده مؤلفها يمكن أن ينجو من هذا الاختبار، فمن أجل ذلك، وضعنا هذه الأسئلة، فجاء الحوار مع علي غدير ممهوراً بماء السرد بعيداً عن إجابات الشك واليقين..
*من أين تولدت لديك فكرة “سفاستيكا” ؟ ولماذا نقلت أحداثها من عالم الواقعية إلى أجواء الغرائبية؟
– تعاضدت عدة دوافع ساهمت في بلورة فكرة الرواية، كان أولها وقوع سيرة شخصية لسياسي عراقي لمع نجمه بعد العام ٢٠٠٣، جاءت السيرة لتكشف النقاب عن تاريخه القذر، وما شدني إليها أن صاحبها ينتمي إلى ذات بيئتي، الأمر الذي أدام زخم المعلومات اللازمة. أما الدافع الآخر فهو اطلاعي على (نظرية الجذب) التي تتحدث عن السر وراء سعادة قلةٍ، وتعاسة أغلبية، في حين أن بإمكان الأغلبية أن تسعد. ولأجل التمويه على هوية السياسي من ناحية، وتجريد الموروث الديني، الذي يتعارض مع نظرية الجذب من ناحية أخرى، تحتم أن أطرز أحداث الرواية ببعض الخيال، وذلك يتوافق تماماً مع رؤيتي الشخصية، بأن الواقع أغرب من الخيال. صادف أن اكتملت الفكرة في ذهني، في الوقت الذي رشحني الروائي العالمي (فاضل العزاوي) للاشتراك بـ(ندوة البوكر/ ٣) في (أبو ظبي)، وتحتم عليّ أن أتقدم بقصة أو بفصل من رواية، فشاركت بالفصل الأول من (سفاستيكا)، التي لاقت استحسان الجميع.
*هذا على مستوى بناء الشخصية، إذاً كيف تجاوزت الإشكالية المكانية؟ أعني العلاقة الايديولوجية بين القرية والمدينة؟
– العلاقة بين القرية والمدينة في بلادنا علاقة متوترة عبر التاريخ، تتمثل بالطبقية والتعالي، إذ ينظر ابن المدينة إلى ابن القرية نظرة دونية على أنه غبي ومتخلف، بينما ينظر ابن القرية إلى ابن المدينة نظرة دونية على أنه جبان وانتهازي. وقد حاولتُ أن أسلط الضوء على هذه العلة؛ من خلال أحداث الرواية، وحوارات الشخصيات فيها، فالبطل جاء من القرية إلى العاصمة؛ حاملاً معه التراث الريفي بكل شوائبه، ليواجه العاصمة في عز أوجها الحضاري. ويرتقي بالمناصب على أكتاف أهل العاصمة، مستغلاً ذكاءه وعلاقاته، يدعمه حظه الكبير. نحن بحاجة ماسة إلى معالجة هذه العلة الاجتماعية، من أجل أن نرتقي بمجتمعنا؛ إذ يتوجب علينا أن نطرح الموضوع بشجاعة، ونواجه ذواتنا بشفافية.
*هذه الاشكالية تقودنا إلى إشكالية أكبر، دعني أسألك: أين يلتقي المتشرد حوّاس مع الدكتور وسمان وأين يتقاطعان؟
– للشخصية المركبة وجوه مختلفة، تجمعها عوامل مشتركة، فحواس ووسمان وجهان لذات الشخصية السلبية السيئة؛ يلتقيان في السرقة مثلاً؛ حواس الذي سرق خلخال أمه هو ذاته وسمان الذي سرق أموال زوجة الرئيس، وأموال صديقه صالح. كما يلتقيان في الخداع أيضاً؛ حواس الذي خدع العرافة ونكث عهده معها، هو ذاته وسمان الذي خدع صالح ونكث عهده معه. هما باختصار يلتقيان في الشر، لكنهما يتقاطعان في أمور جوهرية، لقد عقد وسمان عزمه على أن يدفن حوّاس، منذ أن نكث عهده مع العرافة، وبرغم أن حواس أخذ معه الفحولة، لم يندم وسمان على هذه الخسارة التي كانت سبب سفره إلى بغداد، بل اعتبرها قربان حظه الذي ولد على يد العرافة. وحتى المشهد الأخير، حين تكرر حوّاس بصورة المتشرد ناموس، قرر وسمان أن يقضي عليه؛ ليدعس البرعم قبل أن يبدأ بدورة حياة جديدة.
*هذا يعني أن لعنة العرّافة التي حلّت على حوّاس ساهمت في انحراف مسار الرواية من الجنس إلى الصحافة ومن ثم السياسة، إلى جانب عنصر الحظ طبعاً؟
– حافظ مسار الرواية – قدر المستطاع – أن يواكب مبحث (الحظ)، من خلال جذبه، في مراحل حياة حوّاس المنحرفة على اختلافها. فالجنس كان هاجس حوّاس الأوحد في بداية حياته، لذا كانت لعنة العرافة في أن تسلب منه هاجسه الأوحد، ثم بدأ يدرك لعبة جذب الحظ، وينجح في حياته نجاحا باهراً، في الصحافة والتجارة والسياسة والحكم، كل ذلك ظل مواكباً للعنة، التي لم تؤثر على إطار نجاحه العام. في النهاية أردت أن أقول للقارئ إن هذا الإنسان (الملعون) السيء استطاع أن يجذب الحظ، فحريّ بالإنسان الصالح أن يجذب الحظ أيضاً، وعليه أن لا ينتكس إذا واكبته لعنة ما.
*ولكن ألا تعتقد أن شخصية وسمان تحمّلت من العبء السردي ما يفوق مرجعياتها السوسيوثقافية، بمعنى أنه تحوّل عبر فصول الرواية إلى كائن خرافي يلتهم كل الأدوار دون أن يشعر (القارئ) بانسلاخه وتعدد هوياته؟
– هو لم يكن مؤهلاً للوصول إلى ما وصل إليه، لو لا وجود عوامل مساعدة، منها الأشخاص المحيطين به مثل رجل القطار وحوّاء والرئيس، والظروف التي انساقت لصالحه بفعل الحظ السعيد. ولعلنا نستغرب وجود مثل هؤلاء الأشخاص في حياتنا، لأننا جُبلنا على القناعة والخير والمحبة، ونستنكر أي تصرف سيء يصدر عنا، فكيف إذا كان تصرفاً شريراً؟ لعلك تستغرب قولي إنني تجنبت ذكر أفعالٍ مارسها وسمان في أرض الواقع، لأنني وجدتها أبعد من أن يصدقها القارئ! أكرر ما ذكرته من أن الواقع أغرب من الخيال، أو أن الخيال ليس سوى واقع حدث في ظروف لا تخطر في مخيلتنا، لذا حسِبناه ضرباً من الخيال. ولو تفحصنا واقعنا اليوم، لوجدنا المجتمع يعج بأمثال وسمان، ممن لعبوا في مقدرات البلاد، وانتهزوا الفلتان والتدهور، ليتسلقوا فوق الركام. لقد التهموا كل شيء، دون أن يشعر المواطن بهويتهم أصلاً!
*كان من الممكن أن تجعل من وسمان بطلاً إيجابياً يخلص البلاد من شر الدكتاتورية –على الورق- على أقل تقدير، المثير للدهشة أنك في خاتمة المطاف ، فضلت أن ترفعه الى مصاف الفاشية ! هل ترى من الضروري أن يمر الحاكم المستبد بمرحلة التطهير لينجو من لعنة الشعب؟
– إذاً كنت سأوهم نفسي قبل القارئ، أن الشيطان يمكنه أن يمهد للدخول إلى الجنة. برغم الفنتازيا التي تخللت الرواية، لم أخترق الإطار العام لما حدث في البلاد، وأستطيع الادعاء أن الرواية احتوت على سرد تاريخي بدرجة جيدة من الموضوعية، أما وسمان فلم أدّع بحقه زيادة سوى أنني ابتكرت فكرة اللعنة وألحقتها به، وربما لاحقته لعنة لا أعلمها. الحكام المستبدون لعنة إلهية، يرسلها الله ليقرع بها أجراس التنبيه، ومنا من ينتبه ويعود إلى الله، ومنا من لا يرعوي فينزل عليه عقاب الحاكم المستبد. وفي النهاية ستنزل لعنة المظلومين فوق رأس الحاكم الظالم، لكنني آثرت أن أترك وسمان على قيد الحياة، ليتخيل القارئ النهاية التي تروق له.
*(القانون … أكبر خدعة اخترعناها، نخطه بأيدينا، ثم نؤمن به إيماناً مطلقاً، كأنه منزّل من الله! وحين يتعارض مع مصالحنا، نضع عليه تعديلاً، أو نلغيه إن تطلب الأمر… ثم نؤمن بالتعديل والإلغاء من جديد!) لماذا جاء هذا التصريح الكاشف لسياسة السلطة من داخل السجن تحديداً؟ ولماذا أجّلت الكشف عن هوية الرئيس الأسبق صدام حسين حتى صفحة 101؟
– كان هذا الرد جواب الرئيس على وسمان حين أخبره: “يمكنك كمحكوم عليه بالإعدام، أن تتمنى أمنية أخيرةً؛ وفق القانون”، فرد عليه بتعريفه الخاص للقانون، وهي قناعة الرئيس الذي يسن القوانين ويعدلها؛ مراعياً مصالحه الشخصية ومصالح نظامه، لكنه حين وجد نفسه في السجن، تمنى لو كان القانون بيده، ليخرج من خلف القضبان، لا ليتمنى أمنية أخيرة. كأنه أراد أن يوحي لوسمان بإمكانية تغيير القانون، الذي حكم عليه بالإعدام. بيد أن دورة حياة الرئيس انتهت، وستبدأ دورة حياة لرئيس جديد تخطو خطوتها الأولى من محط خطوة الرئيس السابق الأخيرة، إنها انقلابات الحياة، وكأن القدر يمسك مسبحة لها مائة خرزة وخرزة، وحين يصل الخرزة الأخيرة يقلب الدورة ليجعلها الخرزة الأولى، هذه التواترية في يد القدر، هي التي أوحت لي بأن أبوح باسم الرئيس في الصفحة (101) تحديداً. ولا أخفي عليك، أن أحداً لم ينتبه إلى هذه الجفرة قبلك.
*هذا لغز واحد من عجائب سفاستيكا، نترك البقية للقرّاء؟
-عدم كشف النقاب عن أسرار العمل يضفي جمالاً وهيبة عليه، حين تكشف ذلك فكأنك تقف أمام شخص منبهر بطعم أكلة جديدة، وتخبره عن مكوناتها. دعه يستمتع، ويستغرب، أن الجمال الذي يتذوقه نشأ من بساطة متوفرة.
*هل كنت تتوقع أن تخطف جائزة بغداد للرواية؟ وماذا أضافت لك هذه الجائزة؟
– لقد بذلت كل ما أجدته في كتابة الرواية، ولا أخفي أنني لو أعدت كتابتها اليوم لكتبتها بشكل أفضل. من الناحية الفنية اعتقدت أنها ستنال الجائزة، وقد أشاد بها كل من قرأها قراءة أولى، باستثناء الروائي العالمي (فاضل العزاوي) الذي امتعض منها بتهذيب، ونصحني أن أتلفها ولا أعرضها على أحد. لكنني قررت أن أطبق نظرية الجذب التي تناولتها الرواية لتحقيق الفوز، وقد نجحت النظرية كما توقعت، وفازت بالجائزة التي أضافت إلي الكثير على المستوى الوطني، فبالرغم من شحة الضوء الذي سُلط على الجائزة بسبب الظروف التي يمر بها البلد، إلا أنني أعتبر هذه الجائزة خطوتي الأولى في طريق النجاح والتي تحملني المسؤولية الكبرى في خطواتي اللاحقة، وهذا ما كتبه لي العزاوي مستبشراً في رسالته الأخيرة.
*هل ترى أن الانفجار الروائي الذي حقق انتشاراً واسعاً بعد عام 2003 سيدوم مفعوله أكثر مما يتصور الروائيون أنفسهم؟
– هي صحوة أدبية وانتفاضة ثقافية، مثل قِدر غلى وانكشف غطاؤه ونحن اليوم منبهرين بالبخار الذي تصاعد والرذاذ الذي تناثر، أما الطعام الناضج فلم نتذوقه بعد، لا زلنا في لقيمات التفحص، والأعوام القادمة كفيلة بأن تقدم ثورة روائية عراقية؛ يقف العالم الثقافي لها بكل احترام وإجلال.
*بعض المثقفين يستحسنون وصف العلاقة بين المثقف والسياسي بـ”المكارثية الجديدة”، كيف تنظر إلى هذه الزاوية من منظارك؟ وما هي شروط الصلح بين الطرفين إن تقاطعت الشراكة بينهما؟
– في الأوطان العامرة نجد السياسي يُلئم ثلماته بالمثقف، لكي تسير أمور البلاد نحو الأحسن، فإن كانت قرارات السياسي إطلاقات يصوبها من بندقية الحكم، فإن المثقف بمثابة (الفرضة والشُعَيرة) التي تسدد التصويب نحو الهدف. المثقف مبراة وممحاة لقلم السياسي؛ فهو يبري لُبّته إن تآكلت ويمحو أخطاءه إن حدثت، حتى تخرج الرسالة مبيضة. ويحضرني هنا قول (ستالين)؛ زعيم روسيا، حين جمع الجنود ليخطب بهم، ويؤجج الحماس في أرواحهم؛ وهو يواجه (هتلر)، فقال لهم: “… يا أبناء (تولستوي) و(بوشكين)، لقد جاء هذا النازي ليمحو تاريخكم…”، هنالك نسب ستالين جنوده إلى أعظم روائيي وشعراء روسيا، ليوحي لهم أنهم أبناء الثقافة لا أبناء السياسة، وقد أجدَت مقولته نفعاً. بيد أن المشكلة في بلدنا اليوم هي أن أغلب السياسيين غير مثقفين، وأن المثقفين لا يلجون عالم السياسة، بل نجد أبرز المثقفين معتكفين في بروجهم العاجية، لا يبالون بما يرزح تحته المجتمع من ويلات. على الشاعر أن يكتب قصيدته في الشارع، وعلى الرسام أن يرسم لوحته في المقهى، لكي يشعرا بألم المواطن الذي يسوقه السياسي كيفما يشاء. أما إن أصر السياسي على امتطاء الجماهير، واللعب بمصائرها، فهنا يبدأ دور المثقف في توعيتها وإرشادها إلى سواء السبيل. ولا ننسى أن الجماهير التي غطت في نوم عميق طويل، تحتاج إلى خضات كثيرة كي تستفيق من غفوتها، وتستعيد رشدها.
*هل ستغادر منطقة السياسة في أعمالك القادمة؟ بماذا تفكر؟
– السياسة من مفردات حياة المواطن عندنا، لذا لن تكون بعيدة جداً ما دمنا نتناول الحياة العامة، لكنني أعكف على كتابة رواية جديدة عنوانها (طقطقة رقيقة على الباب)، تتناول في أحد محاورها شخصية تاريخية عظيمة تدعى (قرة العين)، وهي رائدة تحرر المرأة من الجهل والتخلف في الشرق الأوسط. هنا سأعود إلى منهجي السابق؛ مناصرة المرأة.
*لو أردت رسم بورتريه شخصي لعلي غدير خارج الأدب، فكيف ستكون ملامحك الأولى؟
– بسيطة وواضحة، إلى درجة أنني أشبه جدي آدم.