عظمة ميشيل فوكو


*رقية الكمالي


بعد مرور ثلاثين عاما على وفاة الفيلسوف الفرنسي الجامح ميشيل فوكو، لا تزال حياته تثير اهتمام مؤسسات النشر، ليولد فوكو آخر بعد وفاته، إنه “الكاتب”.
بالإضافة إلى كرسي فارغ، يمكنك الجلوس على الأرض إن استطعت، أما أولئك الطلاب الذين لا يصلون في وقت مبكر، فسوف تزدحم بهم الأرْوِقَة. في صمت تأملي، و أمام هذا الجمهور اليقظ، يبدأ رجل نحيف الجسد ذو وجه مميز بالتحدث. أستاذ أصلع تماما، يرتدي نظارات تزيد مظهره اللافت للنظر غموضا ليبدو و كأنه عالم هرب من فيلم الخيال العلمي. بكلمات أخرى، يبدأ هذا الأستاذ بتلاوة رؤيته عن “تاريخ الحقيقة”…بناء على الوصف السابق، يمكنك معرفة فوكو بسهولة في ثمانينيات القرن العشرين 1980، وهو يلقي محاضراته في الكوليج دو فرانس، وهي مؤسسة مختصة بالبحث العلمي والتعليم العالي تقع في الحي اللاتيني في باريس، حيث عمل فوكو لمدة عشر سنوات وترأس كرسي أبحاث “تاريخ أنظمة الفكر”. مؤلف كتاب “تاريخ الجنون”، و”الكلمات و الأشياء”، و “المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن”، هذا الذي قال يوما ما: “نكتب لأننا لا نملك وجه”، و نفشل في المواجهة، كان يتمتع بوجه وصوت جميل. بينما كان يتحدث، ترتسم ضحكة في بعض الأحيان، و يزمّ شَفَتَيه في أحيان أخرى، بدا فوكو وكأنه يتسلى بكل الذي اكتشفه في أبحاثه.
اليوم، وبعد حوالي ثلاثين عاما من وفاته في 25 يونيو 1984 في سن الـ58، أصبحت صورة ميشيل فوكو غير واضحة. المثقف الملتزم، الذي ناضل من أجل أنسنة الحياة في السجن، المُبَلِّغ عن مختلف السلطات، الذي يطرح قضايا من داخل العلوم الإنسانية، بطل الجامعات الأميركية، الرجل الذي ردد بصخب “حل الموضوع”، غادر مكتبته قبل الأوان.
فوكو كان يتحدى فكرة العمل، وربما لهذا السبب لم يكن هناك فوكو واحد، أو شخصية واضحة يمكن التعرف عليها وتحديدها بسهولة، بل شخصية معقدة، وأكثر من ذلك، قد يبدو لك في البدء، مقروء جدا. الشيء الوحيد الذي كان ملحوظا ببراعة لدى فوكو هو كياسته و اتزانه.
في نهاية الستينيات 1960، سيطر على العالم الفكري الفرنسي، لاهوتين : فلسفة الماركسي لوي ألتوسير وفرويد. في هذا الصدد، تمكن عمل فوكو من أن يصبح قوة مُمَاسٌّة، دون أن يكون عقائديا متشددا.
قررت الحكومة الفرنسية في تاريخ 14 أبريل 2012، تصنيف أعمال فوكو الذي عاش خلال الفترة 1926-1984 إلى “كنز وطني”، يحظر تصديرها أو بيعها، و إدراج أرشيفه ضمن محتويات المكتبة الوطنية، بموجب إشعار نشر في الجريدة الرسمية. ومن ثم، استولت وزارة الثقافة، واللجنة الاستشارية للكنوز الوطنية على 37 ألف ورقة ومخطوطة ونصوص مطبوعة تغطي أربعة عقود، وتعد فريدة من نوعها لفهم ودراسة عمل الفيلسوف و المؤرخ والناشط الحقوقي. كما صرحت وزارة الثقافة أنها تستطيع اتخاذ أي “إجراء وقائي” لمنع بيع هذه الوثائق في الخارج.
لكن هل ستتغير نظرة القارئ إلى عظمة فكر فوكو حين يعلم أنه أمام مفكر مثلي الجنس، وتوفي بسبب إصابته بفيروس الإيدز؟. سؤالي لا يعني تأييد مثليته، إنه مجرد سؤال طرأ على البال.. بعد وفاة فوكو، سارع رفيقه الحميم، دانيل ديفير، إلى تأسيس الجمعية الفرنسية الأولى ضد الإيدز تحت مسمى “Aides”.
________
*الرياض

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *