*عبدالسلام بنعبد العالي
أمران يجب استبعادهما عند الحديث عن هذا الموضوع: أولهما أن القضية لا تتعلق مطلقا بأية محاولة تركيبية كيفما كان شكلها. وثانيهما أننا بعيدون هنا عن “موضة” نـهاية الفلسفة وموتـها. سيكون علينا إذن أن نتحدث عن مسألتين لا تخلوان من صعوبة: علاقة دولوز بـهيجل، وعلاقته بـهايدغر. سنرجئ الحديث عن المسألة الأولى لنبدأ بعلاقـة دولوز بـهايدغر من خلال التوقف عند مسألة “نـهاية الفلسفة ” هـاته. لا أقصد هنا ما أدعوه “حكاية ثقافية فرنسية” سميت موت الفلسفة، وإنما مسألة فلسفية استقطبت الفكر المعاصر في شتى مناحيه.
كلنا يعرف “التصريحات” المتعددة لدولوز بصدد هاته القضية. فهو ما يفتأ يردد أنه “لم يشغل باله قط بمسألة نـهاية الفلسفة” اعتقادا منه “أن للفلسفة وظيفة ما تزال حية، وتلك الوظيفة هي إبداع التصورات”.
ضد الصورة المتفردة عن حداثة كاسحة لقدر فكر يأفل نحو المغيب، يقيم دولوز صيرورات مبعثرة لا متناهية تظل تعمل خفية فيما وراء مـا يقدم نفسه تراثا فلسفيا. عوض التجاوز الـهايدغري، وبدل نـهاية الفلسفة وموتـها يتــم الحديث هنا عن “خروج” عن تاريخ الفلسفة، “إذ أن الـهـدف ليس الإجابة عن أسئلة، وإنما الخروج، الخروج منها”.
لا يهتم دولوز بنقطة نـهاية أو لحظة اكتمال، كأن ندعي أنـها موجودة عند هيجل، أو أن نثير صخبا لا مجديا حول ما إذا كان نيتشه ينتمي، أو لا ينتمي، لتاريخ الميتافيزيقا. ذلك أن نقاط النهاية، أو فجوات الخروج، لا متناهية. يقول: “كنت أفضل الكتّاب الذين كان يبدو كأنهم ينتمون إلى تاريخ الفلسفة. لكنهم كانوا ينفلتون من إحدى جوانبه، ومن ثمة يخرجون منه كلية، أمثال لوكريس وسبينوزا وهيوم ونيتشه وبرغسون”.
ففي ميدان الفكر، ليس هناك أساس مشترك، والمفكرون لا يطرحون الأسئلة ذاتـها، ولا يستعملون التصورات عينها. ليس هناك ما يجمع المفكرين ويضمهم داخل تاريخ موحد. كل ما هناك حركات متفردة وخطوط متقاطعة. لا يتعلق الأمر إذن بتجاوز تاريخ الفلسفة، وإنما بفك وحدته الموهومة للعثور فيها على ما هو متفرد. يتعلق الأمر ببعث الحدث في وحدته وتفرده داخل ما يسمى حركة كلية. ذلك أن متابعة أحداث الفكـر من شأنـها أن تبرز الفكر كحدث. فلسنا هنا، كما أثبت فوكـو، لا أمام وحدات، ولا إزاء كليات، وإنما أمام تفردات. إبراز هذه التفردات هو وقوف عند الحدث داخل الفكر.
على هذا النحو ينبغي أن نفهم التنقيب الذي يمارسه دولوز في سلة مهملات تاريخ الفلسفة التقليدي. ففي وقت كان الحديث فيه عن التجريبية الانجليزية لا يتم في فرنسا إلا من حيث هي ذيل من ذيول بعض الفلسفـات الألمانية ؛ وفي وقت لم تكن الطليعة ترضى فيه الحديث عن برغسون إلا إذا اتخذت موقعها ضده، يصر دولوز على الاهتمام بـهؤلاء لا بحثا عن نماذج فكرية جديدة، وإنما سعيا وراء “ضبط الفكر أثناء عملـه عند المفكر”.
يشبه دولوز تاريخ الفلسفة بفن رسم الوجوه عند الرسامين : “في تاريخ الفلسفة يتم رسم وجوه ذهنية تصورية، والأمر يتم هنا كما يتم في فن الصباغة، إنه يتطلب محاكاة ووضع صورة كأنها تشبه صاحبها، ولكن بوسائل غير مشابـهة، بوسائل مخالفة : إن وجه الشبه ينبغي أن يتم خلقه وإنتاجه وألا يكون وسيلة لإعادة الإنتاج، وإلا فإننا سنكرر ما قاله الفيلسوف حرفا بحرف”.
ليس غريبا أن يشبه دولوز، “تلميذ” نيتشه صاحب قلب الأفلاطونية، ليس غريبا أن يشبه تاريخ الفلسفة بعملية استنساخ يكون فيها المؤرخ رساما يكرر النماذج ويستنسخها. كل المسألة تعود إذن إلى آلية الاستنساخ وعملية التكرار. فلنقل إذن إن تاريخ الفلسفة تكرار يحاول أن ينتج أوجه الشبه بوسائل مخالفة. وهو محاولات انفصال دائبة متعددة الواجهات متواصلة الجهد، وانتقال وترحال لا يعرف الكلل، لا لأن الرحلة طويلة، وإنما لأن بين الرحلة والعمارة علاقة تجاذب تضاهي التجاذب بين قوتين فزيائيتين : “فالرحال يعارض بجهـازه الحربي الطاغية بجهازه الإداري، وفليق الرحل الخارجيين يقومون ضد فيلق الطغاة الداخليين. وبالرغم من ذلك فهما من التداخل والارتباط بحيث إن همّ الطاغية هو أن يضم إليه جهاز الرحال الحربي. أما مشكل الرحال فهو أن يبتكر جهازا إداريا للامبراطوريـة المغزوة. إنـهما لا ينفكان عن التعارض إلى حد أنـهما يمتزجان”.
على هذا النحو ينبغي أن نفهم هنا الخروج والترحال. صرح دولوز ذات مرة معجبا بعبارة لتوينبي: “إن الرحّل هم المعمرون. إنـهم رحل لأنـهم يرفضون أن يرحلوا بعيدا”.
الخروج والانفصال إذن إقامة لا تنقطع، إنه رحلة عبر تاريخ الفلسفة ومحاولات لا متناهية للزيغ عن طريقها و”الخروج” عن منطقها، وقلب بنيتها. قلب بنيتها الأفلاطونية أولا، لكن بنيتها الجدلية فالماركسية، فالتحليلية والقائمة لا ولن تنتهي.
ليست الأفلاطونية هنا، بطبيعة الحال، مذهبا فلسفيا يرتبط بشخص أو أشخاص، بمكانة أو أمكنة. الأفلاطونية بنية الميتافيزيقا ذاتها، تلك البنية التي لا تعمل، كما اعتدنا أن نقول على التمييز بين المعقول والمحسـوس، بين النموذج والنسخة، والتي لا يكتفي قلبها بأن يعيد المجد للمظاهر ضد الماهيات. القلب المقصود هنا يهدف إلى الطعن في عالم التشابه ذاته، ومنطـق التطابق الذي يتم داخله التمييز بين المظهر والماهية والمفاضلة بينهما.
سيغدو القلب إذن وقوفا عند النسخ ذاتها، ولكن هذه المرة، للإعلاء من النسخ “الخائنة”.
لننظر إلى العبارتين : “لا يتخالف إلا ما يتشابه”، “إن الاختلافات وحدها هي التي تتشابه”. يتعلق الأمر بقراءتين متمايزتين للعالم، باعتبار أن الأولى تدعونا إلى النظر إلى الفوارق انطلاقا من تشابه أو تطابق أولي. في حين تدعونا الأخرى إلى النظر إلى الهوية كما لو كانت حصيلة اختلاف وتنوع أوليين.
في قلب الأفلاطونية يطلق التشابه على الاختلاف ويطلق الذاتي على المخالف. فرق بينأن ننظر إلى التمايز انطلاقا من افتراض وحدة أولية، وبين أن نعتبر أن التشابه والوحدة يتولدان عن الاختلاف، وإن هذا الاختلاف هو ما يشكل الديناميكية الحقيقية لوجود الهوية، أي دينامية التكرار التي تتميز تميزا كبيرا عن الدينامية الجدلية. ذلك أن الاختلاف الـهيجلي، عندما يقذف به داخل حركة الجدل يصبح مجرد لحظة من لحظات الـهوية. صحيح أن الجدل يسمح للاختلاف بالعمل، لكن شريطة خضوعه لقانون السلب. فالطريق التي يسلكها التناقض الهيجلي هي الطريق التي ترده نحو التطابق، فتجعل التطابق كافيا لإيجاد التناقض وفهمه. فهذا التناقض لا “يفهم” إلا في أفق هوية يسعى الجدل إلى صيانتها وحفظها.
معنى قلب الهيجيلية والحالة هذه، هو تحرير السلب من هيمنة الكل وعدم توقيف عمله بفعل أي تركيب أو حبسه داخل منطق التعارض. سنغدو إذن أمام وحدة لا تتوخى لحظة تركيب واختلاف لا يرتد إلى التناقض وهوية لا تؤول إلى تطابق. فأي معنى يبقى للهوية والحالة هذه ؟ يجيب دولوز “إن الهوية والتشابه أوهام يولدها العود الأبدي” : فليس العـود الأبدي عودة الأمور ذاتها، وإلغاء الاختلافات. إنه يعني على العكس من ذلك، أن الغرابة والاختلاف يثبتان في العودة وعن طريقها. فليست الذات ذاتية إلا في / وعن طريق العودة التي لا تنفك تعود. وعندما قال نيتشه بالعود الأبدي فهو لم يكن يعني شيئا غير هذا : وهو أن ما يتكرر ليس التشابـهات التي تجمع بين النسخ، وإنما تبعثر السيمولاكرات، ذلك التعبثر الذي يكرس بينها الاختلاف إلى ما لا نـهاية. يتعلق الأمر إذن بمفهوم خاص عن زمان الفلسفة، بل عن الزمان ذاته. بدأنا الحديث بنقطة اختلاف مع هايدغر، وربما وجب، لكي تكتمل الدورة ويتم العود، أن ننهيه بنقطة تشابه معه أو قل بنقطة يتقاطع فيها هايدغر مع نيتشه.
ذلك أن التكرار المثبت للاختلاف يتطلب “قراءة جديدة للزمان” تحرره من مرضه الكرونولوجي. في منطق المعنى يضع دولوز الـ Aiôn الايون مقابل الكرونوس من حيث إن الأول هو “الزمان الذي ما ينفك يمضـي وما ينفك يعود” فـ “عوض الحاضر الذي يضم الماضـي والمستقبل، يضع الأيون مستقبلا وماضيا يصدعان الحاضر كل لحظـة”. (ولا بأس أن نذكر في هذا الصدد، وفي إطار إكمال الصلح والعودة إلى هايدغر أن Aiôn هو ابن لـ Mémoire ).
معروف أن نيتشه لا يدرك الزمان انطلاقا من الآن، بل من اللحظة وما يميز اللحظة عن الآن، كما يقول هايدغر “هو أن اللحظة ليست هي أصغر جزء من الحاضر، إنـها تفتح الحاضر أو تصدعه”. إن الحاضر كلحظة يحدث فجوة في الحال الراهن. اللحظي هو ما يقوم ضد هذا الزمان intempestif، هو ما يقوم ضد الزمان الحاضر “اللحظي هو قرار التاريخ النقدي الذي ينـزل بمطرقته على ثقل الماضي وثقل الحاضر”.
هذا هو النحو الممكن لإقامة تاريخ فلسفي. إنه ليس تاريخا كرنولوجيا وإنما تاريخ أيوني. تاريخ ضد هذا الزمان الحالي، inactuel وضد كل زمان.
___________
* مجلة الجابري/ العدد الأول.