كتابي الأول.. نورسة الجنون


*سيف الرحبي


ربما من الصعب أن يتذكر شخصٌ عاش في سوريّة فترةً سابقة من عمره، في هذا الظرف أو الشرط الكارثي الذي يمرّ به هذا البلد، مغرقاً شعبه بكل أنواع الألم والفجيعة.
أقول من الصعب الكتابة بمعزل عن هذه الشروط الجارفة؛ كيف أستطيع استلال تفصيلٍ لذكرى صداقة، حب أو كتاب، في خضمّ هذا المشهد القيامي! ذكرى كتابٍ سيكون أول ديوان منشور لي في سياق وضع ثقافي متشعب تحتضنه دمشق. ويتقاطع فيه السوري مع القادم من بلاد عربية، مشارقها ومغاربها، إذ إن المدينة، وخاصة بعد الغزو الصهيوني للبنان عام 1982، وما ترتب عليه من نزوح جماعي لمثقفين وكتاب كانت العاصمة اللبنانية والحاضنة الفلسطينية لهم السُكنى والمآل. والكثير من هؤلاء قصدوا العاصمة السورية، ما جعل الحركة ثقافياً تمور بحيوية ونشاط أكثر من ذي قبل.
وإذا كنتُ قد بدأت الكتابة قبل وجودي في دمشق الذي بدأ في العام الأخير من سبعينيات القرن الماضي، وأتذكر أني حين هيأت ديواني للنشر، ذهبت مع الصديق الجزائري أمين الزاوي إلى ناشرٍ كان مقره في الصالحية.
وحين لم نصل إلى اتفاق، ذهبت بصحبة الصديق واسيني الأعرج إلى ناشرٍ كان مقره قريباً من جامعة دمشق، وكان اسمه أبو خالد على ما أذكر وكانت الدار تدعى «دار الجرمق».
وذات يوم أرسل لي أبو خالد نسخاً من الديوان في صندوق كرتون، وحيث إنّي لم أكن موجوداً في المنزل الواقع في «ساحة شمدين» بركن الدين، ترك الصندوق لدى جارنا البقال أبو هائل، وحين عدت وجدت البقال يخرج من دكانه ليناديني من الشارع قائلاً: «والله لولا أنكم مش سوريّين وعزيزين عليّ ما كنت استلمت هذي الكرتونة ممكن يكون داخلها مصيبة وأروح في داهية بسببها».
صدر الديوان بقطع صغير وبأخطاء مطبعية نتيجة لعدم خبرتي في تصحيح الكتب. وقد صمم الغلاف الفنان جليدان الجاسم، وصممت الفنانة سحاب الراهب ديوان «الجبل الأخضر» الذي سيليه مباشرة في الصدور وليس الكتابة. وقد كنا نجلس أيامها مع أصدقاء كُثر في مقهى «اللاتيرنا» و«مطعم الريّس» بالصالحية المفعمة بالحركة منذ مطلع الصباح حتى الليل… وكذلك في حانة «فريدي» بشارع العابد قريباً من منزل الشاعر بندر عبد الحميد الأرضي.
أتذكر في هذا السياق إبراهيم الجرادي الذي أصدر ديوانه «رجل يستحم بامرأة» مصحوباً بالصور والكولاجات المثيرة، وقد أثار جدلاً في دمشق وصدمة في الرقة مسقط رأسه. وكذلك أسعد الجبوري وهاشم شفيق وجليل حيدر، وكلهم سبقوني في النشر. وهناك رياض الصالح الحسين الذي ارتاحت روحُه العاصفة برحيله المبكّر، وطاهر رياض وعماد جنيدي ومحمد البخاري الموريتاني الذي كان يقرأ أكثر مما يكتب. وأتذكر في ذلك الزمن سميح شقير وحسان عزت وعبد القادر الحصني وخليل صويلح، والراحلة دعد حداد التي دفعتها معاناتها إلى الجنون… وغسان زقطان الذي جاء من بيروت إلى دمشق. والقائمة تطول وتطول حتى المتاهة والمنفى والخراب. كانت الشام ومن ثم جارتها بيروت، جارتا القمر في خسوفه وإشعاعه الضاج البهيّ، منطلقاً للنشر وولوج الأجواء الثقافية، صداقة، كتابة وحياة. ومن بوابتهما دخلتُ العالم والمتاهة بالمعنى الجمالي على الأرجح.
بعد صدور كتابي الأول «نورسة الجنون» (1980) على عِلّاته الفنية الكثيرة، بحيث إني لو ألقيت عليه نظرة سريعة عبر هذه المسافة الزمنيّة الشاسعة بالألم والرعب والدماء، لوجدتُ فيه الكثير من الاسترسالات التي لا مبرر فنياً لها، وزوائد لفظيّة كثيرة، ولكن يبقى ذلك الدفْق الحماسي الذي يسِمُ البدايات في الكتابة. كان المناخ الشعري بأسمائه وإنجازاته المختلفة الذي يهيمن على تلك البدايات، هو مناخ «بلاد الهلال الخصيب»، وترجمات أهمها في الشعر ذاك المتسم بالنزوع السوريالي وشعراء الهاويات واللاوعي والجنون. كان كتاب «أناشيد مالدرور» قد صدر مترجماً للتوّ من قبل اللبناني سمير الحاج شاهين، وظهر تأثيره أكثر في ديواني «أجراس القطيعة» الذي صدر في باريس. وفي الفترة إياها قرأت رامبو ومركبَه السكران لأول مرة بترجمة نوعية للراحل صدقي إسماعيل ضمن كتاب من الحجم الكبير يحتوي على ترجماته الشعريّة المختلفة. أتذكر أننا كنا نذهب إلى «رأس البسيط» على الساحل، مصطحباً هذا الكتاب، وعلى إيقاع الموج الدافق أقرأ مسكوناً بأطياف رامبو الشعريّة المنتشية بألمها، كشِفها وإشراقها، وبما يشبه القصف آتياً على علبة سجائر «الحمرا» واحدةً بعد أخرى… إضافة طبعاً إلى كتب أخرى على هذا السياق والمنوال. استُقبل ديواني بشكل إيجابي على الأغلب في الصحافة السورية و«السفير» اللبنانية وغيرها من الصحف اللبنانية التي كان لها سطوة المرجع الثقافي بالنسبة إلينا آنذاك. ونقدَه البعض نقداً جدياً أو على نحو من الطرافة، مثل مأخذ تأنيث النورس وهو قول لا يصحّ ضمن قواعد اللغة ومعطياتها!
لم أعد أحتفظ بشيء مما كُتب، لقد ضاع في الترحّل مثل الكثير غيره عدا هذا المقطع الذي كتبه الصديق إبراهيم الجرادي، ظهر فجأة بين أوراق هرِمة مُهملة كريش طائر منقرض: «سيف الرحبي يأتيك من جهة الخلاف، يتناقض معك، حين تتآلف مع السكون، ويتآلف معك حين تأخذك الحياة إلى مدارها الواسع، بعيداً عن الرخاوة والخطل. تختلف معه لا ضير! تتفق معه لا ضير! لأنه في الأساس لا يطمح في «الخلاف» أو «الاتفاق»، بالقدر الذي يريد أن يكون كما هو، شاعراً يختلف عن الآخر في الأرق والهداة، في الجنون والماثرة، في الحب وفي لعنة الشعر، تلك التي تضيء الحياة التالفة بنورها العظيم. جاء من عُمان، وتلوث بالألم العربي اللذيذ! و«تصفى» أيضاً، بهذا الألم، الذي يتراكم في زمن عربي مغبّر، نائم محبَط، لا ساعات فيه ولا دقائق!!. أي طموح تحمل هذه الكتابات؟ أن الرحبي لا يثقل عليك بشيء: التنظير أو «المثاقفة» أو «الجماهيرية» أو نقيضها. إنه يكتب ليؤرخ ويحتج ويتشظى».
أما صديقنا أبو الوليد الناقد يوسف سامي اليوسف رحمه الله، الذي كنا نلتقي معه بشكل يومي فلم يعلق على التجربة. وقد كتب لاحقاً حول ديواني السادس «يد في آخر العالم» احتفاءً وإعجاباً، من غير أن ينسى الإشارة إلى ذلك الشعر الذي كنا ننشره في الإقامة الدمشقية في تلك الفترة، فلم يكن يستسيغه لإمعانه في الغموض والسورياليّة. والأرجح أن هذا الموقف ينطلق من تحفظه على قصيدة النثر الذي تجاوزه نسبياً في ما بعد. حيث يقول: «(…) شاعر يكتب قصيدة النثر منذ عشرين سنة، أو أكثر بقليل. وهذا الشاعر هو سيف الرحبي، العماني الجنسية، والذي عاش في مصر وسورية مدة طويلة من الزمن. ولقد نشر الكثير منذ عام 1980، حين أصدر في دمشق أولى مجموعاته الشعرية بعنوان «نورسة الجنون»، وحتى العام المنصرم، أقصد عام 1998، يوم أصدر مجموعة جديدة، نشرتها دار المدى في دمشق أيضاً، وعنوانها «يد في آخر العالم»… وعلى أية حال، دعني أصرح بأنني قلما استسغت شعر سيف الرحبي، لأنه شديد الميل إلى السريالية الغامضة، ولأنه مغرق في التجريد الناشف أو غير الموحي، إذ يكاد لا يؤشر إلى معنى خصيب أو يشف عن فحوى عميق، اللهم إلا أن يكون ذلك لماماً وحسب. ولكن المجموعة الأخيرة، أي «يد في آخر العالم»، لها شأن آخر، فهي شفافة في كثير من الأحيان، وتتمتع بأسلوب سلس جذاب من شأنه أن يجعل اللغة برسم الذائقة (…)».
وبما أن كتابي الثاني «الجبل الأخضر» كان سابقاً في الكتابة على «نورسة الجنون» الذي كانت له أولوية الصدور بمحض الصدفة، فقد كتبتُ في استهلاله هذه الإشارات: «هذه الكتابات الشعرية القصصية، هي التجربة الكتابية الأولى، ورغم الوصول إلى فهم جديد لطرائق التعبير، كما بدأت ملامحه الأولى في «نورسة الجنون»، وستتضح أكثر في المجموعة القادمة «أميرة الينابيع ذات الأحداق الوثنية»، تظل هذه الكتابات مؤشراً لفترة من التوتر الذهني الذي ما زال يسود، ولا يعني ذلك أنها مفصولة عن السياق الكتابي الآخر من حيث التوجه العام في الكثير منها إلا كونها اضطرابات بدءٍ يستمر حتى تخوم الانتخار في أحشاء اللغة لصالح قصيدة لن تكتب إلا بحبر الموت (ربما) ولا يعني هذا التوضيح طلب شهادة حسن سلوك من أحد بقدر ما يعنيه التشنيع».
أُعاود القول إنّ من الصعب استلال ذكرى ربما لا قيمة لها في غمرة هذا المشهد القيامي الذي تمرّ به بلاد الشام التي غمرتنا بكرم مثقفيها وشعبها، رغم أنني أعيش خارج ذلك المشهد بعيداً عن ويلاته المباشرة، لكنني وأصدقاء كُثراً معبّأون بفظاعاتهِ التي تشهد على عار الإنسان، العربي خاصةً، وتشهد على موت الضمير.
_________
كلمات
العدد ٢٩٢٦

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *