سمير فريد*
تعتبر هالة خليل من مخرجي السينما الذين لا تحركهم لصنع الأفلام سوى دوافع داخلية فكرية وفنية من القلب والعقل وكل الحواس. وهذا ما يبدو من أفلامها الخمسة القصيرة والثلاثة الطويلة، وكلها روائية، التي أخرجتها منذ تخرُّجها في معهد السينما عام 1992.
وأفلام هالة خليل من الأفلام الواقعية التي لا تقطع مع جمهور السينما السائدة، ولا تخضع له في نفس الوقت. وواقعية الفنانة في فيلميها الطويلين الأوَّلين «أحلى الأوقات» 2004، و«قص ولصق» 2006، امتداد أصيل للواقعية الكلاسيكية والواقعية الجديدة في السينما المصرية.
وفي فيلمها الثالث «نوارة» (122 دقيقة) الذي عرض لأول مرة في مسابقة مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2015، وفازت منة شلبي بجائزة أحسن ممثلة عن دورها فيه – تقدم فيلماً سياسياً من علامات السينما السياسية، وذلك بمفهوم أن الفيلم السياسي ما يتناول أحداثاً سياسية وقت وقوعها. فأحداثه تبدأ وتنتهي في ربيع 2011 بعد ثورة 25 يناير 2011، ولكننا مازلنا بعد الثورة حتى الآن.
يعلن الفيلم مولد منتج جديد طموح هو صفي الدين محمود، حيث تتكامل مجموعة الفنانين أمام وخلف الكاميرا، ويبدع كل منهم في فنه، من الممثلين والممثلات إلى تصوير زكى عارف (ديجيتال ألوان) وميكساج أحمد جابر، ومونتاج منى ربيع وديكور هند حيدر وأزياء ريم العدل وموسيقى ليال وطفة.
عبَّرت هالة خليل في «أحلى الأوقات» و«قص ولصق» عن تدهور الطبقة الوسطى في مصر، التي تكاد تنمحي. ويؤكد «نوارة» الذي كتبته المخرجة ذلك بتعبيره عن عالم المجمعات السكنية الفاخرة، وعالم الأحياء العشوائية البائسة. وبينما محور كل من الفيلمين الأوَّلين ثلاث نساء، فإن محور «نوارة» امرأة واحدة هي التي يحمل الفيلم اسمها. وسينما هالة خليل أيضاً سينما نسائية بامتياز، وذلك بمعنى أنها تتضمن من التفاصيل الدالة ما يصعب إدراكها إلا بواسطة النساء، كما أن أغلبية طاقم الفيلم وراء الكاميرا من النساء.
القاهرة 2011
في بداية الفيلم لافتة تشير إلى أن الأحداث تدور في القاهرة في ربيع 2011، أي بعد شهور قليلة من اندلاع ثورة 25 يناير ذلك العام. وبقدر بساطة الفيلم في التعبير عن الثورة من خلال التناقض بين حياة الأثرياء وحياة الفقراء، بقدر عمقه في هذا التعبير.
الموضوع هنا ليس مجرد التناقض بين الثراء والفقر، وإنما كيف تحول المجتمع المصري في العقود التي سبقت الثورة، ولأول مرة في تاريخه الحديث، إلى عالمين كاملين منفصلين تماماً: عالم قصور المجمعات ذات المداخل الكهربائية وحمامات السباحة الكبيرة والكلاب الغالية والشوارع الواسعة التي تتحرك فيها السيارات الفارهة، وهي مجمعات محاطة بأسوار عالية وتحرسها شركات أمن خاصة. وعالم الأحياء العشوائية التي لا تصلها المياه، وليس بها شوارع وإنما زوايا تتحرك فيها عربات «التوك توك» بصعوبة، والحمامات مشتركة والخصوصيات منتهكة والمنازل أطلال خربة. وهي أحياء محاطة بالأسوار أيضاً، ولكنها من أكوام القمامة والمخلفات. وليس هناك فيلم مصري عبَّر عن هذين العالمين بقوة ووضوح كما في هذا الفيلم. وليس هناك فيلم مصري عبَّر عن الجذر العميق لثورة يناير كما في هذا الفيلم، فالتناقض الهائل بين هذين العالمين كان لابد أن يؤدى إلى الثورة. وكما قال بريخت يوماً «مادامت الأمور قد وصلت إلى هذا الحد، فقد حان إذن أوان التغيير».
بين عالمين
يتحرك الفيلم بين العالمين المذكورين من خلال نوارة (منة شلبي) الشابة الصغيرة التي تعيش في حي عشوائي مع جدتها توحة (رجاء حسين)، وتعمل خادمة مثل أمها المتوفاة في قصر الوزير السابق والنائب في البرلمان أسامة (محمود حميدة)، الذي يعيش فيه مع زوجته شاهندة (شيرين رضا) وابنته الشابة خديجة (رحمة حسن) التي تماثل نوارة في العمر، وابنه إياد (أحمد مجدى) الذي ذهب إلى لندن بعد الثورة، ولا نراه إلا في مكالماته عبر النت، وهو يطلب من أسرته أن تلحق به وتأتى بأموالها.
في أول مشاهد الفيلم نري نوارة تستقل «موتوسيكل» يقوده «على» (أمير صلاح الدين)، ويذهبان إلى المستشفي الحكومي الذي لا يجد فيه والد «على» سريراً للعلاج، ثم تبدأ رحلتها اليومية إلى «الميكروباص» البائس الذي تستقله حتى تصل إلى «الميكروباص» الفاخر الذي ينقل الخدم من الباب الخارجي للمجمع إلى مواقع القصور داخله. و«علي» من أسرة نوبية تعيش في نفس الحي العشوائي الذي تعيش فيه نوارة، ويعمل في إصلاح الأجهزة الكهربائية في دكان والده الذي أقعده المرض، ويحتاج إلى عملية جراحية. وقد تم عقد قران على ونوارة منذ خمس سنوات، ولكنهما في انتظار إيجاد المسكن الذي يتزوجان فيه.
ونحن نعرف الأحداث التي تقع في ربيع 2011 بعد الثورة من خلال الراديو والتليفزيون في البيوت والسيارات، حيث نرى البرادعي ومذيعتي التليفزيون دينا عبدالرحمن وريم ماجد، ونسمع صوت عمرو حمزاوي. كما نرى مظاهرة في وسط القاهرة تشترك فيها هالة خليل والمنتج السينمائي الكبير محمد العدل. وكان من الضروري هنا كتابة اسم المخرجة واسم المنتج ليعرفهما جمهور المشاهدين وخاصة خارج مصر.
أخيار وأشرار
المجتمع أصبح من عالمين منفصلين، ولكن الكاتبة المخرجة لا تقع في فخ أن هذا عالم الأشرار وذاك عالم الأخيار. إنهم جميعاً شخصيات درامية، وفي كلا العالمين الأخيار والأشرار. كان أسامة يرفض السفر، ويري أنها «هوجة» وسرعان ما سيعود كل شيء كما كان. وكانت زوجته شاهندة تؤيد الابن إياد، والابنة خديجة تعارض السفر، ولكن ما إن يُعلن القبض على مبارك وولديه حتى يقرر أسامة السفر إلى لندن. وفي آخر لقطة يظهر فيها نراه يضع على عينيه نظارة سوداء، ويغادر مع زوجته وابنته من دون أن ينطق بكلمة واحدة. وتطلب شاهندة من نوارة أن ترعى البيت وتقيم فيه وتوحى بأنهم لم يغادروه، وتطلب من عبدالله (أحمد راتب) حارس السيارات أن ينظفها كل يوم ليؤكد ذلك. كما تطلب خديجة من نوارة رعاية كلبها بوتشي، ويقوم بدوره الكلب فينو.
هذه هي المرة الأولى في السينما المصرية التي نري فيها قصة حب بين إنسان وكلب. كانت نوارة تخاف من بوتشي، ولكنها طبقت نصيحة شاهندة بأن خوفها يجعله يخاف منها، وبذلك تحول الخوف المتبادل إلى حب متبادل. وعندما تقوم نوارة بنزهة مع بوتشي تلتقي مع الجارة مايا التي تتنزه مع كلبتها، وتتصور مايا أن نوارة صاحبة الكلب مثلها، وليست خادمة. ويفتقر هذا المشهد إلى الإشباع الدرامي، بل إننا لا نكاد نرى رد فعل نوارة.
وعندما يأتي حسن (عباس أبوالحسن) شقيق أسامة الحاقد عليه مع والدهما للتأكد من مغادرة أسامة للبلاد، يتعامل بعنف مع نوارة لتقر بالحقيقة، ويهاجمه بوتشي، ويطارده، فيطلق عليه الرصاص ويقتله. وتقوم نوارة مع عبدالله بدفن بوتشي في الحديقة وهي تتلوى من الألم. وعندما تطلب نوارة من شاهندة عبر التليفون عشرة آلاف جنيه قرضاً لعلاج والد علي، ترشدها شاهندة إلى مكان عشرين ألف جنيه للعلاج والزواج وتقول لها إنها هدية الزواج.
وفي العالم الموازي الأخيار والأشرار أيضاً. ها هم اللصوص وقد وجدوا الفرصة سانحة لنهب بعض المحلات، وذلك في غمار الفوضى التي تعقب الثورات. وإن افتقد هذا المشهد إلى الإشباع الدرامي أيضاً. وينقل على والده إلى مستشفى خاص بعد أن يئس من علاجه في المستشفى الحكومي، الذي يبدو فيه عنبر العلاج المجاني مروعاً وكأنه في مستشفى ميداني أثناء الحرب. ويختفي أحد مقتنيات قصر أسامة، وتشك نوارة في على، ولكنه يعيد ما سرقه في مشهد من أجمل المشاهد التي برع فيها الممثل أمير صلاح الدين. والحب بين النوبي الأسمر الجنوبي على والبيضاء الشمالية نوارة، تعبير عن الفقر الذي انتشر في كل مصر من الجنوب إلى الشمال.
وتتكامل مشاهد المستشفى الحكومي مع مشهد مندوب الحي الذي جاء يجمع أموالاً إضافية من أموال السكان الفقراء القليلة بدعوى ارتفاع الأسعار لتوصيل أنابيب المياه إليهم، فهو بذلك مثل الممرضة مؤمنة (شيماء) التي تحكم عنبر العلاج المجاني، وتبتز المرضى، والتي أدت شيماء دورها بتلقائية مدهشة وكأنها ترتجل الحوار. ويتكامل مندوب الحي المرتشي والممرضة الجشعة مع المستشفى الخاص الذي يطلب عشرة آلاف جنيه لعلاج والد على مما يدفعه إلى السرقة والتعامل مع اللصوص.
أحلام الفقراء
يركز الفيلم من خلال الراديو والتليفزيون على مسألة إعادة الأموال التي هربها أقطاب النظام السابق إلى الخارج، والتي وصلت إلى حد إشاعة أنها سوف توزع على الفقراء، ويحصل كل منهم على 200 ألف جنيه، وهو تعبير عن الخيال الشعبي الذي حلق في كل الاتجاهات بعد الثورة، والإيمان بأنها سوف تحقق كل أحلام الفقراء.
وينتهي الفيلم نهاية صادمة، إذ يتزوج على ونوارة ويقضيان ليلة سعيدة في القصر بعد أن أعاد على ما سرقه، وحصلت نوارة على هدية شاهندة، ولكن في الصباح تأتى قوة لمصادرة القصر، ويعثر قائدها على المبلغ في حقيبة نوارة، ويقبض عليها بتهمة السرقة.
ملاحظات فنية
وإلى جانب المشاهد غير المشبعة درامياً التي سبق ذكرها، هناك ثلاثة مشاهد أخري. الأول العلاقة بين توحة التي تبيع الطعمية من شباك حجرتها، وبين التلميذ الذي يأتي لها بالكراسات القديمة لكي تلف بها الطعام. والمشهد الثاني الخادمة الطفلة التي تبدأ أول أيامها كخادمة، وتوصيها عمتها الخادمة بدورها في «ميكروباص» الخدم بما يجب أن تفعله. والمشهد الثالث تراجع والدة على عن موقفها المعارض لزواج ابنها من نوارة طبقاً للتقاليد النوبية التي لا ترحّب بالزواج من غير النوبيات.
وهناك ملاحظة على مونتاج الصورة، وأخري على ميكساج الصوت. أما بالنسبة إلى المونتاج، فهي القطع من منظر كبير للمياه في حمام السباحة إلى منظر كبير للمياه الشحيحة في الحي العشوائي، فلا توجد مشكلة في الانتقال بين المشهدين، ولكن الانتقال بالمناظر الكبيرة كان مونتاجاً ميلودرامياً إذا جاز التعبير. أما ملاحظة ميكساج الصوت، فهي عدم تغير مستوى الصوت داخل وخارج الدكان في مشهد لقاء نوارة مع على بعد أن ساورها الشك في أنه أصبح لصاً.
من الجودة إلى العظمة
كانت منة شلبي ممثلة جيدة منذ أول أدوارها عندما اكتشفها فقيد السينما الراحل المخرج رضوان الكاشف في فيلمه «الساحر» عام 2001، ولكنها في «نوارة» تثبت أنها أصبحت من عظماء التمثيل بفضل عين هالة خليل الثاقبة، وأزياء ريم العدل البارعة التي تجمع بين البساطة إلى درجة الفقر، والأناقة إلى درجة أن الجارة مايا تصورت أن نوارة صاحبة الكلب بوتشي.
لقد أدركت منة شلبي أعماق شخصية نوارة، فهي فتاة قوية ومتفائلة ومقبلة على الحياة رغم عملها كخادمة وظروف حياتها في الحي العشوائي وعجزها عن الزواج بعد مرور خمس سنوات على عقد قرانها. وتبدو هذه الشخصية منذ المشهد الأول وهي خلف عليّ علَى «الموتوسيكل» حيث تملأ الابتسامة كل وجهها، وكأنها في نزهة رفاهية، وليست في الطريق الطويل الصعب إلى القصر الذي تعمل فيه. وحتى عندما تشك في على تتغير نظراتها لتصبح عاتبة وليست غاضبة.
نوارة لم تفقد طفولتها رغم كل الظروف القاسية. انظر إليها وهي تخاف من بوتشي قبل أن يتبادلا الحب. انظر إليها وهي تحنو على كتكوت من الكتاكيت التي تربيها جدتها وتخشى عليه من المرض. انظر إليها وهي تحتضن جدتها عندما تتحدث عن انتظارها للموت، وكيف تجمع نظراتها بين الأسي والحزن والعطف الممزوج بالحب العميق. لقد بدت منة شلبي في دور نوارة كأنها صورت كل مشاهدها في يوم واحد، وتلك أعلى درجات التمثيل في السينما.
الموقف السياسي
كان من الممكن أن ينتهي الفيلم بعد مصادرة القصر صباح ليلة العمر التي قضاها على مع نوارة، والتي بدت كالحلم مع إضاءة مدير التصوير الفنان زكى عارف. ولكن الناقد لا يقترح، وإنما عليه تحليل الفيلم كما هو على الشاشة.
هالة خليل لها موقف سياسي يبدو واضحاً من داخل الفيلم، وبغضّ النظر عن التصريحات الصحفية وكل ما هو خارج الفيلم. وهذا الموقف ينحاز كلياً للثورة، وانظر إلى بدء استخدام موسيقى ليال وطفة التعبيرية البديعة مع إعلان القبض على مبارك وولديه. وانظر إلى الشخصيات التي تختارها من برامج الراديو والتليفزيون. وتريد الفنانة من النهاية الصادمة التي تتهم فيها نوارة بالسرقة ظلماً، القول بأن الثورة لم تحقق أحلام الفقراء، بل زادت من الظلم الواقع عليهم.
وهذه النهاية صادمة لأنها تتضمن درجة كبيرة من التعسف الدرامي، أي فرض الرأي الأيديولوجي من دون مبررات درامية كافية. فمن ناحية من الممكن إثبات أن نوارة لم تسرق المبلغ، ومن ناحية أخري فالأحداث تدور في ربيع 2011 بعد شهور من الثورة، وليس من المنطقي أن تحقق أهدافها في هذه الفترة الوجيزة. وإذا كان المقصود عدم تحقيق الأهداف بعد خمس سنوات، أي في زمن عرض الفيلم، فكان من الضروري أن تستمر الأحداث حتى 2015. كما أن اعتبار الثورة قد زادت من معاناة الفقراء بتلك النهاية، يتناقض مع انحياز الفيلم للثورة. وهذا الانحياز يتسق مع أن تكون النهاية مصادرة القصر، ولكن هذه النهاية تعنى انتصار الثورة، ورأى صانعة الفيلم بالنهاية التي اختارتها أن الثورة لم تنتصر.
لقد وقعت الثورة، ومن المستحيل العودة إلى ما قبلها مهما حدث. ومن طبيعة الثورات سرعة التغيير، ولكن ليس بمنطق ضغطة زر على الكمبيوتر ويصبح كل شيء بين يديك.
___________
* المصري اليوم.
شاهد أيضاً
“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني
(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …