قصة مطارٍ عسكري


*حازم شحادة


خاص ( ثقافات )
هرب الضابط بطائرة خاصة تاركاً خلفه أكثر من ألف جندي بعد أن نفدت الذخيرة منهم..
استيقظ المجند رفيق صالح صباح ذلك اليوم من شهر جمادى الأول عام 36 للهجرة النبوية على وقع البلبلة والضجة التي أحدثها زملاؤه وحين استفهم عن الأمر أخبروه أن الضابط قد فر تاركاً إياهم وسط الصحراء دون عتاد أو ذخيرة في حامية المطار العسكري النائية..
سألهم عن الاتصالات بالقيادة الوطنية العليا فجاءه الجواب على الشكل التالي:
ـ باعونا والشيطان وحده يعرف ما الثمن.. 
أصابت رفيق قشعريرة عجيبة وأحس بقطرات من العرق البارد تسيل على جبينه وريثما استوعب الأمر كان معظم الجنود قد جمعوا ما يحتاجونه من أغراضهم الشخصية في حقائبهم وبدأوا الهروب.. 
أطل برأسه من نافذة المهجع فطالعته بعض المعدات العسكرية التعيسة الخاصة بالمطار دون أن يلمح طائرة واحدة في حين هبّت من الجهة الشرقية رياح صفراء حملت معها الغبار بشكل لولبي وفي الأفق البعيد.. ظهرت بعض أشباح بدت كالنقاط السود.. 
بلمح البصر وضب حقيبته واضعاً فيها جعبة ماء صغيرة وهاتفه المحمول وقطعتين من الملابس الداخلية بالإضافة إلى سترة عسكرية سميكة وأصبح خارج المهجع مع القسم الثاني من الجنود فقد كان القسم الأول قد أسرع راكضاً نحو الموت الذي لم يعد بادياً كنقاط سوداء وإنما أصبح أكثر وضوحاً على هيئة سيارات..
لم تكن تلك السيارات ذات الدفع الرباعي إلا للجماعة الأكثر شهرة على الساحة العالمية بسبب أعمالها الوحشية المصورة بأحدث كاميرات الديجتال وبتقنية هولوودية غريبة، وعلى الرغم من أن حامية المطار العسكرية محاطة بالصحراء من جميع الاتجاهات إلا أن سيارات الجماعة استطاعت أن تصل المكان بسهولة عز نظيرها دون أن تتعرض لصاروخ واحد.. 
وقع القسم الأول من عساكر الحامية بقبضة الرعاع..
استطاع رفيق أن يتخذ مع بعض أصدقائه طريقاً مغايراً على وجه السرعة بعد رؤيتهم لما جرى وعلى بعد ألف متر عثروا على خندق قديم يمكن مداراته بعد الاختباء فيه بأعشاب برية ورمال حتى يكاد لا يبدو للعيان.. 
هكذا انسلت المجموعة إلى قلب الخندق لكن رفيق لاحظ عدم تقدم السيارات للبحث عنهم فجلسوا يراقبون ما جرى ومن أعينهم لا تنهمر الدموع،، بل الدماء.. 
حاولوا كثيراً أن يجروا اتصالات بقيادتهم لكن.. لا حياة لمن يتصلون بهم..
قام عناصر الجماعة بجمع عساكر الحامية ثم أمروهم بالانبطاح أرضاً وفوهات البنادق مصوبة نحو رؤوسهم..
في تلك اللحظة حافظ أبو عبيدة على جهوزيته مصوباً السلاح باتجاه العساكر وقال لزميله في الإجرام الديني قتادة..
ـ أتصدق يا قتادة.. 
ـ طبعاً أصدقك يا أبا عبيدة فما عهدت منك إلا الصدق..
ـ أنا مشفق على هؤلاء المساكين.. لقد باعهم من كانوا يثقون بهم..
هل هناك أقذر ممن يبيع الناس بعد ان وثقوا به؟ 
ـ على حد علمي لا.. 
ـ قلبك حنون يا صديقي.. 
مرت دقيقتان والعساكر منبطحون ووجوههم ملاصقة لتراب الأرض.. 
تلك الأرض التي حملوا أرواحهم على أكفهم كي يدافعوا عنها لا كي يُباعوا في مزادات المتاجرين بها..
فجأة.. صاح صوت جهوري بكلمة السر
ـ الله أكبر..
عاصفة هوجاء من الرصاص انطلقت من فوهات البنادق اهتزت لها أجساد الرجال في رقصة موت بعد مزاد بيع علني لمطار عسكري..
كان رفيق صالح يشاهد ولا يصدق والدمع ينفجر من مقلتيه والقهر يأكل قلبه فهو حتى لو تقدم من رفاقه الذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة ما الذي باستطاعته تقديمه لهم سوى أن يموت معهم..
خطرت له هذه الفكرة أكثر من مرة لكن الحياة غالية..
هذه القحبة اللعينة غالية..
هذه الحياة المليئة بالعذاب والقهر والحزن رغم كل ما فيها غالية على المرء وليس من السهولة أن يلقي الإنسان بنفسه إلى الموت.. 
لم ينج أحد.. اخترق الرصاص جماجمهم وأرجلهم وأعضاءهم.. 
لم ينج أحد..
بارك أبو عبيدة لزميله قتادة نجاح عملية القتل الجماعي بسرعة قصوى وهناك.. 
في مكان ما حيث حطت طائرة الهروب..
كان الضابط الأعلى يبارك للخائن نجاح المهمة ويقلده وسام الإخلاص..
_________
شاعر وكاتب قصة قصيرة من سوريا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *