*سمر الزعبي
خاص ( ثقافات )
لا يهمُّها طابورَ العرسان الذي ترفض، هو واحدٌ فقط، تخشى أن تخسَرَه، لكنَّ وفاةَ والدتها غيَّرت مسارَ حياتها، وجعلت منها أمَّاً لأختين تصغرانِها، صارَ ينتظر هو الآخر، أن تكملَ الصغيرةُ تعليمَها، وأن تتزوَّج الوسطى، ولمّا أعلن مؤشّرُ الصبرِ لديه مقاربةَ الصِّفر، كادت تلين، لولا أن تزوَّج والدُها.
زوجةُ الأب ثعبانٌ يسعى، أُعلنت حالةُ الطوارئ في البيت، وصرنَ نهشاً لها، ولزوجات الإخوة. يشدُّها الحبيبُ من صوب، واحساسٌ عالٍ بالمسؤوليِّة يشدُّها بمقدارٍ مماثل، واتجاهٍ معاكس، فتتمزَّقُ أيَّما تمزُّق، وتضحى منهارةَ القوى.
يحمل أشواقَه على كفِّ الانتظار، ويأتيها مبتسماً كلَّ يوم، ترتمي في أحضانه، وينعجنُ كلٌ منهما في تفاصيل الآخر، يتوقَّف الزمن، تذوب الوجوهُ كلُّها من حولهما، تتقطَّرُ في جيوب قمصانٍ مُعلَّقةٍ على شمَّاعة الملابس، وتسلِّطُ الدنيا الأضواءَ على فستانٍ يشفُّ عمَّا تحته، وغطاءٍ من حرير، وستارٍ مشمشيّ اللون، يرقصُ على أوتار الفصول.. ثم ترْشَحُ الوجوه من الجيوب، وتتجمَّع حولَهما لـمَّا تدقُّ ساعة العودة.
ذات موعدٍ لم يأت، وأخفتهُ الأيَّام، انعكف حلمٌ حلزوني وتقوقع في قلبها، طغت حالةٌ من سبات وروتين، ثمَّ تعاقبت الفصول، وهو طريحُ السرطان، لم يشأ أن يخبرها، كي لا يضيع عمرها في مجاراة علاجه، كي تفتح صفحةً جديدة، فالوسطى تزوَّجت، والصغيرة توظَّفت، ما هان عليه أن يعذِّبها به، تركها دون سابقِ إنذار، عسى تكرهه، عساها تلتئم الجراحُ على يد عاشقٍ ماهر.
طوتهما السنون، كطيِّ السجل على رفوف مغْبَرَّة، يمرُّ بين النساءِ زاهداً، إلَّا طيفُها يزوره في حلم، يشبع رغبتَه.. ويكتفي. بينما تمضغ حزنَ قلب لم ينفتح لأحدٍ غيره، يجتاحها الجسدُ في مظاهرة، يحنُّ لعزف يحتوي مداه، لكنَّ الرجالَ تشابهوا، تساووا، فتكوَّر الاحساسُ في بلادة، ثمَّ كبُرت العقدة.
طابورُ العرسان بعد الأربعين تلاشى، وإنْ دقَّ عجوزٌ البابَ ضحكت، تسخر من شبابٍ لن يتجدَّد إلا على أنفاسه.
تركض الأيامُ، ولكل ذكرى صدى، يقتفيان لها أثراً، تخيَّلا فيها كل المصادفات والاحتمالات الممكنة، والتقيا مصادفة، رآها في سوق العاصمة؛ كلُّ شيءٍ بدا سريعاً، خاطفاً، الازدحامُ من حوله شربته الأرض، وسوقُ الخضار بات بستان ورد، المارَّةُ لا يتخبَّطون به.. يتجنَّبونه، هو وحده يقف هناك، وقطعةٌ من قلبه تتعثَّر بالأكياس، ترفع طرفَ عباءَتها، كي لا تتَّسخ بماءٍ متدفِّقٍ من ماسورةٍ مكسورة في الجوار، جدولٌ من الشوق سحبه إليها، لم تنتبه، صوتُ الباعةِ يشتِّتها، وثقل الأغراض في يديها يضعف تركيزها، إلَّا حينما قرصَ فخدها رجلٌ يودّع الأربعين.
ألقت الأكياسَ وهمَّت تصفعه، أمسك يدها وضيَّع عليها زهوَ معاقبته، غابت العيون في دهشةٍ لما التقت، تذوَّقا شهوةَ الحنين في أداء بعضهما البعض، لم يتحكَّما بردود أفعالهما، فأوتهما السيَّارةُ في رحلة العودة، يهربان من عيون الناس.. والقريةُ بعيدة.
أوجعه قلبُه أنْ لم ترتبط من بعده، وآلمتها وحدتُه، رغم فرحة بديهيَّة باللقاء، رغمَ زهوٍ بانتظار الآخر، ولم يندم أحدُهما على مشوارِ صبر طويل. حارَ؛ كيف سيخبرها عن مرضه، وما فائدةُ ذلك الآن؟.. بعد سنين أفلت من العمر، ماذا ستفعل به حينما تكتشف؟
تأمَّلته؛ الصلعُ يليق به، والنحالةُ التي ما عهدتها يوماً، تزيده وسامةً، أمَّا سنُّ التَّركيب الصناعيَّة فقد بانت الأصليَّةُ من حولها أكثر جاذبيةً، وخاتم الذهب لا يناسب توجُّهه.. وهو يكاد يتوه، ضيَّع مداخلَ الشوارع أكثر من مرة، وفاتته خطورة منعطفات بعضها، لم تكن بحالٍ أفضلَ منه، فما تذكَّرت سيَّارتهَا، إلَّا حينما تفقَّدت الهاتفَ، وبانت المفاتيحُ في الحقيبة.
أعجبته خطوطُ الوقت تحت عينيها، وسَمَتْها بالوقار، وتبسَّم في سرِّه لسُمنتها، التي حالت بينَه وبين التعرُّف إليها بسهولة.
تأمَّل شالَها غير المنسَّق، الذي لم يكلِّفها وقتاً في لفِّ جسده حولَ رأسها، فترك فراغاتٍ تظهرُ منها الرَّقبة، ومقدِّمَتَه التي انحسرت للوراء، تطلق العنانَ لخصال الغرَّة، سحبه عن رأسها، ثمَّ فردت شعرها.. تفتَّح البرعم في المدى، واستنشقا عبيرَه بشهيَّة صائم.
أوقف السيَّارة وضمَّها، يشتمُّ عطراً التفَّ حولَ رقبتها كطوقٍ من حبَّات ليمون، يسلِّم نفسَه لرائحةِ شامبو عالقة في شعرٍ ما زال يحتفظ برطوبته.
في عطش الشِّفاه؛ استرجعت يقينها، أنَّ شبابَها سيعود ذات يوم بين يديه، وأنَّ القلب سيطلق الحلمَ من قوقعته، وتجدَّد كيانُه، بقبَسٍ من نور يقاوم في أروقتِه المرض.