*بدر الشيدي
لا أدري بالضبط ما الذي منعنا في ذلك اليوم الدمشقي من الوصول الى منزل عبدالرحمن منيف.. لا أتذكر، لعل زميلي أحبط المخطط.. أو ربما شغلتنا عملية البحث عن الشقة التي نسينا أن نأخذ عنوانها من المؤجر.. كل ما نذكره أنها بالقرب من محطة وقود السيارات.. ضاعت الشقة التي استأجرناها وبقى المفتاح لدينا ولم نصل الى منزل عبدالرحمن منيف.
مشهد أخر بعيد بعض الشيء.. نهار شتوي.. مكتبة عليلي على ناصية شارع محمد الخامس في حي الداوديات بمراكش المفضي الى فضاء جامعة القاضي عياض. يتجمهر طلبة كثر..كانوا يكتبون أسماءهم في قوائم ليحصلوا على نسخة ضوئية من رواية مدن الملح التي وصلت أخيراً الى مراكش.
تحل هذه الأيام ذكرى رحيل عبدالرحمن منيف الذي رحل جسده وبقيت روحه حاضرة. إرث كبير من الأعمال والإبداعات والحوارات، تركها بيننا. وأنت تمر أمام اسمه بالتأكيد لن تمر هكذا دون أن تتوقف أن لم تقيم وتستقر.. ربما نشعر كلنا بأن هذا الاسم يسكننا أو نحن نسكنه.. يتسع لنا كوطن.. ما أن نفرغ من قراءة إحدى رواياته إلا وتشعر بمرارة وغصة وحزن شديد.. من أين أتت كل هذه الكآبة؟
عبدالرحمن منيف ذلك الفتى الذي قال عن نفسه بأنه وهو صغير كان يرى العالم هلامياً، وكان يفترض على كل إنسان أن يساهم في إعطاء هذا العالم ملامح معينة.. كان يراقب غيوم أواخر الخريف.. كيف تتكون وكيف تتداخل. لذلك افترض مبكراً انه قادراً على إعادة تشكيل العالم، وأنه مطلوب منه ذلك.
ولد في عمّان بالأردن في 1933 للأم عراقية وأب سعودي وعاش في أماكن مختلفة. وربما خلق ذلك نوعاً من الالتباس في انتسابه لمكان معين. قال عن ذلك بأنه قد يكون ذلك ميزة وعيبا في آن واحد، ذلك لأنني مجهول من ناحية انتسابي الى قطر معين، وميزة بأني فعلاً أنتسب الى منطقة واسعة.
في ظل الانهيار العربي كان ينظر الى الثقافة بأنها آخر القلاع العربية التي لم تسقط والتعويل عليها لكي تكون الرافعة التي تنهض بالواقع العربي من براثن الانحدار الى الهاوية.
قيل عن عالم عبدالرحمن منيف، بأنه في عالم بلا خرائط، عالم متسع ليس له حدود أو جغرافيا أوأمكنة أو مساحات. شخصياته تتحرك في مساحات شاسعة.. شخصيات تنتمي لمكان ولا تنتمي.. ربما يتحدث عن أماكن وقد لا يعنيها، أو يعني أماكن ولا يتحدث عنها. المنطقة العربية بلا حدود مصطنعه هو عالمه والإنسان العربي دون انتماء هو ما يهمه ويعنيه.
من منا لم يقرأ رائعته مدن الملح التي كتبها في باريس في سبع سنوات.. أرادها أن تكون في ثلاثة أجزاء، فكانت خمس، أرادها أن تكون قيثارة الصحراء والنفط وكانت شاهدة على تحولات اجتماعية عسيرة ومعقدة تفاعلت مع اكتشاف النفط. من منا لا ينتمي الى شرق المتوسط أو حين تركنا الجسر أو الآن هنا أو قصة حب مجوسية.
أتى للكتابة من أصقاع بعيدة جداً.. كخبير نفطي أغرته الكتابة وأغوته بجلابيبها وولج عالمها الأثير،. قال عن العلاقة بين النفط والكتابة، ذلك ربما يحدث أحياناً تطابق بالصدفة بين المهنة والهواية.. النفط رغم خشونته ولونه الأسود وما يحيط به من ملابسات، يمكن أن تشتغل عليه باعتباره مادة لها دور كبير في تشكيل المنطقة وربما لولا النفط لما وجدت أشياء كثيرة، وذلك ما ساعدني كثيراً بحكم خبرتي به في التعامل معه روائياً. اتسمت كتابته بمستوى عالي من البناء الدرامي والتقنية الفنية والإحساس المرهف.
عبدالرحمن منيف نتذكره جيداً وهو الذي كتب عن التحولات التي مرت بها المنطقة.. عن تأثير النفط في منطقة بأكملها.. كتب تاريخ آخر ومغاير للمنطقة غير التاريخ الرسمي الذي أريد أن يكتب لها. كتب عن الناس المجهولين وعن الحياة باعتبارها مادة متحركة تتغير وتتبدل. من منا ينسى متعب الهذال الذي كان كل شيء في وادي العيون. كلنا فتش أين ذهب، ننتظر أن يعود وهو لن يعود. رغم أن عبدالرحمن منيف الذي قال عنه بأنه يحب هذه الشخصية ومعجب بها وبحضورها المكثف لكنها شخصية قاومت التغير والتحديث بطريقتها البدوية الخاصة ولم يعد لوجودها مبرر وخصوصاً بعد زوال وادي العيون لذلك تم مواراتها عن الأحداث وربما لن تعود. صبحي المحملجي الشخصية الأثيرية التي صهر فيها مجموع من الشخصيات والملامح، هي ضمن الشخصيات التي تتحرك في عالم عبدالرحمن منيف، سترحل وتأخذ مكانها شخصية أخرى. هكذا إذن هو عالم عبدالرحمن منيف.. عالم متغير ابتداء من الصحراء والشخصيات.. عالم ليس للديمومة.
تمنى لو أن حاكما عربيا قرأ رواياته وبكاء كما فعل قيصر روسيا ذات يوم عندما فرغ من قراءة رواية دوستويفسكي (ذكريات من بيوت الموتى) وأمر بإيقاف الجلد السائد آنذاك في روسيا. لترتب وضع معين أو تحسن أو تغير.
كتب عن مرارة والتعاسة التي يعيشها المواطن العربي فتبعثرت ملامح من شخصيته في جميع أعماله.. كان يرى أن العالم ذروة من ذرى اللامعقول لانعدام المنطق والعدالة والتكافؤ وحرية الإنسان.. أكثر من ذلك يرى عالمنا العربي أكثر تعاسة وانحطاطا واستبدادا.
تكلم كثيرا عن النفط بصفته العالم الخبير فيه. وكيف استطاع أن يخلق عالما عربيا وبالأخص في مجتمع الجزيرة العربية، عالما مشوها متناقضا متشظيا.. يحمل في طياته مزيدا من الخراب والدمار، لقد اهتزت العلاقات والقيم الإنسانية، واختلفت النظرة الى العمل والعلاقات الإنتاجية، وتراجعت الكثير من حقول المعرفة وساد مجتمع استهلاكي. خلق النفط مدن أفران ستحرق ساكنيها.. خلق علاقات مع الغرب العقلاني كما وصفه في دعمه اللاعقلانية كل ذلك الخراب يحتاج الى وقت طويل لترميمه وإصلاحه.
كان في كتاباته وتحليلاته يبشر بابتداء مرحلة العد العكسي لمرحلة ما بعد النفط، وقد تطول المرحلة بسبب حجم الخراب الحاصل. ما الحل إذن في نظره؟ قال إنها فوضى يجب أن تحارب وتدمر لكي يقوم على أنقاضها عالم أكثر إنسانية. هكذا يجيب.
كنت أتساءل وأنا أقرأ بعض أعمال عبدالرحمن منيف، من أين كل هذه السوداوية والتشاؤم في كتاباته.. لكني لم أكن أدري بأن للرجل نظرة ثاقبة وقراءة مستقبلية لعالمنا.. ربما كان يرى الخراب والدمار أكثر منا..
كما قال عن شخصياته. شخصيات تمارس حياتها ثم ما تلبث أن تخلي المكان لغيرها.. قال عن فترة وتنبأ بقدومها وها نحن اليوم نعيشها، من حيث يدري ولا يدري وكما خط لشخصياته رسم أيضاً مساراً لشخصيته بكل تعرجاتها وملامحها وأحداثها. ليرحل في الرابع والعشرين 24 من كانون الثاني عام 2004 م. ذهب وآثر أن لا يبقى ويقف متفرجا على مستوى الدمار الذي وصلنا إليه.. وكما قال عن متعب الهذال رحل لأن وادي العيون زال من الوجود ولم يعد له مبرر. لكن عبدالرحمن منيف خالف متعب الهذال، رحل بينما مدنه.. مدن الملح لا تزال باقية وتتمدد.. جاثمة فوق صدورنا. أخذ معه من أخذ من شخصياته ورحل متخلياً عن مكانه الأثيري.. ليتركه لشاغل آخر لم يأت بعد.
_________
*جريدة عًمان