كيفية خلق الكون في مصر الفرعونية



*الحسين عبدالبصير


بزغت تصورات واجتهادات الإنسان عن خلق الكون من الولع الإنساني الملح بالبحث عن تفسير منطقي أو غير منطقي يرضي ضالته ويروي شغفه بكشف السر وراء من ومتى وكيف نشأ الكون الفسيح من حوله.
وفي ذلك البحث المضني، بلورت خبرة الكائن البشري المتراكمة بالعالم الذي كان يعيش فيه عبر ملاحظته الدقيقة أو العابرة على مر الزمن، أفكاره وتصوراته عن عملية الخلق. وأسهمت كل حضارة بنصيب وافر أو ربما غير شاف في هذا المضمار، سواء أردت الخلق إلى إله خالق له مقدرة غير محدودة، أم أرجعت نشأة الكون إلى مجرد المصادفة البحتة التي لا دخل فيها لمقدرة ما إلهية كانت أو غير ذلك من قوي.
وفي هذا السياق، لم يبن المصريون القدماء تصوراتهم عن كيفية نشأة الكون ومختلف المخلوقات والكائنات على مجرد أفكار نظرية جوفاء، بل أرسوها على أسس ووقائع وحقائق مستمدة من البيئة المصرية القديمة أعطت معنى كبيرًا وأهمية بالغة تعكس خبرتهم بالحياة فوق الأرض وبالكون من حولهم.
ولا تشير نظريات خلق الكون لدى المصريين القدماء إلى أفكار علمية تشرح كيف أوجد الإله القادر الكون من حولهم بكل كائناته، بل هى تصورات رمزية تحاول فهم الخلق وطبيعته ودور الخالق فى عملية الخلق وكيف أبدع الحياة وعن دور العناصر المختلفة في الخلق وأهمية كل منها في هذه العملية المعقدة وتراتب ظهورها في سلم الخلق.
وكان الخلق أمرا مهما في الفكر الديني المصري القديم. ووفقا لمعتقداتهم الدينية، آمنوا بأنه كانت هناك قوة إلهية علية غير محدودة الإرادة والقدرة على الخلق والإبداع والابتكار أوجدت كل الكائنات وكل الأشياء منذ البداية واستمرت تخلق وتبدع وتجدد ما أخرجت للوجود بصورة لانهائية دون كلل أو ملل.
ومن اللافت للنظر أن المصريين القدماء لم يشيروا إلى جنس هذه القوة الإلهية؛ فلم تكن مذكرا أو مؤنثا، بل كانت مزيجا من الجنسين معا؛ وذلك لأهمية وجود عنصري الذكر والأنثى من أجل التزاوج بغية استمرارية الخلق والتجدد ودورة الحياة.
وفي الأغلب الأعم، تشير تصورات المصريين القدماء عن الخلق – بوضوح جلي ودون أدنى شك – إلى وحدة وتناغم وتفرد الكائنات والأشياء التي خلقتها المقدرة الإلهية حين شرعت في نشأة الكون وتهيئة المسرح للإنسان بإعلاء شأن الوجود والقضاء على العدم وإقرار النظام وإنهاء الفوضى من أجل استمرارية وتمكين الكائن البشري الأسمى من العيش فوق سطح الأرض لأزمنة أبدية غير مقيدة بعدد معلوم وتعددت نظريات المصريين القدماء عن الخلق، ونشير في ما يلى إلى أشهرها.
ويعد مذهب هليوبوليس (أو عين شمس)، مدينة إله الشمس المقدسة، (“أونو” في اللغة المصرية القديمة؛ “مدينة الشمس” في اللغة اليونانية؛ حاليا منطقتا “عين شمس والمطرية” في محافظة القاهرة) من أهم وأقدم مذاهب الخلق في الفكر الديني المصري القديم. وقام غالبا بتأليفه كهنة إله الشمس في مدينة هليوبوليس فى عصر الدولة القديمة (حوالى 2687-2191 ق. م).
ويقوم هذا المذهب على إيمان المصري القديم بأن العدم كان يسبق ظهور الإله الخالق. وفي هذا الصدد يشير متن رقم 1466 من متون الأهرام إلى أنه: “لم تكن السماء قد خلقت بعد؛ ولم تشكل الأرض بعد؛ ولم توجد الإنسانية بعد؛ ولم تولد الآلهة بعد؛ ولم يحدث الموت بعد”.
وفي هذا السياق العدمي الغارق في مستنقع الخواء، كان لا بد من وجود إله خالق. وكان لنهر النيل وفيضانه السنوي والقوى المتجددة الكامنة في مائه أكبر الأثر في لفت نظر المصري القديم إلى أهمية الماء لمصدر مطلق للحياة أطلق عليها “المياه الأزلية”.
وكانت تلك المياه الأزلية ذات طبيعتين سلبية وإيجابية: سلبية نظرا لكونها هلامية، وعديمة الشكل، وغير محددة، وعدمية؛ وإيجابية في كونها احتوت داخلها على قوى خلق مؤكدة. وأطلق على المياه الأزلية “نون”؛ ذلك الإله الذي خلق نفسه بنفسه، وعبر ذاك الإله عن نفسه في التعويذة رقم 17 من كتاب الموتى “كتاب الخروج بالنهار” قائلا: “أنا الإله العظيم الذي أوجد نفسه بنفسه، نون الذي أبدع اسمه كإله في زمن الآلهة الأزلي”.
ويشير هذا المذهب إلى أنه في البدء كان العدم، غير أن هذا العدم احتوى داخله القوة الدافعة على النظام والخلق. وكان “آتوم” هو هذه القوة الدافعة على النظام والخلق، وتحققت تلك القوة حين بزغ ذلك المعبود المؤسس من المياه الأزلية كأصل لكل المخلوقات والأشياء، وبدأ عملية الخلق والإبداع.
ويحمل اسم آتوم معنى مزدوجا؛ فهو تارة يعني “الأكمل”، أو “الكلي” أو “الأتم” أو “المنتهى” وهذا يشير إلى تمامه واكتماله مثلما يوحى بذلك الفعل العربي “تم” بمعنى “اكتمل” أو “انتهى”؛ وهو تارة أخرى يعني “غير الموجود”، أو “الذي لم يحدث أو يوجد بعد”.
وفي ذلك ما يشير إلى حالته الساكنة في المياه الأزلية قبل أن يقرر البزوغ خارج المياه الساكنة ويبدأ عملية الخلق المتوالية بشكل لانهائي. وهكذا فإن آتوم كان الكائن المطلق واللاكائن المطلق معا، حاملا داخله تلك المتضادات المتناقضة في الوقت ذاته.
وكان يصور هذا المعبود الحديث الظهور، الذي كان يجلس على التل الأزلي (أو “بن بن” في اللغة المصرية القديمة) على هيئته كرع – آتوم، إله الشمس الخالق، مرتديا تاج مصر الملكي المزدوج، رمزا بذلك إلى أن ملكية الأرضين، مصر السفلى ومصر العليا أو الدلتا والصعيد، ظهرت إلى الوجود مع ظهوره. وفي ذلك ما يؤكد أن مذهب هليوبوليس حمل، غالبا لأغراض سياسية قوية، داخله الكون المخلوق والنظام السياسي كوحدتين غير قابلتين للانفصال أو التقسيم. ومن وجهة النظر السياسية المحضة، فإن مذهب هليوبوليس حاول خلق مفهوم الملكية المقدسة لتكريس الدولة الوليدة ميثولوجيا.
وتفاعلت قوة رع – آتوم الخلاقة في هذه اللحظة في خلق الزوج الأول التوأم شو (الهواء) وتفنوت (الرطوبة أو الندى) عبر عملية الاستنماء. وفي هذا المقام، ذكر المتن رقم 1248 من متون الأهرام ما يلي: “إنه آتوم، الذي ظهر للوجود واستنمى في أونو (عين شمس). فقد وضع عضوه الذكر في قبضته لعله يحصل على النشوة الجنسية من ذلك، وحتى يولد التوأم شو وتفنوت”. بينما تشير التعويذة رقم 76 من متون التوابيت إلى أن خلق شو وتفنوت تم من خلال بصق الإله آتوم، ومن المحتمل أن الرمزين، الاستنماء والبصق، قد وجدا معا في أي من النسخ الكاملة لهذا المذهب الديني في الخلق.
ومع ميلاد الذكر شو والأنثى تفنوت، تم فصل الذكر عن الأنثى كعنصرين مستقلين، وفي الوقت نفسه هما مكملان وفاعلان ومهمان لعملية الخلق حتى تستمر عملية التزاوج والتكاثر والتناسل كأحد أهم وأبرز مظاهر الخلق.
وولد الزوج الثانى الذكر جب (الأرض) والأنثى نوت (السماء) من اتحاد والتقاء الزوج الأول شو وتفنوت. وفي تلك اللحظة من الخلق، خرج الكون إلى الوجود، ولم تكن الأرض ولا السماء مجرد مخلوقين عاديين؛ بل كانا عنصرين ضرورين ومهمين لهما قدرة إلهية فاعلة وخلاقة يهيئان بدأب مسرح الحياة للموجودات القادمة، على أساس أنهما مصدر كل شيء آخر سوف يخرج لاحقا إلى الوجود.
وصورت مرارا الإلهة نوت عارية كربة للسماء ومحددة لأفقها العلوى متقوسة تلامس بأطراف أصابع يديها وقدميها الكون، وكزوجة لإله الأرض جب الذي مثل عاريا أيضا، فوق ذلك الإله في لقاء زوجي رمزي يشير إلى استمرارية قوى الحياة والخلق.
واستمرت دورة الخلق ونتج عن لقاء جب ونوت ميلاد الزوج الثالث المعبود أوزير (“أوزيريس” في اللغة اليونانية) كرمز للنظام والخير وأخته وزوجته لاحقا إيزيس (“إيست” في اللغة المصرية القديمة)، والزوج الرابع ست كرمز للفوضى والتناقض وأخته وزوجته بعد ذلك نفتيس (نبت حت في اللغة المصرية القديمة).
وشكل أولئك الآلهة التسعة: آتوم، وشو وتفنوت، وجب ونوت، وأوزير وإيزيس، ست ونفتيس تاسوع هليوبوليس أو عين شمس، جوهر ذلك المذهب الخلقي الديني في تفسير كيفية نشأة الكون والموجودات.
وكان إدراج الإله ست، رب الفوضى والتناقض، ضمن آلهة هذا المذهب الديني عظيم الأهمية؛ نظرا لتجسيده المفهوم المصري الراسخ عن الصراع المتواصل دونما انقطاع بين الخير والنظام من ناحية وبين الشر والفوضى من ناحية أخرى؛ لذا فقد كان دوره حتميا وبالغ الخطورة كممثل للفوضى والشر وقواهما المدمرة في صراعه الأبدي مع الإله أوزير كممثل للخير والنظام والعدالة وقواها الخلاقة ومن بعده ولده ووريث عرشه ومن ثم الملكية المصرية المقدسة الإله حورس، وذلك سواء بسواء في كل من النظام الكوني والنظام السياسي.
ولم يحتل الإنسان مكانة متميزة في هذا المذهب الخلقي؛ فعندما انفصل شو وتفنوت عن آتوم وفقدا في المياه الأزلية، أرسل آتوم عينه للبحث عنهما، وبمجرد عودتهما بكى دموع الفرحة، ومن تلك الدموع جاءت الإنسانية.
وعلى الرغم من أن ذلك يشير إلى أصل إلهي مؤكد للإنسانية، فإن خلق البشر جاء مصادفة وليس وفقا لمنهج مخطط له منذ بداية الخلق؛ فقد خلقت البشرية نتيجة حدث عاطفي إنفعالي للإله الخالق؛ ولذا وبشكل مؤكد فلم يشغل الكائن البشرى قمة سلم الخلق عند إبداع الكون.
وارتبط مذهب هليوبوليس ارتباطا وثيقا بإله الشمس؛ إذ مثل كل يوم فى الحقيقة تجدد وإعادة عملية الخلق. واعتبر المصري القديم أن شروق الشمس يضمن استمرارية وأبدية النظام الكونى والحياة وإعاشة البشرية؛ فكان شروق الشمس في معنى ما رمزا مقدسا يضمن استقرار الكون المخلوق والنظام السياسي الملكي الذي حكمه.
أما مذهب هرموبوليس (أو الأشمونين)، فيذهب إلى أن خلق العالم تم عن طريق تل من الطمي ظهر عليه أربعة أزواج، أربعة من الذكور على هيئة الضفادع وأربع من الإناث على شكل الحيات كما يلي: الزوجان الذكر “نو” والأنثى “نونت” ويمثلان المياه الأزلية، والزوج “كو” و”كوكت” (الظلام)، والزوج “حو” و”حوحت” (اللانهائية)، والزوجان “آمون” و”آمونت” (الخفاء).
وهاجر الزوجان آمون وآمونت (الخفاء) إلى طيبة ودفنا في مدينة هابو بالبر الغربي لمدينة الأقصر، ثم اتخذ آمون صورة “كم آت إف” أى “الذي أكمل وقته”. وكانت هناك بيضة خرجت من إوزة أحالت الظلام إلى نهار وضاح هو الشمس، ثم طارت الإوزة صائحة فسميت “الصائحة الكبيرة” التي قضت على صمت المحيط الأزيى.
ويعد مذهب ممفيس من أقدم المذاهب الدينية المصرية القديمة في تفسير نشأة الخلق والوجود. ووجد المذهب مكتوبا على لوح حجري من عهد الملك الكوشي شاباكا من الأسرة الخامسة والعشرين (حوالى 712 – 698 ق. م)، وربما يرجع أصله إلى عصر الدولة القديمة أو أبعد من ذلك.
وخلاصة هذا المذهب أن الإله بتاح، المعبود الرئيسي لمدينة منف، قد خلق الكون عن طريق التفكير بالقلب، موطن العقل والتدبر والتفكر، ثم عن طريق اللسان الذي يخرج ما في القلب. ويقترب هذا المذهب الديني من قوله تعالى في محكم كتابه القرآن الكريم “إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.” (سورة يس: آية 82).
___
* (عن بوابة الأهرام)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *