جان جينيه.. أسطورة سيرته الذاتية (2)


*تأليف: جانيت ل .سافونا/ ترجمة: خضير اللامي


خاص ( ثقافات )
تحولت حياة جينيه إلى ظاهرة اجتماعية، إلى نوع من الخرافة ؛ أو الأسطورة مما صعّد ردود الأفعال النقدية عليها وبخاصة في فرنسا الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. والمصادر الأساسية للمعلومات التي نشأت وتطورت في هذه الأسطورة هي سيرة جينيه الذاتية ” يوميات لص ” ورواياته الأربع. وبخاصة (سيدتنا ذات الأزهار) و (معجزة الزهرة) و (طقوس الجنازة) التي يقدم فيها نفسه راويا. وكذلك بياناته الأخيرة الشفوية والتحريرية التي أرسلها إلى الكتّاب والأصدقاء. جان كوكتو، وجان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار، وفيوليت ليدو، فضلا عن المقابلات التي أجريت معه في الستينيات والسبعينيات في بعض المجلات والصحف الأسبوعية. بيد أنَّ هذه المصادر لا يعوَّل على جميعها. وهناك نقاد كبار ينزعون إلى تحويل الحقائق الطبيعية في حياة جينيه إلى قصة خيالية وذلك بتأويلها في ضوء رواياته او مسرحياته. وهنا، يقتربون جزئيا من سارتر وتأويلاته الوجودية في كتابه (القديس جينيه، الممثل والشهيد ،) وهو كتاب تذكاري تجاوز 600 صفحة. حاول فيه سارتر أنْ يزودنا بوعي انطولوجي وتحليلات سايكولوجية عن جينيه ترتكز على شواهد كتاباته وهي دراسة شاملة وواضحة للغاية. ولكنها لا تتواصل للمحافظة على أسطورة جينيه حية فحسب، لكنْ لها تأثير في الصورة الذاتية وأعماله اللاحقة.. 
وُلد جينيه عام 1910م في باريس لأبوين لم يعرفهما: وحمل لقب أمه غابريلا جينيه التي تخلت عنه عند ولادته. وأصبح تحت وصاية قسم المساعدات العامة. وهي وكالة حكومية. ولعله أمضى معظم طفولته في ميتم أو معهد خاص. ولكننا عمليا لا نعرف شيئا عنه في سنواته الست الأولى. وفي عمر السادسة أو السابعة أرسل إلى منظمة مورفان في فرنسا لينشأ على يد عائلة فلاحية دُفع لها المال لتنفق عليه. ولا نعرف إلاّ قليلا عن تلك العائلة. كما لا نعرف الكثير عن طفولته في الريف. ولكن كما جاء في سيرة سارتر عنه: كان جينيه طفلا رقيقا يميل إلى التأمل والتطلعات الصارمة. وسرعان ما شرع جينيه بسرقة الطعام والنقود من عائلته الوصية عليه – ربما لأنه كان جائعا – وهذا ما علله نفسه لسرقاته الأولى.
وفي رأي سارتر: أنَّ شعور الطفل جينيه بالفراغ الغريب، والمعاناة، والإحساس العميق بالعوز وعدم الاستقرار؛ لكونه طفل غير شرعي، وخاصة عندما كان يعيش في مجتمع ريفي تعتمد قيمه على ملكية الأرض والإرث الشرعي. وسوَّغ سارتر سرقة جينيه بوصفه طفلا استجاب لا شعوريا إلى وضعه الوجودي البائس. وفي العاشرة من عمره أطلق مجموعة من الكبار عليه كلمة ” لص ” كانت تجربة صاعقة جعلته يدرك فجأة أنها من ” طبيعته الشريرة ” وزاد من مأساة تلك التجربة قبوله إدانة الآخرين له. وتسليمه بقبول ما يراه العالم ” أنه شخص لا بد أنْ يكون رديئا ” وتوجَّه تدريجيا إلى ممارسة الشر والجريمة وبالولاء نفسه الذي يتوجه فيه القديس إلى الفضيلة والطهارة. وإنَّ سرقاته المتكررة وحادثة سمله عين صبي آخر زادت من انحرافه. 
وفي الخامسة عشرة أرسل إلى مدرسة إصلاحية يطلق عليها المدرسة “النموذج” افتضح أمرها في الثلاثينيات حيث كانت “معهد محض” أو “مستوطنة لعقوبات الأطفال” وعندما حلَّل ميشيل فوكو عام 1975 تاريخ سجون فرنسا أكد أهمية ميتريه “نموذج عقابي” أو ” كلية تعليم للقصاص البحت ” تعلَّم من علاقات القوة من خلال السجن – panoptie، وفي ميتريه تحولت ممارسة الشذوذ الجنسي المستترة لدى جينيه إلى عادة ثابتة. في الوقت ذاته، حوَّله نظام المدرسة القمعي الصارم إلى إنسان خشن مدمن على الألم . وبعد بقائه ثلاث سنوات في ميتريه التحق بفرقة أجنبية، ولكنه سرعان ما هرب منها.
الفقر والتشرد
وبين سنوات 1933-1942،عاش جينيه حياة الفقر والتشرد، متنقلا في عدة بلدان اوربية، اسبانيا وايطاليا والبانيا والنمسا وجيكوسلوفاكيا وبولندا والمانيا النازية. وأمضى مددا متكررة في السجن. وألقت به مغامراته إلى الإجرام. 
مارس السرقة وباع نفسه من أجل البقاء واتصل بأرباب السوابق والساقطات والقتلة، الذين وظفهم بعد ذلك نماذج لشخصياته، وامتلأت حياته بالأحداث وتجارب السجن وأخذت تُلقي بظلالها عليه. كما بدأ الكتابة وأنتج معظم أعماله في زنزانة السجن. وبشكل خاص (الرجل الذي حُكم بالإعدام) وهي قصيدته الطويلة التي نشرت عام 1942، وروايته الأولى (سيدتنا ذات الأزهار) التي نُشرت أول مرة في مونت كارلو على نفقة شخص غير معروف. وكان كوكتو أول من اكتشف جينيه وأصبح معجبا حميميا بأعماله الأدبية. وفي سنة 1942 التقى جينيه سارتر وتوطدت صداقة طويلة بينهما مبنية على عشق الحرية والاحترام المتبادل. ولولا المساعدة الأدبية والفكرية من سارتر فإنَّ جينيه ما كان ليحقق نجاحه السريع والأمن المالي النسبي الذي بدا يتمتع به في الخمسينيات.
مرآة آدم
وكتب جينيه وطبع معظم أعماله الشعرية والنثرية بين 1944-1956 وسيناريو باليه قصيدة (مرآة آدم) 1948 وسيرته الذاتية (يوميات لص) ومسرحية (جرس الموت) 1948 ومسرحية (الخادمات Les Bonne ( 1947 ، ومقالتين: (الصبي المجرم 1949( و)الآنسة: رسالة إلى ليونور فيني 1950 .( وفي سنة 1948 حُكم عليه بالسجن مدى الحياة لأنه اقترف عدة جرائم سرقة ولعدم إمكان إصلاحه.
ولكن بتدخل من صحيفة “النضال” ومجموعة من الكتّاب يقودهم كوكتو وسارتر مُنح العفو الرئاسي. وبسبب كتاباته الأدبية انتقل جينيه تدريجيا من العتمة الدامسة إلى الصوت الرديء بين 1942، 1948، ومن عالم جاهل مليء بأرباب السوابق إلى المجموعة الفنية والفكرية، لجيرمين دي بريه التي قبل أعضاؤها بجينيه برغم إنه لم يكن واحدا منهم. وبعد إطلاق سراحه من السجن سنة 1948 قرر جينيه التخلي عن الجريمة تماما. وبعد أن نشر سارتر كتابه: القديس جينيه، الممثل والشهيد 1952 ،الذي كان التجربة الصاعقة الثانية في حياته. مرَّ جينيه بفترة صعبة من التأمل الذاتي، والصمت الأدبي. وبعدها نشر مسرحياته الطويلة الثلاث (الشرفة 1956، 1961 (و )الزنوج( Les nègre) 1958 و (المساتر او الشاشات Les Paravents وسيناريو فيلم الآنسة 1956 وعدة مقالات نقدية قصيرة في الفن والمسرح: ملاحظة في المسرح 1954 وستوديو جياكوميتي 1958 ورسائل إلى روجر بلان بعد إنتاج مسرحية (المساتر) التي أخرجها روجر بلان على مسرح تيترو دو فرانس سنة 1966. يبدو أنَّ جينيه فقد اهتمامه بالأدب وتوقف عن الكتابة للمسرح ؛ بيد أنَّ التزامه السياسي الذي لم يكن له وجود أو كان مغَّلفا بالغموض، وفي أعماله الأدبية أصبح أكثر وضوحا وصراحة وتبنَّى جينيه الموقف الراديكالي القريب من الماركسية. وهذا التحول الذي بدأ 1968 ،خلال سفرة له إلى الولايات المتحدة أصبح موقفه معلنا وبخاصة عندما وافق على أن يتعاون مع “النمور السود”. وفي سنة 1970 انتقل جينيه إلى الولايات المتحدة متحدثا باسم السود في كل مكان ضد العنصرية البيضاء ومدافعا عن بوبي سيل الذي سُجن بوصفه رئيسا للنمور. وفي الأول من أيار 1970 ألقى خطابا حادا ضد الحكومة الأميركية في حرم جامعة بيل ” خطاب أول أيار 1970 ” وكتب مقدمة إلى “إخوة سوليداد” ورسائل السجن إلى جورج جاكسن 1971 ومن موضوع النمور السود انتقل إلى القضية الفلسطينية وصار جنديا مناصرا لها. وبعد ذلك، أصبح مع الثوار الألمان الذين يكِّونون ” الجيش الأحمر ” وفي عام 1977 نشر مقدمة لآخر رسائل اورليك ملينهوف.

أما القضايا التي اختارها للدفاع عنها فهي فرق الأقليات الثورية التي عَدَّت نفسها أنها لا تُعامل أصلا بعدالة. والتي دان ثوراتها ” الرأي العام الحر ” لاتباعها أساليب إرهابية. أما قضايا النمور السود والفوضويين الألمان، فاهتمام جيينه بها يعود إلى أهمية الدور الذي أداه السجن في حربهما ضد الحكومات والظلم. وراحت بياناته تشهِّر بفضائح العنصرية داخل السجون الأميركية، ووحشية الأنظمة العقابية والجزائية الألمانية التي تحمل مسؤولية الموت البطيء لمؤيدي ندريس بادر.وفي مقدمته لرسائل اورليك ملينهوف، ميَّز جينيه بشكل واضح بين العنف الذي كان الوسيلة التي تقوم بها الحكومات. وتجاوز العنف ولكنه دان الهمجية من بين عدة أشكال جعلته ينوه بها بسبب الحبس الانفرادي. ولعل التزامات جينيه السياسية الحالية تبدو مدهشة، ولكنها تبقى محافظة على إحساسه الشخصي بالظلم وروح التمرد الذي يعبِّر عنه ضد المجتمع: 
والمجتمع كما تصفه أنت أنا اكرهه، فأنا دائما اكرهه، وأبغضه، ذلك لأنه عاملني بقسوة ومنذ أن كنت طفلا في معهد الأيتام، والمدرسة الإصلاحية كما وصفتها في روايتي (معجزة الوردة) وعلَّمني شيئا عن الحياة، ومنذ ذلك الحين وجدت لي مخرجا في العمل الأدبي واتخذتْ كراهيتي شيئا آخر ” ومنذ الستينيات عاش جينيه مرتاحا من عائدات كتبه وتمثيل مسرحياته، ولكنه كان دائما يرفض الاستقرار والعيش في مجتمع الطبقة الوسطى ” كما ذكر روبرت بلان ” فقد كان لديه رغبة في التنقل حول العالم، بحقيبة صغيرة تحتوي على الآنسة الداخلية وجواريه، وهذا مقترن بخوفه المتزايد من كونه قد رُدَّ إليه اعتباره.
حياة أسطورية
في هذه الصورة عن حياة جينيه، التي انتقلت إلينا عن طريق (أسطورته) التي خلقها جزئيا بنفسه نلحظ فجوات من الصعوبة بمكان ردمها، وتناقضات ظاهرة من المستحيل حلِّها. وإنَّ أول حيرة برزت أمامنا بما نعرفه عن السيرة الذاتية لجينيه، هي حرفته الأدبيه ودِرْبته، وكما قال سارتر: إنه النصر الفعلي لكاتب – القوة التي مُنحت له من خلال سيطرته واستخدامه الإبداعي للغة، ليتمكن من التغلب على طرقه. وتحويل يأسه وتمرده إلى انتصار شعري – مكَّن جينيه من الوصول إلى الحرية الفكرية، وعن طريق الكتابة نجح جينيه في التعالي على معاناته وغضبه.
ومنحته أعماله الأدبية فرصة في أن ينتقم لنفسه من أمه، التي تخلت عنه، ومن والديه الوصيين عليه اللذين رفضاه بوصفه لصا، وعلى الحكام وحراس السجن، ورجال الشرطة، الذين دفعوا به إلى حياة مجرم منبوذ. هذه النظرية التي تمنح عملية الكتابة، علاجا وطهارة، هي دعوة لتمكين القارئ من أن يفهم تطور جينيه التدريجي، كاتبا وإنسانا. وقدم سارتر أيضا تحليلا مقنعا للسمة الخاصة لكتابة جينيه، التي بحسب رأيه تعمل من خلال إغرائها الفعلي وتوحي لعواطفنا وشعورنا بالعدالة، ومن خلال تزويقها الفكري ” مثل جيد في صيغها الآيديولوجية الدائمة ” التي غالبا ما ترتبط بالجاذبية، وتشوش القارئ. لكن سارتر يراقب موضوع الممارسة الفكرية والثقافية للكاتب. فضلا عن مراقبة الإطار التاريخي المحدد بالمصادر التي ٍمن خلالها تتطور كتابة جينيه.
وبناء على الأسطورة، فقد بدا جينيه الكتابة في عمر الثانية والثلاثين، أو الثالثة والثلاثين، تحديّا ضد نزيل سجن آخر، الذي كتب القصائد وحاول أن يبرهن بها على موهبته للسجناء الذين كانوا يحتقرونه؛ وثقافته الأدبية الوحيدة مستمدة من روايات شعبية، وقصص بوليسية حصل عليها من مكتبات السجن، برغم إنه ربما تعلم نظم الشعر من رينيه بوكسويل الشاعر الشعبي الذي كان جينيه يساعده ويرشده على طريقه. فإذا كانت قراءات جينيه الأدبية قد اكتشفها بيير دو روزار في ميتريه ؛ فإن جينيه قرأ في السجن الإخوة كرامازوف، وتداعيات بروست (غابة البراعم) في بداية الأربعينيات. وثمة مقابلة أجراها معه فيتشه ص186، تؤكد أنَّ من الصعوبة بمكان أن نقِّدر المستوى العالي من السفسطة والثقافة والفكر الذي ظهر في بداية روايته الأولى (سيدتنا ذات الأزهار) التي أظهرت غنى في المفردات وحذاقة في التركيب والمبالغة في الاستعارات والإحساسات الهارمونية في الوزن. وهذا يدل على تمكنه من اللغة وأسطورة رجل بدون ثقافة اكاديمية.

التناقض الثاني في أسطورة جينيه يتعلق بالاختلاف بين الأخلاقيات السببية في سلوكه الشخصي منذ الخمسينيات بخاصة. ويُغني جينيه في رواياته ومسرحياته مجال الجريمة، ويحوِّل الجبن والخداع والقتل إلى فضائل لاهوتية، بيد أنَّ الحقائق الممكن إثباتها والدليل المعتمد، يوضحان معا جرأة جينيه وشجاعته وإخلاصه، وعدم اهتمامه بالمال، ورفضه للمذهب المادي.
ويُظهر لنا (خطابه في أول آيار 1970) ووجهة نظره السياسية المباشرة الراهنة أنه لا يهاب الخطر ونحن نعرف ذلك في سنة 1943 أنه اختار أن يُتهم خطأ بالقتل، أكثر من خيانة مذكرات القاتل الحقيقي الذي كان صديقا له، وكانت تصريحاته عن أصدقائه الأدباء ولا سيما كوكتو وسارتر، دائما مُدعمة وعندما بين محمد شكري أنَّ ” القديس جينيه ” هو كتاب عن أفكار سارتر نفسه أكثر مما هو عن جينيه. فإنَّ الأخير قد احتج بشدة قائلا: إنه يعرف ما كتبه عني في دراسة لذلك، وإنه يعرف حياتي الشخصية، من حقيقة كوننا أصدقاء، وقد استخدم تلك المعرفة ليصوغ أفكاره عني. فضلا عن ذلك، فإن جينيه اعترف في مقابلة مع فيتشه إنه معجب بفكرة القاتل أكثر من القتل نفسه. وشرح إخفاقه في أن يتحوّل إلى قاتل من خلال نشاطه في الكتابة، أو من خلال الجهود التي يبذلها دائما لكي يقنع الآخرين بأن حياة شخص أو موته لا أهمية لهما ص184، وأنَّ التناقض الظاهر بين حياة إنسان وكتابته ليست مسألة غير مألوفة، ولكنْ بالنسبة للعالم ومؤرخ الأدب فإنَّ جيينه من المحتمل أن يبقى لغزا محِيِّرا مدة طويلة، لأنه ليس هناك سيرة ذاتية أو بحث في المصادر الأدبية لأعماله تظهر ذلك ممكنا وليس ثمة أحد ليعرف ما إذا كانت جميع مخطوطاته قد نُشرت وخاصة أن بعضها قد فُقد أو تُلف. والمشكلة الثالثة التي يمكن أنْ تسبب بعض الارتباك للقاريء هي هوية جينيه الجنسية، فإنه لم يحاول أبدا إخفاء شذوذه الجنسي الذي يظهر خلال كتاباته مصدرا للإلهام والمتعة. بيد أَّن هذه الثيمة ترتبط تماما بالجريمة والخيانة، وبوصفها مسألة لا أخلاقية، ومثل هذه الرابطة بين الشذوذ الجنسي والشر تكثِّف مشاعر الخوف لدى القراء أو عالمهم الجنسي. ربما تكون مقبولة أدبيا عند النقاد الذين سقطوا في مصيدة نصوص جينيه وأدركوا شذوذه حتى في أعماله الأدبية نلحظ مرض عصاب أو شكلا من اشكال الانحراف الأخلاقي في الرغبة الجنسية ومن جانب آخر فإنَّ تحليل سارتر للهوية الجنسية يقدم في الغالب ثورة وجودية ضد اشتهاء الجنس الآخر.

بينما يحتوي التحليل الحاذق لميكانيزمات العشق الذاتي والتضمينات الإجتماعية، ودراسة سارتر عن شذوذ جينيه تقدمها بصيغة اجتماعية جوهرية وإدراك الذات الفكرية للانحراف. إنَّ دراسة سارتر بوجه عام تهمل الدور الذي يؤديه الواقع الجنسي في المتعة الفنية للنصوص الأدبية بمشاركة القارئ والكاتب في آن واحد.
فالصيغ الغنائية الغزيرة التي تنقل القوة الغامرة للجنس في أعمال جينيه هي مجازات شعرية تُدرك من خلال اللغة وبشكل رئيس على هذا المستوى الذي يجعل المرء يدرك المنطق الشهواني ” اللبيدي ” لنصوصه. وفي مسرحيات جينيه التي أُخرجت فإن المشاهد يواجه بإشارات وحركات وموسيقى ورقص يتمتع بالصيغ السمعية والمرئية معبرة بعمق عن المشاعر الجنسية.

من الروايات إلى المسرح 
كتب جينيه خمس مسرحيات حسب، ولكنْ لها تأثير مهم، وبخاصة خلال الخمسينيات والستينيات. ومنذ ذلك الحين انتعشت مسرحيتا (الخادمات) و(الشرفات) في العالم وترجمتا إلى عدة لغات. وبعد نشر (كوريل من بريخت) تخلى جينيه عن الرواية وكَّرس نفسه لكتابة الدراما، ويبدو أنَّ اختياره كان صائبا لأنَّ المسرح يناسب خياله وموهبته الإبداعية بطريقة أفضل.
وفي روايات جينيه، وبشكل خاص الثلاث الأولى، فإنَّ الروائي انتقل من عالم الكتابة والسرد إلى الأعمال القصصية المبدعة أو القصة المروية. وعلى هذا فهو يتظاهر إلى أنْ يكون إحدى شخصياته التي تبدو بالمقابل أنها تسهم في عملية الإخبار والسرد. فإنَّ الراوي والشخصيات يتبادلان الأدوار إلى حد الحدود بين ظاهرتي الخلق الفني والأشياء المخلوقة بحيث يصبحان غير واضحين. هذه التبدلات الدائمة ضمن مستويات التمثيل تؤشر على موهبة الكاتب الخاصة بالاندماج مع شخصياته والذوبان فيها.
بيد أنَّ الدراما هي الوسيلة التي يظهر فيها الكاتب المسرحي في هيئات أخرى، ويتحدث بأصواتها دون الحاجة إلى أنْ يؤكد هويته مباشرة , وعلى المسرح تُرى الشخصيات في دورها من خلال أجسام الممثلين وأصواتهم وأنَّ حب انقسام الذات والثنائية التي تسود في بنى روايات جينيه توجد ليحكي قصة ويكون من الخادمات تلك الشخصيات في الوقت ذاته ، أو بالإمكان أن يؤدي دورا في التمثيل ويكون التمثيل تلك القصة. 

وروايات جينيه لم تكن في الواقع منشغلة بروايات قصته ، وإذا كانت كذلك ، فإنَّ تلك من باب المصادفة .على الرغم من إن المداخلات الكثيرة تكون ، في الزمان والمكان ، كما تكون أصالتها في مشاهدها أو صورها التي تصوغ سلسة الإيماءات ” التمثيلية ” القليلة المهمة والمحشوّة من داخل سرديتها ، وتمنح تلك المشاهد أهمية واضحة الإيماءات ذات الرمزية المعقدة ، لها عدة درجات من الأهمية مثل هذا الميل في تحويل الإيماءات الإعتيادية إلى شعائر مليئة بالمغزى . قد ينتج تأثيرات غريبة في الرواية وتجد مكانها الشرعي في مسرح الأسطورة الذي تعود تقاليده إلى الإغريقي والصيني. 
سايكولوجية الشخصية 
وإذا كانت روايات جينيه لا تطور سايكولوجية شخصياتها ونادرا ما تشرح دوافعها، فإنها والحالة هذه لا تقدم علاقات إنسانية متبادلة، مشبعة بمشاعر الكراهية والحسد ومجرَّبة بواسطة شخصيات هامشية أو منحرفين أو مجرمين من عالم الرذيلة والإجرام “العالم السفلي” والمدرسة الإصلاحية في السجن أو المنفى ويتحول الصراع في الروايات إلى صراع قوة ومصادر عميقة للتوتر يملأ المسرحيات بكثافة عظيمة.
تحتوي الروايات على محادثات سفسطائية تماما. وتبدو عديد الحوارات “في كوريل من بريست” بشكل خاص طبيعية.. لأنَّ جينيه مزج فنيا مختلف مستويات اللغة فيها بواسطة الانتقال من اللهجة السوقية الاستعارية لمثل شخصيات عالم الرذيلة “العالم السفلي” أمثال جيل وكوريل، إلى لغة أكثر نقاء تستخدمها شخصيات من الطبقة المتوسطة أمثال مدام ليسيان والملازم الأول سبلون. وهذا الاستخدام المُتقن للحوارات يصبح جوهريا في مسرح جينيه حيث يميز هذا الإسراف اللغوي جينيه بوضوح عن معاصريه.
هذه المقارنة القصيرة بين روايات جينيه ومسرحياته لا تدَّعي الإفاضة في شرح انتقاله من وسيلة إلى أخرى، ولا النجاح الذي حققه. مثل هذا الانتقال ونجاحه يشيران بلا ريب إلى عوامل أخرى كثيرة. ولا سيما المتغيرات المذهلة التي تؤثر في أساليب الإخراج، وفي المشاهدين، وفكرة المسرح ذاتها، بدأت في باريس في الخمسينيات مما أطلق عليه مارتن اسلن ” مسرح العبث “. وفضلا عن ذلك فإنَّ جينيه كان قادرا بين 1944،1960 على مشاهدات باريسية قليلة والإتصال بمسرحيين مهمين أمثال كوكتو وسارتر ولويس جوفيه وبلان وبيتر بروك وماريا كارسبارون الذين كانوا عوامل أسهمت بعمق في تطوره الشخصي كونه كاتبا مسرحيا.
مكانة مسرح جينيه في الخمسينيات والستينيات
ثمة مشابهة موضوعية واضحة بين روايات جينيه ومسرحياته، نجد ثيمة الجريمة في كلتيهما الصور نفسها، والشعائر الدينية المستعارة من المذهب الكاثوليكي، وتسلِّط أفكار الموت، والطقوس الجنائزية. وفي الوقت نفسه تظهر ميثولوجيا خاصة في جميع أعمال جينيه، فليس من الحصافة أنْ تُعامل المسرحيات كأنها روايات أو ننظر إلى كتابات جينيه الدرامية طبقا لأنماطه القصصية كما فعل النقاد أول الأمر، متبعين في ذلك خط سارتر عنه في (القديس جينيه) على الرغم من إنَّ التقنية الروائية كانت ممتعة. فإنها لم تتضمن السمات التجريبية والإبداعية في مسرحه التي شُخصت منذ الخمسينيات لتحديات جمالية قام بها مخرجون وممثلون وأوحت تلك السمات إلى أفضل النتاجات في عصرنا، وفضلا عن ذلك فإنَّ مسرحيات جينيه الخمس تعكس الوعي والمشاكل السياسية والالتزام بمجموعات اجتماعية معينة، واهتمامات غائبة عن رواياته كليا. 
يبدو مسرح جينيه في معالمه الجمالية صيغة متجددة لدراما شعائرية لا تختلف عن الإغريقي أو الأليزابيثي، أو المسرح الميثولوجي الإفريقي. ويُظهر شعورا جديا، وحتى دينيا وهو خير وسيلة على مشاركة عاطفية من الحاضرين، بالرغم من بعض التشابهات الطفيفة مع فن سارتر، ولا سيما في (حارس قلعة الموت) وربما في(الخادمات) فإنَّ أعمال جينيه تتوجه بعمق ضد التقاليد الفنية لمسرح الثلاثينيات والأربعينيات التي أعقبت المسرح الجديد في المسرحية الجيدة الصنعة وله رسالة سايكولوجية وايديولوجية واضحتين.

يناقض مسرح جينيه المذهب العقلي والواقعية، ويتجانس أكثر مع مسرحية الفريد جاري (اوبوروا) ومع التجارب المسرحية السوريالية في العشرينيات لآراغون او ديرو او هوغو او غيردو. ولا تحمل مسرحيات جينيه أية رسالة واضحة لأنّ معانيها لا تُشتق من المنطق المباشر أو بساطة بنيتها الباطنية ولغتها الشعرية وقد أطلق كوكتو باحتقار على هذا النوع من الشعر اسم “الشعر المسرحي” في مقدمته eiffle tour la de namesless 1921 لأنها استثمار للشعر في المسرح.وما قد يبدو مهما في مفهوم جينيه عن الشعر المسرحي هو أنَّ علاماته لا معنى لها ببساطة في الكشف أو في أنْ تعرض شيئا آخر. ولكن لكي تبقى متُهمة أو لا معنى لها علامات مسرحية محض. هذه المحاولة المتناقضة في أن تعرض أو تخفي حالة لا تبهم بالطريقة ذاتها التي كانت اللغة الشعرية لا يمكن أن تكون معبِّرة بقناعة في النثر أو تُترجم إلى لغة التي يكون الشعر المعاصر فيها بعض الأحيان، فإذا كانت اللغة الشعرية لا يمكن أن تكون مُعبِّرة بقناعة في النثر أو تُترجم إلى لغة نقدية منطقية إذا، فالشعر المسرحي في مسرحيات جينيه الذي يقوم باستخدام أصيل للعبارات والطقوس والاحتفالات وأفعال السيرك والرقص والأقنعة ينجز الهدف نفسه.فهو يقاوم التأويل، لأنه متعدد الأبعاد، ويحمل أنواعا كثيرة من الأحاسيس أو المعاني التي تؤدي إلى صيغة اتحادية.
إنَّ شعر جينيه المسرحي المحدد بالعنف المروِّع والعدوانية، اللتين تفترضان الأشكال ذات البنى الجيدة، النظام والانسجام، لذا فإنَّ قوة ذلك الشعر تشوش أو تغمر الحاضرين وتثير مخاوفهم وخجلهم وسخطهم، أو سرورهم. هذا النوع من الشعر، عظيم جدا وعندما تُحلل الصفات الخاصة لمسرحيات جينيه فستكون ملائمة تماما، مع ما كان يحلم به انتونين آ رتو في المسرح وازدواجيته (1938) عندما شرَّع صيغة جديدة للدراما أعادت إلى المسرح الأساطير والميتافيزيقية.
مسرح العبث 
ومن بين جميع الكتّاب لما يسمى: المسرح الجديد، أو مسرح العبث في الخمسينيات والستينيات الذين تأثروا بآرتو بشكل مباشر أو غير مباشر هو جينيه الذي ربما سيكون أحد أولئك الذين لهم صلتهم الروحية بالمثالية المستحيلة. والمسرح الكلّي يبقى هو الأقوى. وعلى هذا الاعتبار، يبقى جينيه مشدودا إلى مسرحياته مثل رواد المسرح الذين عرفوا آرتو وأعجبوا به مثل: بلان وبارو، أو الذين بقوا يميلون إلى ممارسة أفكار آرتو بطريقة ما، أو أن الأساطير التي خلقها مسرح جينيه هي أكثر فردية وأكثر دقة من أساطير كتّاب المسرح أولئك: بيكيت واونسكو وآداموف لأنها تتضمن في الغالب قوة جنسية واجتماعية أو دلالات سياسية هي بدرجة من الوضوح تكفي لاجتياز الدلالات المحددة، لأنَّ مسرح جينيه غالبا ما يكون متجددا في حالات اجتماعية وتاريخية. وقد أكد بعض النقاد الماركسيين مثل، لوسيان غولدمان المظاهر الواقعية ومغزاها. وحاول بعض المخرجين أن يحوِّلوا مسرحياته إلى مسرحيات طبيعية كما فعل لويس جوفيه في إنتاجه لمسرحية (الخادمات) 1947 أو المسرحيات البريختية الملحمية كما فعل ليتزو في إنتاجه (الشاشات) في ميونخ 1968 ، هذه النزعة هي في الأساس نزعة ضد الآراء أو السمات الاجتماعية السياسية لنصوصه. فموضوع (حارس بوابة الموت) هو سجن في الثلاثينيات أو الأربعينيات ويشير إلى الأنظمة الجزائية والقضائية في ذلك الوقت. وموضوع مسرحية (الخادمات) هو السلوكية الإجتماعية للطبقة العليا الباريسية في الأربعينيات، وفي أحداث مسرحية (الشرفة) يرى بعض النقاد فيها أحداثا تاريخية أوربية وقعت في العشرينيات والثلاثينيات مثل: الثورة الأسبانية، اعقبها انتصار الفاشية وفي منزل الأوهام في مسرحية (الشرفة) فإنه من السهولة بمكان أن تُمَّيز الحالة الشرعية للدعارة في فرنسا خلال آخر حقبة من الجمهورية الثالثة. وتشير مسرحية (الزنوج) إلى الوضع الكولونيالي في أقطار افريقيا في مستهل استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية.
وتقدم مسرحية (الشاشات) أحداثا تاريخية محددة وقعت في الخمسينيات وبداية الستينيات حرب تحرير الجزائر مع ما تحمل من عذابات وبشاعات واندحار فرنسا. ولكن من الصعوبة بمكان أن نعيَّن موقع مسرحيات جينيه لأنها تتفاعل كثيرا مع مسرح العبث، وتشارك المنطق العقلاني في لا مبالاتها أو السايكولوجية القارتسنية، وتميل إلى إظهار سلسلة من الابتكارات تكون تحدياتها المهمة هي القارئ والمشاهد لأنها تعيده إلى الصيغ الدورية في التعبير، وتقنيات التجزؤ “الانشطار” ومن النادر أنْ ننقل من مستوى تمثيل إلى آخر. وتكون ثورتها ميتافيزيقية، وتثير في المشاهد شعورا بالتغريب، وهذه المشاعر تظهر في مسرحيات عبثية اخر. بيد أن دراما جينيه تخبرنا عادة بقصص مقطوعة وواضحة، وذلك لا يعني أنها دون حبكة وشخصياتها مدفوعة بالكراهية أو الرغبة بالتسلط او القتل.وهذه دوافع تميزها بحدة عن المهرجين أو شخصيات مسرح الدمى لدى اونسكو وبيكيت اللذين غالبا ما تكون شخوصهما دون أهداف أو دوافع.
وفي استخدامه للغة الدرامية، ربما يُعدُّ جينيه أكثر تقليدية من بعض العبثيين بالرغم من إنَّ المرء يكتشف متطلباته للغة جديدة. وازدراءً للصيغ الظرفية أو النقلية. إنَّ مسرح جينيه مليء بالرونق والنضارة اللتين تجعلان مسرحياته أكثر شبها بشكسبير أو كلوديه منها من بيكيت أو آداموف. ويبدو أنَّ كل مسرحيات جينيه تمزج استخدام الأسطوري والشعري بالمسرحي مع التصوير لصراعات محددة هي إشارات اجتماعية محددة أيضا.
وقد نجحت كل مسرحية في أنْ تنقل بأسلوبها الخاص توليفة خاصة بين الشعر والواقعية. ربما تُعَد مسرحية (الشرفة) الأكثر تجربة في استخدام الإستعارة وانعكاسا للتراث. أما مسرحيات (الخادمات والزنوج والشاشات) فهي تتمم الشعر وتمزجه بالواقعية في بنى أصيلة لكل واحدة منها..

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *