عن رحيل الصغير أولاد أحمد



محمد المحسن*



خاص ( ثقافات )

“نَم هانئاً.. فالشعراء الأفذاذ لا يموتون”

إهداء: إلى محمد الصغير أولاد أحمد في رحيله الشامخ. 

“العبرات كبيرة وحارة تنحدر على خدودنا النحاسية.. العبرات كبيرة وحارة تنحدر إلى قلوبنا”

“أبدا لن يموت شيء مني.. وسأبقى ممجداً على الأرض ما ظلّ يتنفّس فيها شاعر واحد” (ألكسندر بوشكين)

اقتادتك تونس من يد روحك إلى فردوس الطمأنينة، بل ربما إلى النقيض. 
ولكن.. الشعراء العظام يولدون مصادفة في الزّمن الخطأ، ويرحلون كومضة في الفجر، كنقطة دم، ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر.. 

محمد الصغير أولاد أحمد: أوقعتك القافلة سهوا عنك، سهوا عنّا ومضيت قُبيل انتهاء القصيد دون وداع، فحين اكتفى معظم الشعراء ممن لامست قصائدك المتوهجة شغاف قلوبهم برثائك، والترحّم على رحيلك بدموع حارقة.. 

شاعرنا الفذ: منذ رحيلك وأنا أحاول مجاهداً تطويع اللغة، ووضعها في سياقها الموازي للصدمة.. للحدث الجلل.. إننّي مواجه بهذا الاستعصاء، بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية، أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق.. 

ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما انبجس بيت من شقوق القصيد.. 
ماذا تعني كلمات أو مفردات: منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟
لا شيء.. سوى الفراغ الذي كنت تملأه فيما مضى. يتسع بك ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الحزين جراء فساد العالم وخرابه.. 

القصائد الفذة والصرخة الاحتجاجية التي تخترق في عنفوانها سجوف الصّمت، وتواجه بشموخ الانحدار الرعوي وصلف حفاة الضمير.. 
الآن بعد رحيلك-القَدَري-أعيد النظر في مفاهيم كثيرة، ربما كانت بالأمس قناعات راسخة، الآن يبدو المشهد الشعري كأنّه مهزلة وجودية مفرغة من أي معنى سوى الألم والدموع.. 

أيّها الشاعر المسافر عبر الغيوم الماطرة: لقد احتمى اسمك بالوجدان التونسي حزناً صامتاً عميقاً سنظلّ نتوارثه جيلاً بعد جيل.. ونحلم بولادة شعراء أفذاذ في حجم شموخك.. 

هذا الحلم ما يفتأ يعاود الظهور في كلّ مرّة تصبح فيه الكرامة العربية مجرّد ذكرى، وتصبح الشعوب العربية مثل الهوام لا أمل ولا فرح ولا نسمة تهبّ من جداول الإبداع.. وطوبى للحزانى لأنّهم عند الله يتعزّون. 

محمد: الزّمان الغض، المضاء بشموس النصر والتحدي. الزمان المفعم بإشراقات القصيد، ما قبل إدراك الخديعة، بغتة الصدمة وضربة الأقدار.. 

الكون الحزين يرثيك. فرحة هي النوارس بمغادرتك عالم البشر إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين.. 
أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق، والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان. 

والسؤال: 
هل كان الحمام التونسي يعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكون واحدا من-قبيلته-بعيدا عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث، قاتل للحمام والبشر، معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن؟!

نائم هناك على التخوم الأبدية، وروحك تعلو في الضياء الأثيري، طائراً أو سمكة أو سحابة أو لحناً في موسيقى. لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض. 

في الزمان الحُلمي، كما في رؤيا سريالية، سأحملك على محفة من الريحان، بعد تطهيرك بمياه الوديان، من مصبات الأنهار والمنحدرات الصخرية باتجاه البحر.. سيسألني العابرون: إلى أين؟
في السماء نجمة أهتدي بها. أعرفها. تشير دوماً إلى القدس. أنت أشرت إليها ذات غسق وهي الآن فوق-مقبرة الجلاز-تضيء القبور بلمعانها المميز عن بقية الكواكب. وهي تشير كذلك إلى المرقد والمغيب فوق أفق البحر في أواخر المساءات. أحملك نحوها لتغطيك وتحميك بنورها الأسطوري لتدخل في ذرّاتها وخلودها الضوئي.. 
قبل هذا الاحتفال الأخير سأطوف بك حول-أحياء الفقراء-التي أحببتها، معقل الصابرين، حيث يرثيك أهلك و-مريدوك- بدمع حارق يحزّ شغاف القلب.. 
يسألني العابرون أو أسأل نفسي: هل محاولة استعادة نبض الحياة الماضية يخفّف من وطأة صدمة الموت؟.. لا أعرف شيئاً.. 

حين يأتي المساء الرّباني سنلتئم تحت خيمة عربية مفعمة بعطر الشعر. نشعل النيران في فجوات الصخور اتقاء للرّيح، ونبدأ الاحتفال في لحظة بزوغ القمر فوق تونس التحرير.. 

أما أنتم- يا أيها الشعراء والمبدعون-: إذا رأيتم -الشاعر الفذ- مسجى فوق سرير الغمام فلا توقظوه، اسألوا الصاعقة التي شقّت الصخرة إلى نصفين لا يلتحمان. 
إذا رأيتم -نجماً ساطعاً في الصمت الأبدي فلا تعكرّوا لمعانه بالكلمات. 
اسكبوا دمعة سخيّة على جبينه الوضّاء، دمعة في لون اللؤلؤ، واكتموا الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح.. 

وأخيرا إذا رأيتم المغنّي الجوّال حاملا قيثارته، افسحوا له مجالا في الدروب لينشد أغنية الوداع للنجم الآفل.. 

تقول الأغنية: 
هناك كثيرون أمثالك.. أعلوا وشادوا.. 
وفي كل حال أجادوا.. 
وأنت أنجزت كل الذي في يديك.. 
وما عرف المستحيل الطريق إليك.. 
لأنّك تؤمن أنّ الخطى إن تلاقت قليلا.. 
ستصبح جيشا وصبحا نبيلا.. 
وأنت ككل الذين أرادوا لوجه الحياة رداء جميلا.. 
تمنيت أن ينبلجَ الصبح من مقلتيك.. 
فعلت الذي كان حتما عليك.. 
ومن كان حتماً على الشعراء.. جيلا فجيلا.. 

* كاتب صحفي وعضو باتحاد الكتاب التونسيين.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *