محمد عبدالوهاب يبكى بين يدى مصطفى محمود



*لوتس عبد الكريم


كان إحسان عبدالقدوس في أواخر أيامه قد اشتد عليه المرض إثر إصابته بجلطة في المخ؛ نتجت عن جرح قديم في الرأس، حين حاول معتدون قتله وقت إثارته قضية الأسلحة الفاسدة، وكنت أداوم على زيارته أثناء مرضه، وفور عودته من رحلته العلاجية في الولايات المتحدة الأمريكية، طلب مني خلال زيارتي الأخيرة إليه أن أذهب به إلى مصطفى محمود، وكان يعرف صلتي الفكرية والثقافية به.
وعاونته بمشقة على السير، إذ كان الشلل يسري وقتذاك في سائر جسده، حتى ضرب لسانه، ولم تعد الألفاظ تخرج صحيحة، وفي الطريق كنت أسأله لماذا مصطفى محمود تحديدا؟ فيجيبنى بصعوبة: لأنه استطاع أن يحل مشكلاته وهي أساسا عويصة، حيث مرض كثيرا، وأصيب إصابات بالغة في المعدة والأمعاء، كما أن عمليات خطيرة أجريت في كامل جسده، إضافة إلى مشكلاته الشخصية، حيث الزواج الفاشل أكثر من مرة، وحياة مليئة بالمتناقضات التي تفضي إلى الشقاء، ومع ذلك فقد انتصر وهزم الحياة بإرادته، وإنه يواصل طريقه ساخرا واثقا وسعيدا، ولا أدري كيف وصل إلى هذه النتيجة؟
وكانت محاولة يائسة وأنا أسنده في الممشى المؤدي إلى غرفة مصطفى محمود، في أعلى المسجد، والتي كان يطلق عليها «التابوت»، لكثرة ما كان يفكر في الموت.
واستقبلنا مصطفى محمود بشوشا مرحبا، وظل يحادث إحسان قرابة الساعتين، ولم أكن أدري إذا كان مستوعبا لما قيل، ولكنه كان الأمل الأخير.
ومات إحسان عبدالقدوس بعدها بأسبوع، وعقب مشاركتي في الجنازة، فوجئت بدعوة من مصطفى محمود إلى حفل عيد ميلاده في الليلة ذاتها، وذهبت – رغما عني – فوجدت موسيقى وغناء وحضورا كثيفا من مختلف الفئات والتخصصات، وانصرفت مهمومة، إذ كنت أمام شخصية ذات أطوار غريبة، وغير مفهومة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وأذكر قولا له وقتها: إن كل من استعمل مخه في عصيان الله، أصابه الله فيه، وكان يقصد بما قال: أحمد بهاء الدين، ولويس عوض، ثم إحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس.
لقد عرفت مصطفى محمود في فترة كنت أعاني فيها من اكتئاب نفسى فأقرأ القرآن، وألجأ إلى التفاسير في مجال الدين، وضمن ما شدني إلى ممارسة التأمل كان كتابه «تفسير عصري للقرآن»، ولجأت إليه ولدي عدد من التساؤلات، ولقد أخذتنى طويلا تأملاتي في كتابه هذا، وكان أكثر ما شغلنى مزجه بين الفن والفلسفة والدين، فهو يصور القرآن كأنه سيمفونية رائعة الأنغام، فيها العذوبة والتصوير البديع لآيات الله في الكون.
أذكر في ذلك الوقت أن ذهب معي إلى زيارة مسجد الحسين، وتأدية الصلاة فيه، وعدنا إلى «التابوت» الموجود أعلى المسجد.
وما إن أذَّن المؤذن لصلاة المغرب حتى نهض واقفا، وفي وجهه صرامة شديدة، وهو يقول: الغسق، هذا الموعد تقضى به أمور خطيرة، ولا يصح فيه الكلام، فلننصرف الآن.
وفي المساء، رافقني إلى أعلى المسجد، حيث التلسكوب يمتد إلى سماء شاسعة كُحلية، فقال لي: انظري من خلال الجهاز، ماذا ترين؟ إنه القمر، والمريخ، والمشتري، ونجوم لا نهاية لها ولأسمائها.
إن حكمة الله في هذه الأسرار والألغاز، فلتتأملي هذا الكون العجيب في إنعام، ومن ثم تستطيعين فهم فلسفة الله وحكمته، فالعالم روح كبيرة، ولسنا فيه إلا موجودات غير موجودة بالفعل.
إن مصطفى محمود قد عانى حيرة فلسفية منذ بدء مسيرته مع الكتابة والكتب، وعاش عزلته مع قلمه وورقته ؛ مديرا ظهره للعالم الذي يعيش فيه.
ولقد جمعني بمصطفى محمود عشقنا معاً للموسيقار محمد عبدالوهاب، فكنا نلتقى ثلاثتنا في صالونه، حيث كانت الأمسيات الطويلة تتناول بالبحث معجزات الله في العلم والإيمان، فقد كان محمد عبدالوهاب على إيمان عميق، وكان يبكي بين يدي مصطفى محمود في معظم الأحيان.
ولمّا ألَّف مصطفى محمود كتابه «عظماء الدنيا والآخرة»، بكى محمد عبدالوهاب، وهو يقول له: (عششت فى مخى يا درش.. إننى لست من عظماء الآخرة؛ لأنني من عظماء الدنيا)، وكان يعترف أمامه بأخطائه كأنه أمام كاهن، ويبكي متسائلا عن طريق للمغفرة، وكان يناديه بـ «درش، كما كان يسميه مصطفى محمود «عُبَد الورد»، وكان صديقا محبا وصديقا وعاشقا للموسيقار، فيقول له إن الله أعطى الفنان مساحة من المغفرة؛ لأنه عاشق للجمال، والله خالق الجمال.
ومصطفى محمود رفيق مسيرة ثقافية طويلة على مدى عشرين عاما من الفن والمعرفة والدين، أعانني على كثير من الصعوبات في حياتى، وأرى أنه قدم عصارة ذهنه وقلبه من خلال برنامجه التليفزيونى الشهير «العلم والإيمان». وكنت ذات ليلة أجلس مع الملكة فريدة أثناء إذاعة هذا البرنامج؛ لتدلي برأيها وترقب باهتمام شديد كل ما يقدم، وبعد الانتهاء تطلب مني الاتصال، وتسأله بدقة وتركيز عن أشياء غمضت على فهمها، وكان يحادثها طويلا في صبر واهتمام، إذ كانت تؤمن بالسحر والغيبيات، فذات يوم نهضت من نومها مذعورة، لتخبرني بأن الخاتم الملكي الذي كان في إصبعها قد كُسر، ونقصت منه قطعة، تظن أنها بفعل فاعل غير مرئي، وأصرت على إخباره بما حدث، فربما كان هناك سر خفي وراء ذلك الكسر، وضحك مصطفى محمود قائلا لها: إن الجان لا يفعل هذا لخدمة بشر.
ولما مرضت الملكة فريدة أصرت على أن نبدأ العلاج في مستشفاه، لأنها كانت تعتقد أن الأطباء فيها يعالجون بأمانة للخير ودون أجر.
وكان مسجد مصطفى محمود مكاناً تجتمع فيه ياسمين الخيام مع الفنانات اللواتي  هجرن الشاشة والمسرح إلى الحجاب والعبادة، وتفرغن لنصائح مصطفى محمود، مثل مديحة كامل وعفاف شعيب، وشادية، والأخيرة كانت تلجأ إليه كثيرا للأخذ بالنصيحة، ويوم أن كرمت الدولة شادية، منعها مصطفى محمود من الذهاب، وقال لها: هم يقولون إنك كنت في مجد، وهو ليس مجدا ما كنت فيه، وإرضاء لله ارفضي الدعوة، ورفضت ولم تحضر تكريمها، ولكنها تبرعت لجمعية مصطفى محمود بعمارة شاهقة في المهندسين.
ولقد أصيب مصطفى محمود في أعوامه الأخيرة باكتئاب شديد، ثم جلطة في المخ أثرت على الحركة والكلام، أدت إلى اعتزاله الحياة الاجتماعية، فامتنع عن الكتابة، واستمر فى عزلته مع رفيقه الوحيد الكتاب، رغم فقدانه الذاكرة تدريجيا، إلى أن فارق الحياة الصاخبة.
__________
*المصري اليوم

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *