وقتٌ إضافي


*حازم شحادة


خاص ( ثقافات )
هذا الشعورُ المزمنُ بعدمِ كفاية الوقتِ المتاح.. 
كلُّ شيءٍ ناقصٌ في هذه الحياة ما عدا الحزن..
يأتيك كاملاً، وبتوصية. 
أمرٌ سيبقى غريباً حتى لو مرَّ بهِ جميعُ البشر قبلك وكتبوا عنه. 
أمام هذا الفناء العجيب المحفوف بالأسئلة لا غرابة أن يفكّر البشرُ بحياة ثانية خالية من الحزنِ في نعيمٍ أبدي.. 
الغريبُ ألا يفكروا بذلك. 
قبل أن تتزوج ميسون العبد الله قالت: 
ـ إنه مناسب.. 
لديه عملٌ يُدرُّ الكثير من المالِ وعوضاً عن السيارة لديه اثنتان.
أرجوك لا تعتبر الأمر شخصياً. 
الحياة فرصة وعلينا استغلالها.
بالفعل.. تافهٌ وحقيرٌ أنا.. 
اعتبرتُ زواجها من رجلٍ آخر بعد ثلاث سنوات من حُبِّناأمراً شخصياً.. 
كان لميسون هذه غمازتان قادرتان متى ضحكت أن تنسياني الدنيا بما فيها..
كان لها قدمان صغيرتان نقيتان تزيّنُ يسراهما دائماً بخلخالٍ ذهبي رقيق كلّما قبّلتُ أصابعهما ذابت في فمي.. 
وكان لها شامة تحت سرّتها كلما داعبتها قليلاً..شهقت..
اللعنة..
كيف لي ألا أعتبر تلك الشهقة أمراً شخصياً.. 
المالُ ينتصر.
أمام المال لن تنفعك مغامرات ملفيل..
قصص إيتماتوف تسقط من الجولة الأولى ولو كتب ديكنز تلك الحكاية عن عشرين مدينة لما نفعكَ الأمر..
أمام المالِ تنهارُ قلاع مارتن وتحترقُ سفن مينة وتسقط ليبرالية أورويل..
أيّها المغفل..
دولٌ بأسرها.. برؤسائها وجيوشها وشعوبها يهزها المال فما الذي ترتجيه هنا؟ 
المالُ كان يحكمُ النفوس في ما مضى..
هو يحكمها الآن..
ولن يتغير شيء بهذا الخصوص في المستقبل. 
الفقر (أحياناً).. لن يمنعَ امرأة جميلة من الإعجاب بك ومنحكَ جسدها على سرير من أعشاب البراري..
لكنه سيقف سداً صارماً في وجهك إذا ما فكرت يومأً أن تتزوجها..
لهذا وغيره من مليون سببٍ لا أجد شيئاً جميلاً في الفقر. 
لا شيء.. أبداً.. وقطعاً.. 
المالُ ينتصر.. 
ـ مبروك.. 
كانت أياماً جميلة وأتمنى لك أياماً جميلة أيضاً.. 
قلتُ وأنا أنصرف. 
في قلبي.. 
لم اكن أتمنّى سوى أن تذهبَ هذه العاهرة إلى الجحيم أو أن تلهثَ خلفي نادمة وتعتذر.. 
ـ سامحني أرجوك.. 
كانت لحظة ضعفٍ ولن أسمح لها بهزيمتي.. 
سأبقى امرأتك طول العمر.. 
خلفي.. 
لم يكن أحد يلهث ما عدا جحافل الخيبة المدججة بالكآبة.. 
مشيتُ.. مشيتُ.. ومشيتُ.. 
صعدتُ درجات الطوابق الخمسة درجة.. درجة.. 
فتحتُ باب غرفتي المنزوية يسار سطح العمارة في جرمانا والمطلةِ على دمشق العاصمة.. 
تركتُ الباب مفتوحاً كما اعتدت أن أفعل في الصيف مذ سكنت هذه الغرفة..
استلقيت على السرير.. 
كعادتها.. 
استقبلتني تلك الكتب بأغلفتها العتيقة..
زهرة الحبق الذابلة ومروحة السقف التي تدورُ بكسل 
ربما غفوتُ لساعتين.. وربما أكثر.. 
استيقظتُ على صوت الولاعة..
كانت ميسون جالسة على الكرسي قرب السرير تدخن.. 
لم أكن أحلم.. 
تريّثتُ بعض الوقت لأفهم ما جرى ويجري.. 
نهضتُ دون أن أنبس ببنت شفة وأشعلت سيجارة ثم عدتُ للجلوس على طرفِ السرير.. 
ـ ماذا تريدين الآن؟
قلتُ دون أن أنظر في عينيها 
ـ ليلة أخيرة معك..
قالت بصفاقة..
سأشتاقُ لكتبك وأحاديثك عنها
سأشتاق لهذه الغرفة وليالينا فيها.. 
سأشتاق لكل تلك الأفلام التي شاهدناها سوياً وجسدانا تحت اللحاف..
بهدوء..
قامت ميسون عن الكرسي وحقاً قامت.. 
اقتربت ثم مدت يدها تريدُ أن تأخذني إلى مبتغاها..
أمسكتها بمعصمها.
تعمّدتُ أن أوجعها وأنا أنهض.. وأنهضها معي.. 
قرأت الخوفَ في عينيها لكنها لم تنطق بحرف ولا أنا فعلت.. 
ما زال معصمها داخل قبضتي بينما كنت أسوقها سوقاً حتى أصبحنا على عتبة الباب تماماً ثم دفعتها إلى الخارج بشيء من القوة وصفقت الباب خلفها.. 
كانت تلك المرة الأولى في حياتي التي لم أشعر فيها بحاجة لوقتٍ إضافي. 
_____
شاعر وكاتب قصة قصيرة من سوريا

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *