محمد طملية.. أول الساخرين الأردنيين وآخر من يموت



*يوسف غيشان


خاص ( ثقافات )


يدعي الزعيم الكوبي فيدل كاسترو بأن حكم الأمة أسهل من إضحاكها، وهذا قول فيه مجاملة كبيرة للفنانين المضحكين في المجالات كافة ، لكنه بالتأكيد لا يقصد الكتاب السياسيين الساخرين… إذ أن هؤلاء لا يحبون الأنظمة لأنها تقمع حريتهم، ولا تحبهم الأنظمة ،لأنهم ينتقدونها، وهي لا تستوعب أكثر من المديح والتقديس ولحس الأرجل. حتى الأنظمة الاشتراكية حينما تتحول إلى حكومات يحكمها الفرد ، فإنها تصير نقيضا طبيعيا للكتابة الساخرة.
الكتابة الأردنية الساخرة تطورت بشكل سريع جدا…ففي عام 1987 لم يكن لدينا سوى كاتب ساخر واحد هو محمد طمليه ثم ومع الاتجاه نحو الديمقراطية النسبية نهاية عام 1989 ظهرت فيالق من الساخرين من بداية التسعينيات استقبلتهم الصحف اليومية والأسبوعية وكنت أنا أحدهم…. كنا كثيرين في الواقع…لكن بعضنا استمر وبعضنا اعتزل وبعضنا قضى نحبه …لكن فيالق جديدة انضمت إلى ميليشيا الساخرين، وما زال التجنيد غير الإلزامي مستمرا، وسوف يتكاثر الساخرون كلما تكاثر المحتلون والمغتصبون اللصوص والظالمون ولصوص المال العام والخاص وسادة السحر الأسود والفوشي والأحمر.

من هو طمليه
محمد طملية كاتب وصحفي أردني (1957 – 2008) من مواليد مدينة الكرك، جنوب الأردن. يُعد من الكتاب الأردنيين الأكثر شهرة محلياً وعربياً لما يتميز به من سخرية لاذعة وفهم سياسي لما يدور محليا ودوليا. بدأ مشواره الصحفي مع جريدة الدستور عام 1983، وكان كاتبا لعمود يومي في عدة صحف أردنية أخرى، كما كان عضواً في الهيئة الإدارية لرابطة الكتاب الأردنيين، وفي اتحاد الأدباء والكتاب العرب.
وهو أول من كتب مقالا ساخرا في الأردن. وقد استطاع أن يوجد لنفسه أسلوبا فريدا، فجمع بين الأسلوب الصحفي والأدبي في الكتابة.

– جولة العرق (قصص) عمان: مطبعة التوفيق، 1980.
– الخيبة (قصص) عمان: مطبعة التوفيق، 1981.
– ملاحظات حول قضية أساسية (قصص) الزرقاء: مطبعة الزرقاء الحديثة، 1981.
– المتحمسون الأوغاد (قصص) عمان: رابطة الكتاب الأردنيين، 1986.
– يحدث لي دون سائر الناس)، كتاب مشترك مع رسام الكاركاتير حجاج، منشورات شركة أبو محجوب، عمان، 2004.[3]
مات محمد طمليه مؤسس الكتابة الأردنية الساخرة، منذ سبع سنوات، ومن ذلك الحين، إلا وكتب عنه أحد الزملاء أو القراء أو المعجبين او الناقدين، في الصحف أو المجلات الثقافية أو على مواقع التواصل الإجتماعي .

طمليه كان- وما يزال- حالة إبداعية فريدة لا يستطيع أحد أن يتجاهلها، حتى لو اختلف معه شخصيا أو فنيا… وهذه إحدى ميزات – أو لعنات- الإبداع: ان يكون خلافيا وجدليا ومثيرا للأسئلة. ولم يكن طمليه يهتم بهذه الكتابات ، إذ كان منهمكا ربما منذ ولادته بهذا القلق الوجودي والغربة والإحساس المفجع بالعبث والأرق والتوق إلى المستحيل.
في أحد مجموعاته القصصية التي صدرت عام 1984 كتب قصه قصيرة جدا ، كانت عنوانا لمجموعته القصصية الرابعة، وهي قصة (المتحمسون الأوغاد)،وتتحدث حول نملة سئمت من حياة فصيل النمل الرتيبة التي تقتصر على نقل الحبوب وتخزينها استعدادا للشتاء القادم، فقالت لرفيقتها:
– هراء أن تكون حياة النمل مقتصرة على نقل أشياء سخيفة.
لم تستوعب (الرفيقة) هذا التمرد الغريب وحاججتها بضرورة التخزين لغايات استمرار الحياة لكن النملة المشاكسة قالت لها، بلا مبالاة:
– إننا سنموت بطبيعة الحال…. لقد فقدت الدهشة في حياة رتيبة لا جديد فيها …إن حبوب القمح متشابهة حتى ليخيل لي أني نقلت حبة قمح واحدة طوال حياتي.
وكان أن قدمت رفيقتها تقريرا بما سمعت إلى قائدة الفصيل،فصارت نملة طمليه محتقرة ومنبوذة حتى أن إحدى رفيقاتها قالت (على سمعها):
– تلك هي النملة الساقطة، كم أرجو لو يسمحوا لي بدق عنقها.
فأشاحت نملة طملية بوجهها وهي تقول:
– هؤلاء المتحمسون الأوغاد.
هذه هي القصة ، بكل بساطتها وعمقها، بكل انهزاميتها وتمردها، بكل انتمائها واغترابها، بكل حزنها وفكاهتها السوداء…هذه هي نملة طمليه ..هذا هو محمد طمليه شخصيا وفنيا .
وقد وضعتنا نملة طمليه أمام اشكالية فلسفية وجودية، لم نكن نلتفت إليها قبل الآن، هل ندين الفصيل الذي يعمل بنشاط روتيني هائل، لكنه نسي ممارسة الحياة والدهشة بالتفاصيل والتمتع بلذه المغامرة خلال انغماسه في تأمين الضروريات ؟ أم ندين النملة المتمردة على روتين الحياة اليومية والعادي والمفروض والمسلم به، وتسعى إلى (تتفيه) هذا العمل الضروري لحياة القطيع- الفصيل؟. أم ندين الاثنين معا؟.
محمد طمليه –في هذه القصة- أبقانا على جمر القلق، فهو يجيد طرح الأسئلة المفجعة لكنه لا يحاول أن يجيب عليها، بل يتركنا نهبا للقلق الوجودي الذي يعاني منه، لكننا نعرف وندرك أنه كان متعاطفا مع نملته ، ومؤيدا لها في السر والعلن، لا بل عين نفسه قائدا لميليشيا النملة المشاكسة في كل لحظات حياته…ودفع ثمن ذلك..قلقا ومللا وعبثا وموتا اقراحا.
كابوس طمليه
“ما أن وضعت رأسي على الوسادة، وكلي ثقة أنني سأغفو في الحال، حتى سمعت صوت قطرات الماء تتساقط من حنفية في المطبخ أو الحمام. نهضت وشددت الحنفيات بأقصى ما أستطيع. خيّل لي أنني عالجت الأمر ، فعدت إلى فراشي” انتهى الاقتباس.

هذه هي الفقرة الأولى من قصة له بعنوان “الكابوس” . بطل القصة لا يستطيع النوم نتيجة صوت تساقط قطرات الماء من الحنفية ، وهو مهما يشد الحنفيات، يستمر الصوت ينقر في دماغه، ويحرمه من النوم.

بطل طمليه يعتقد في النهاية أن الخلل في (جلدة) الحنفية ، فينزل الى السوق، ويقرر أن يشتري دزينة كاملة من الجلد ، حتى لا يتعرض لمثل هذا الأرق مرة ثانية . لكنه يفاجأ بأن الناس جميعا يعانون من الأرق لذات السبب، وهم يصطفون بفوضى عارمة على أبواب الدكاكين لشراء جلد الحنفيات ، ويتشاجرون ويتزاحمون، كل منهم يريد أن يشتري جلدة ،حتى يغير جلدة الحنفية الخربانة لديه .. لعله يستطيع النوم.
لنبتعد قليلا عن فكرة القلق الوجودي للفرد، التي(قد) تتحدث عنه هذه القصة، ولنمنحها- على سبيل الفضول- ثوبا اجتماعيا ، لنقول إن الناس لم يجدوا الحل في البيت فنزلوا إلى الشارع للبحث عن الحل ، فوجدوا أن الطريق مسدود، وأن الشارع يعيش في فوضى عارمة ، وأن جلد الحنفيات قد نفدت من الأسواق ، لا بل أن العديد من المحلات علّقت على بواباتها لافتة، تقول: “لا يوجد لدينا جلد للحنفيات، يرجى عدم الإحراج”. وهي بالمناسبة العبارة الأخيرة التي تنتهي فيها هذا القصة العبقرية، التي لخصت القلق العام والخاص في صفحة فولسكاب واحدة.

الآن وبعد ثلاثين عاما ونيف على كتابة هذه القصة ، نجد أن قلق بطل القصة، تحول إلى قلق عام في العالم العربي بأكمله ، وأن الناس نزلوا إلى الشارع يبحثون عن خلاصهم في الشارع .
منهم من وجد جلدة حنفية بعد صراع طويل مع الآخرين ، فعاد إلى البيت ، وغيّر الجلدة القديمة، وحاول أن ينام ، لكنه اكتشف انه امتلك – من خلال هذه التجربة – وعيا اجتماعيا يمنعه من النوم بينما الأصدقاء والأقرباء والأحبة لا يجدون خلاصهم ، فاستمر في البحث عن جلد الحنفيات للآخرين ….هذا ما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن، بينما ما يزال الناس في الدول العربية الأخرى يبحثون عن جلدهم الخاصة.

المشكلة في عالمنا العربي ، أن الخراب ليس في الجلدة فقط، فهو خراب عام وصل إلى الحنفية الرئيسية التي توزع المياه، وهي “الأستابكوك” بلغة السبّاكين والموسرجية.

نحن في طريق البحث عن آليات لتغيير الأستابكوك الذي يتحكم في عقولنا وقلوبنا وأرواحنا. علينا أن نسرع قبل أن نجد محلات السباكة تكتب على أبوابها عبارة: “لا يوجد لدينا استابكوك ، يرجى عدم الإحراج”. 
ghishan@gmail.com
______________
*كاتب أردني 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *