*لوركا سبيتي
دريد لحام الذي كان أبوه ينتقل على دابة بين مشغرة والشام اشتغل صبي حداد وكواء ومشعّلا في حارة اليهود. يذكر أمه فتدمع عيناه، وما حدث في سوريا مرده إلى مرتزقة. ويبقى في سوريا لأنه لا يريد استبدال هويّته بورقة مكتوب عليها لاجئ.
كيف حالك؟ «بعدني منيح»، هكذا أجاب عن سؤال فضفاض يُطرح كل يوم بين الناس، ويُجاب عليه عند كل طرح وبدون تفكير بذات الجواب: منيح.. ولكنه وضع قبلها «بعدني» «رغم الجروح والألم الذي يحيطنا، رغم الموت الذي يقتفي أثرنا، رغم الحزن الذي بات صديقنا، «بعدني منيح». ولكن من أين تأتي بهذا الأمل؟ وهو يهمّ بالإجابة، راح خيالي صوب التاريخ والجغرافيا، ومن المحيط الى الخليج تمشيت، ومن القعر الى السطح، وبين المكان والزمان والبعد الحادي عشر الذي ربما يثبَت وجوده بعد وقت، وبين كل الذي حصل وما زال يتكرر بذات التفاصيل الرتيبة والهزيلة والدموية، كأن مخرجاً هندس مشهديته وظل يعيدها الى الأبد، لم يتعب هو ولا الممثلون استكانوا، فتشت عن «الأمل» عن كائن يسكن فوق شجرة أو في كهف، أو ربما هو طريق تحيطها الأشجار وتوصل الى مكان (مع أني مقتنعة بأنه شعور ينبع من الداخل لا غيث، شعور فقط، وفقط هنا ليس للتقليل) ولكن قبل أن ألاقيه أرجعني جوابه «من إنسانيتي» الى جلستنا التي بدت هادئة لولا سمعه الذي خفّ قليلا وجعلني بين الحين والآخر أعيد أسئلتي بصوت أعلى.
دريد لحام ولدته أم لبنانية من قرية «مشغرة» ووالد سوري من الشام. ولهما قصة حب بدأت على جسر «اللحّام» (بني على نهر الليطاني من جهة القرعون) حيث عمل والده مراقبا ووالدته عملت هناك ايضا. يخبرني قصة الحب هذه وهو فخور، يشرد في البعيد، كأنه استعاد في هنيهة شريط طفولته التي كانت تفيض بالود والرحمة والحنان رغم الفقر وقسوته. أن يعيش الطفل بين والدين يجمعهما الحب هذا بالأمر اللطيف والمهم، فالطفولة تحفر في وجداننا انفعالاتها وتضع الحجر الأساس لبناء شخصيتنا فتحددها وتسيّرها ايضا لنحمل معنا معانيها وندور فيها ومعها طيلة الحياة، تطلع في الأفكار والإبداع والعلاقات والقضايا التي نتبناها. «حين يتناقص الماء عند سدّ القرعون ويظهر الجسر أرى أمي وأبي هناك» بهذه الصورة الحالمة التي تشبه مشهدا في فيلم رومنسي أنهى الممثل شروده النقي.
ارسموا معي: رجل يعبر الجبال والأودية والأنهر والدروب التي تفصل الشام عن مشغرة على دابة، يقضي أربعا وعشرين ساعة ذهابا واخرى رجوعا، ترافقه نجوم في السماء واخرى فوق أسطح البرك، ينتعل جزمة مطاطية تحمي قدميه من ماء الأنهر أو الأمطار، لا يخاف الليل ولا البراري، جريئا ومجتهدا تسوقه الحاجة ويحدوه الأمل. كأنه يجرّ وراءه عائلته المؤلفة من اثني عشر شخصا، هم في خلجات تبقيه متيقظا. يشتري الجبن أو الفحم من مشغرة ليبيعه في الشام ويجني القليل. كان راضيا ومرضيا، قنوعا ومجتهدا. الأولاد يسمعون دعسات والدهم والدابة آتين من البعيد نحو «حي الأمين» حيث يقيمون بمنزل متواضع يتألف من غرفتين، فيركضون لاستقباله، الليل يتحول نهارا عند قدومه ففرح الأطفال يصنع المعجزات، يضيء العتمة ويهمد شراسة التعب. يجلس الأب مرهقا مادا ساقيه أمامه فيبدأ أطفاله بخلع جزمته، يشدونها الى الوراء وتشدهم الى الأمام كأنهم يلعبون «شد الحبل» حتى اذا ما خلعوها يقعون على ظهورهم مقهقهين مبسوطين..الرجل هو ابو دريد والأطفال هم دريد وإخوته.
كبر مبدعنا في عائلة فقيرة، لبس ثياب إخوته الأكبر بعدما رقعتها أمه بما يتناسب مع قياسه «كانوا يجيبوا ولاد حتى ما يكبوا التياب الي صغرت» يضحك ويضيف «بيقولوا الولد بتخلق رزقتو معو وانا ولا مرة شفت ولد خلق ومعو جزدان» يكمل ضحكته كطفل. في جلستنا هذه والتي باح فيها بالكثير من الذكريات والهواجس والتوقعات عن المسرح والتجربة والسياسة والإنسان كنا مهما استطردنا نرجع اليها، الى أمه التي سمّاها «الوطن الأول»، والتي تحمّلت تجسدات الفقر بتفاصيله.. وفي كل مرة تكلم عنها أقسمُ أن حدقتاه تحجرت فيهما الدموع وحتى انها نزلت في بعض الأحيان. كأني أحسست بأنه يحمل ذنبا ما اتجاهها أو كأنه لم يكن الابن الذي توقعته، عاد وأكدّ ان لا شيء في الحياة أهم من رضاها وأنه يشعر بالتقصير اتجاهها لأنه لم يبق بجانبها طيلة الوقت. ولكن دعكم من تخميني هذا الذي ربما ليس حقيقيا. نجم فيلم «الحدود» بان حنونا بلا حدود في حديثه معي ويظهر هذا بين كل كلمتين، زد على ذلك علاقة المبدع الحميمة بأمه المسؤولة بطريقة لاواعية عن اتساع خياله ورحابته. يحسم الممثل هذا الجدل الذي ضجّ بيني وبينه بجملة غريبة سبقتها كلمة «تقبشيني»: «لو لم أكن ممثلا أو أستاذا فسأكون حتما أما». «أصلا أنا أم لأن الأمومة موهبة وصفة بس بينقصني ثديين». انجدلت ضحكاتنا معا وتلاشت عند الحديث عن دريد الصغير.
مشعّل
الصغير اشتغل في مهن عديدة بالإضافة الى التعلم، فمنذ ان كان عمره ثماني سنوات عمل عند حداد ينفخ في الكور، قبض خمسة قروش اشترى بها صابونة ينظف فيها وجهه من آثار الشحّار. وعمل عند بياع أقمشة وعند خياط وعند كوّى وحاضن أطفال ومشعِّلا في حيّ اليهود (كانوا يمتنعون عن إشعال النار ايام السبت) الطفل الصغير يطوف حيّ اليهود الذي يقع بجانب حيّ الأمين حيث يقيم وينادي بلكنته السورية «مشعل مشعل». كبر الصبي مجتهدا وشاطرا في المدرسة وتخرج مدرّسا للكيمياء من المعهد العالي للمعلمين، وأول معاش قبضه اشترى فيه غازا صغيرا لوالدته بعدما أنهكها الطبخ على «الببور».
«غوار الطوشي» شخصية لبسته حتى صارته، فلم يعد هناك فرق بين دريد وغوار، هما اسمان لشخص واحد، أو ربما شخصيتان مختلفتان تطلع الواحدة منهما حسب الحاجة. كلنا نعرف أن غوار ليس مجرد لقب أُطلق على شخصية معينة ولفترة وجيزة، هو رمز للمواطن السوري العادي الذي يكافح من أجل لقمة عيشه ويعاني ما يعانيه أو الذي كان يكافح ويعاني (لأنه اليوم يموت أو يهرب أو ينتظر أو يقتل بضم الياء وبفتحها). اذاً دريد تبنى قضايا الناس وحمل همومهم من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية التي تختصر الحرية والمساواة والديموقراطية برأيه. على المسرح صدح صوته بلسان غوار وصرخ في وجه النظام الحاكم بأن «لا»، لا للظلم لا للاستبداد، كلمات كتب أكثرها «محمد الماغوط» تُضحك وتُبكي وتحمل في طياتها أوجاع الناس، هؤلاء الذين صفقوا لـ «غوار» وصنعوا منه مثالهم وأحبوه بأفكاره الكبيرة وجسده الضئيل وروحه الرحبة وشرواله الأسود وطربوشه الأحمر و «القبقاب» والصوت المبحوح الذي لا يستكين، هؤلاء الذين فهموا كل شاردة وواردة مباشرة أو غير، واضحة أو مستترة مما قاله على المسرح، هؤلاء ذاتهم يسألونه اليوم عن رأيه بما يجري في بلدهم.. موضوع سوريا اليوم يزعجه ويبان هذا الانزعاج واضحا على ملامحه وتربكه تلك التساؤلات والمقارنات حول وبين ماضيه وحاضره، أنا شعرت بذلك، ولكن لا مفر من السؤال وخصوصا لفنان قدير كدريد لحام عليه أن يقول على الأقل بعض مما قاله هنا، هو لا يسمي ما يجري ثورة أو ربيعاً، بل مجموعة من المرتزقة أتوا الى سوريا ليمارسوا هواياتهم القاتلة، تسوقهم دول كبيرة. ولكن ماذا عن الناس الذين نزلوا الى الشارع في بدء الأحداث ولم يقترفوا إلا الغناء، ألم يدفعهم توقهم الى العدالة الاجتماعية التي ناديت بها منذ الـ69؟ أجاب بضحكة عريضة ملؤها الأسى ذكرتني بضحكاته العتيقة في «كاسك يا وطن»، بأن «طبعا هم يحتاجون الى العدالة والحرية، ولكن منهم من حمل السلاح مقابل المال ومنهم من حمله للدفاع عن حقه لأن كثرة الكبت والضغط تخزّن القهر والإحساس بالظلم وبالتالي لا بد من الانفجار». اذا ماذا لو كنت رئيسا لجمهورية سوريا ماذا كنت لتفعل؟ «في الوقت الحالي لا يمكنه ان يفعل شيئا ولكن في بداية الأحداث كان عليه أن يكون أكثر صرامة مع الذين أخطأوا في درعا وقبل ذلك كان عليه الانتباه الى مسألة العدالة الاجتماعية». ماذا لو محمد الماغوط ما زال حيا الآن هل ستكون مواقفه كمواقفك؟ «نعم بالظبط». أنهى الموضوع كأنه هو الذي وضع النقطة على السطر بعد كلمة «بالضبط».
أنا أتألم
تأقلم ممثلنا مع الوجع الطالع من صلب تربيتنا وثقافتنا ولم يأت من الغريب، كما يشرح، لم يتخدر بل ربطه بوجوده «أنا أتألم اذاً أنا موجود»، وهذا الشعور يزيد وعيه ويجدد خلاياه وانتباهه نحو الفكرة الأكبر والأهم «سوريا» وما يُخطط لها وما يحدث فيها، إنها وجعه الأكبر والصدمة الكبرى.. يلمع الحزن والبسمة عريضة، غريب كيف يجمع بين النقيضين أو أنهما وجهان لشعور واحد؟ لم يغادر سوريا لأن الوطن، حسب قوله، لا يوضع في شنطة سفر ولا في خرج دابة بل هو القلب ذاته، هو الذكريات والأمكنة التي تتجول فيها هذه الذكريات فيتحول المكان الى شخص عشنا معه والتصقنا فيه حتى تصبح مغادرتنا له خيانة. وهو لا يخون ولا يريد تعذيب قلبه وإنكار ذاكرته واستبدال هويته بورقة يكتب عليها «لاجئ».
ودعته بحنانه الذي التصق بعض منه عليّ بعدما شكرته على كل هذا البوح، وحمّلته سلامي لدمشق. وفي طريق عودتي ولأنه صعب عليّ أن أسترد ذاتي بسهولة بعد جلسة حميمة وكثيفة كهذه، خطرت لي فكرة «التقديس» و «الأيقنة» التي تحمّل الفنان (المثال أو التمثال) أكثر مما يستطيع، فيعيش حياته المتبقية حذرا كأنه يمشي بين المسامير كي لا يقع ويخذل توقعات جمهوره الذي ينسى أنه إنسان له هفواته وإخفاقاته وأحزانه وتقلباته ايضا. ولكن في عصرنا هذا ومع تطور وعي فكرة الإنسان وكينونته القائمة بذاتها المجردة عن الغيبيات والعقائد والموروثات والأجوبة الجاهزة المطلقة، السؤال يفرض نفسه: ألم تتضح صورة هذا (المثال التمثال) على طبيعتها الحقيقية فلا ملاك ولا شيطان بل ا-ن-س-ا-ن يختلط عفنه بطزاجته وأنانيته بعطائه؟ ألم تتفتت المقدسات التي بنتها الجماهير وأسقطتها على الأفراد لتنتصر غريزة البقاء للأكثر قدرة على التكيف؟ تضحكني مأساة الإنسان المرسومة بين الولادة والموت ولا شيء ثالثهما وبينهما…
_______
*السفير الثقافي