*محمد صلاح
“إن من أقبح أنواع الاستبداد، استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل”.
عادت الأضواء فى الآونة الأخيرة لتُسلط بكثافة نحو دراسات وكتب وروايات صدرت في القرنين الماضيين، تتناول طبائع البشر في علاقاتهم مع الأنظمة السلطوية المُستبدة، وأخذ الاهتمام يتزايد، لاسيما بين الشباب، بهذه النوعية من المؤلفات، ومن أشهرها كتاب “الخوف من الحرية” لإريك فروم، الذي تناول فيه التجربة النازية، ورواية “1984” لجورج أورويل.
ولكن تبقى الريادة في هذا المضمار للكتاب الذي ذاع صيته باعتباره علامة فارقة في الفكر السياسي، “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، الصادر في القاهرة عام 1902، لمُفكر سوري هو عبدالرحمن الكواكبي (1854 – 1902م)، الذي يُعد علماً من أعلام تيار الإصلاح الذي لمع فيه الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم.
عاد من الغربة وحظي بالترجمة
لم يغب اسم عبدالرحمن الكواكبي يوماً، لا في الدراسات الجامعيّة ولا في الحديث السياسي العام، لكن قضيته المركزية التي قُتل من أجلها، وهي الإطاحة بالاستبداد وإقامة نظام دستوري تعدّدي، هي التي غُيّبت، حتى هبّت رياح التغيير على المنطقة، لتُعيد معها كتابه العابر للأجيال والأزمنة إلى الصدارة، فتتوالى طبعاته المُنقحة وتتعدد الدراسات حوله مرة أخرى، وتحظى الصفحات التي تنشر مقاطع منه على الشبكات الاجتماعية بالآلاف من المتابعين.
صدرت أول ترجمة باللغة الفرنسية في باريس، مطلع يناير/كانون الأول 2016، للباحث السوري سلام الكواكبي، بعد أن ظل غريباً في المكتبة العربية، بفعل مناخات الخوف من الأفكار الصريحة المعادية لثقافة الاستبداد، ومجهولاً تماماً من قبل قراء الثقافات الأخرى، حيث لم يسبق ترجمته إلى أية لغة أوروبية، رغم قيمته ومكانته كحجر في بناء الفكر العربي الحر.
سر الخلود
لايزال كتاب الكواكبي يمثل أحد عوامل النهضة في تاريخ العرب الحديث، ومرشدهم إلى التخلص من الاستبداد، رغم مرور أكثر من قرن على صدوره، من حيث مضامينه التي تنم عن رسالة عقلانية وفكر متنور، فلا تصدر عن حقد، ولا تدعو إلى انتقام، كما أنها غير موجهة إلى حاكم بعينه، أو دولة محددة.
ويكمن سر خلود هذا الكتاب في كونه صرخة مُفكّرٍ وفيلسوف عربيّ، حمل بشدّة على جميع أنماط الاستبداد، مستعرضًا طبائعه وانعكاساته على جميع مناحي الحياة الإنسانية، وشرح من هم أعوان المستبد، وهل يمكن أن يتحمل الإنسان ذلك الاستبداد؟ وكيف يكون الخلاص منه؟ وما البديل عنه؟
وبيّن أنّ انحطاط الأمم سببه استئثار شخصٍ واحد بالسلطة المُطلقة، وكشف أخطر داء يمكن أن يُصيب شعبًا من الشعوب، ووصف له الدواء الشافي، محاولًا عدم بتر أي عضو من أعضاء الجسم، لذا فهو يُعد إلى يومنا هذا بمثابة شاهد عيان يتكلم عن وقائع وأحداث معاصرة، ويدعم أفكاره التحرّريّة، المُتقدّمة جدًّا في عصره، بمرجعيّة إسلاميّة تستند إلى مقاصد الشريعة.
كاتب سابق لعصره
الثقافة المنفتحة التي تمتع بها الكواكبي منحته شخصية متميزة ووعياً سابقاً لعصره، فسعى إلى الدعوة إلى الحرية بأفضل معانيها، وجنّد في سبيلها كل ما يملكه من مواهب أدبية وفكرية، وضحى من أجلها بكل ما يملك، حتى دفع حياته ثمناً لها.
كان محاميًا وكاتبًا وصاحب علم شرعي، ضمّن كتبه تحليلًا دقيقًا وعميقًا للأمراض والأوبئة السياسية والاجتماعية، ودعا إلى احترام النهج العقلاني في التفكير، وكان شعوره بالظلم ورهافة إحساسه بالحرية وعشقه لها، هما الدافع الأول لمواقفه وآرائه التي جعلته يصارع الطغيان.
وبعـد أن أتقن اللغة التركية في أنطاكية، لم يكتفِ بالمعلومات المدرسية، واتسعت آفاقه للاطلاع على كنوز المكتبة الكواكبية التي تحتوي مخطوطات قديمة وحديثة، فاستطاع أن يطلع على علوم السياسة والمجتمع والتاريخ والفلسفة، ودرس الشريعة والأدب وعلوم الطبيعة والرياضيات.
وفي عام 1901 قام برحلة استغرقت 6 أشهر، زار فيها شرق إفريقيا وجنوبها، ودخل الحبشة والصومال وشبه الجزيرة العربية، وزار سواحل آسيا الجنوبية والهند وإندونيسيا وطاف بالسواحل الجنوبية للصين، وكانت دراسته لهذه البلاد تشمل، إلى جانب الناس والثقافات، النظر في الاقتصاد والأرض ومعادنها وكل ما يهم المثقف الموسوعي، وأودع نتائج هذه الرحلة أصول كتاب لم تُمهله المنية حتى يخرجه إلى النور، وضاعت هذه الأصول.
مولده وبداياته
وُلد عبدالرحمن الكواكبي عام 1854 في مدينة حلب السورية لأبوين شريفين يرجع نسبهما إلى البيت النبوي.
تعلم في المدرسة الكواكبية، التي كان يشرف عليها ويدرّس فيها والده مع نفر من كبار العلماء.
وعندما بلغ الـ22 من عمره عمل في جريدة “فرات” الرسمية، ثم أصدر أول جريدة باسم “الشهباء” في حلب عام 1877، التي أغلقها العثمانيون بعد صدور 16 عدداً منها، لم يستسلم، وأسس جريدة الاعتدال عام 1879، وواصل فيها مقالاته النارية حتى أغلقت هي الأخرى.
وعندما بلغت حدة الصراع بينه وبين السلطة العثمانية في حلب ذروتها، وبدأت المكائد ضده، قرر الهجرة إلى مصر ووصلها عام 1899.
وفاته
لم يكد الكواكبي يستقر في القاهرة وينشط فيها حتى أدركته الوفاة فجأة، مساء الخميس 14 يونيو/حزيران 1902، بعد احتسائه فنجاناً من القهوة، قيل إن أحد الأشخاص قد وضع له السم فيه، بعد احتدام محاربته لاستبداد الدولة العثمانية، وفشل الخديوي عباس في إقناعه باصطحابه إلى الأستانة للمصالحة مع السلطان عبدالحميد.
فعم الحزن والذهول كل الأحرار المناضلين في مصر والوطن العربي، وشُيعت جنازته في موكب مهيب، ودفن بمقبرة باب الوزير، بسفح جبل المقطم على نفقة الخديوي عباس، وأقام له الشيخ علي يوسف صاحب جريدة “المؤيد” مأتماً استمر 3 أيام.
____
*هافينغتون بوست عربي