قوس الحكاية ..استهام الذاكرة في رواية (قوس قزم)


*عبد الرحمان الكياكي


خاص ( ثقافات )
( قوس قزم )، هو أول نص روائي لمؤلفه العياشي ثابت الطبعة الاولى 2006 عن دار وليلي للطباعة والنشر . تضم الرواية 119 صفحة من الحجم المتوسط وتتكون من تسع محطات للرحلة كالتالي : وانطلقت الرحلة – في وحشة الخلاء المائي – بعد المطاردة – ويزحف الموت بقوة – السيبة البحرية – وينتفض القزم فيخيب – في حضرة الرداد الغائب – زواج الظلمة – نهاية القوس.
وعبر مراحل الحكي عن مخاطر الرحلة، تتدفق الخواطر والاستيهامات والتذكرات من طرف شخصيات النص التي أضاءت ايحاءات النص السردي في بعده الحكائي والواقعي ، خاصة وأن النص السردي يوجهه سارد عارف بكل شيء مما يضفي على النص طابعا سير ذاتيا . وبين بداية القوس ونهايته تسع محطات تحمل عناوين تشير الى تيمات لها علاقة بذاكرة السارد/ نور الدين عامر الذي يتخفى وراءه كاتب ينظم لعبة السرد الذي يحكي بضمير المتكلم، وعلى لسان شخصيات النص محاولا منه اعادة نقل المحكيات التي عاشها أو تخيلها. 
في أول محطة(وانطلقت الرحلة) يحكي السارد عن نور الدين عامر ، الحاصل على الاجازة ، دخل الكلية وخرج منها للمرة الاخيرة .. عاد الى القبيلة / نقطة البداية ، بعد خمس سنوات كتب يقول :
بداية الحكي عن الوالد الذي كان مقاوما ، سجن وعذب في سجن الاستعمار ، تم سراحه بذراع معقوفة ، يشهرها في وجه نور الدين ، كلما طلب منه النقود .
ركب نور الدين عامر البحر محاولا حرق المراحل ، السفينة حملت من كل زوجين اثنين ، ومن كل جنس ولون . كانوا ثلاثين في قارب ضيق كل واحد يحلم بطريقته ، يختلفون في الرؤى ، لكنهم توحدوا في الهدف ، وهو الوصول الى الضفة الاخرى بعدما ضاقت بهم الارض بما رحبت في وطنهم الاصلي .انهم (( نور الدين عامر – سعيد- التازي – أحمد – الوجدي – فاطمة – عباس – الرداد – عبدو المراكشي رانيا السينغالية ..)) ( كنا ثلاثين في قارب ضيق ، نفترش اللوح ونلتحف السماء ، يشد بعضنا بعضا في رحلة قد تطول ..)ص8) انهم يشدون بعضهم البعض في رحلة يجهل مصيرها . وصاحب القارب ، الرجل القصير القامة ، البارز العضلات .يهمهم ،ويغمغم ، همه هو أن يؤدي كل واحد ما بقي عليه من دين ، لتنطلق الرحلة مع حلول الليل .ويستمر السارد العارف بكل شيئ في استثمار الذاكرة للحديث عن نفسه ، حيث قضى عمره في مدارس الضاحية وضاقت به السبل ، فاختار أن يكون على متن قارب مجهول المصير.ص 11 لقد أحب رغدانة “بنت كلية العلوم” حيث كانا يتبادلان الهموم والسموم والافق اليحموم .تمسكت به فقضى على ماضيها وحاضرها واتيها .ص12.
في وحشة الخلاء المائي يرمي القزم بسهام الغلظة كلاما نابيا ، وعيدا كالسياط على الرؤوس (ص13) ، في حين يجتر الجميع الصمت والقارب يبتعد عن المنارة وضوئها ..ويسترسل الجميع في حوار داخلي يلملم جراح السنوات العجاف والحلم بإشراقة الامل ، أمل كل الحالمين بغد أفضل . لم تكن هجرتهم الى الضفة الاخرى مشروعة .. بلغة العصر هم ( حراكة) لديهم قسط من الثقافة ، كل واحد له حكايته الخاصة وراء دفعه ركوب الموج . أحمد مثلا يتذكر صورة أخيه الذي لسعته عقرب أودت بحياته . مات وهو في المستوصف الخالي من كل شيء الا قطة سوداء . الحقنة المطلوبة غير متوفرة ، ذلك هو مصير مجموعة من الاطفال بالبوادي المغربية النائية (( ما أصعب أن تعدم الوسيلة عند الحاجة …… تقتل الانسان المعزول .)) ص20 . غير أن الصمت الجاثم على قلوب مرتدي المركب ، سرعان ما غيره ضوء خافت اتجه صوب المركب .فتبدل صوت المحرك الذي عاكس اتجاه الموج وبدأت المطاردة ، غير أن القوة الهائلة لمحرك القارب جعلتهم يفلتون (( تنفس الجميع الصعداء كان بعضنا يهنئ الاخر وبعضنا يمسح دموع النساء .)) ص22 ..قارب اليأس والضياع ..قارب الذل والتيه، ليعود بنا السارد لتذكر رمز من رموز المقاومة ( مسعود الفلاح) الذي خبر صناعة المفرقعات وانتاج اليقطين (( كان اليقطين الكبير ضمن ما ينتج يدس القنابل الصغيرة في قلب اليقطينة قبيل نضجها ، يشقها بطريقته الخاصة ، ويدرها في الحقل حتى يلتئم جرحها ، فيختفي أثر الشق تماما ، ثم ينقلها مقاومون حيث تنفذ العمليات الفدائية بالمدن . .. كانت قنابله ذات نفع مزدوج : قنابل مضادة للعدو الغاصب وقنابل مضادة للجوع …)) ص26 . وعلى لسان عباس يستطرد الحديث عن شخصيات لها ما يميزها بالقبيلة كالحاج امبارك لقرع .. الرجل الامي الذي اذا دخل البنك انهالت عليه عبارات الترحيب … لا يشتغل الا أثناء الحملات الانتخابية ….. اللهم لا حسد ..)) ص27 . سيل من الذكريات ينتاب كلا من سعيد وعباس والرداد الذي يعد ((تحفة الحكايات والاساطير الخرافية …)) ص 37 ، و(عبدو المراكشي) الذي يحكي عن علاقته بساحة جامع الفناء(…كنا نسمع أكثر مما نتكلم ، كان الراوي ممثلا بارعا ، أستتمتع بحركاته وسكناته ورنات صوته أكثر مما يشدني المحكي ، أجلس اليه ساعات طوال ،…ص51 . وحكاية أحمد الذي سجن بسبب رغدانة، والرداد الذي قضى ثلاث ليال من ألف ليلة وليلة ، يحكي عنها بتوسع وتنهد وهو يسب ويلعن فردة البلغة التي دلت رجال الدرك عليه(ص68 69 ) ، وبما أن الامور اختلطت “بكراع مش” فان الرداد أصبح يرى انشغال الناس بالسياسة تسبب لهم في تلك الانانية الموغلة ونكران الجار .(ص37) . ثم يعود بنا السارد مرة أخرى الى استثمار الذاكرة عبر مونولوج داخلي يحكي فيه مع نفسه عن نجاحه بامتحان الشهادة الابتدائية واستفادته من منحة بالداخلية ليمتثل للضوابط واحترام المواعيد ، الى أن همس سعيد في أذنه بأن لا ينقص هذا القارب سوى شريط لتجويد القران كي يحس الجميع أنهم في مأتم (ص39). تتناسل حكايات مرتدي(( قارب الموت)) وتتعدد وسط فضاء مظلم تغمره الامواج انها : ((سيبة بحرية )) ليعود بنا السارد الى زمن السيبة الحقيقي عبر شخصية (الرداد) الذي حكى عن أحد جبابرة زمانه (لغماتي ) الذي اشترى بندقية أراد تجريبها فأشار عليه المقربون بكلب ، لكنه أصر أن يكون بشرا من الرعاع ، أتوه بمعدم شارد لا أهل له ولا عشيرة ، أفرغ فيه الرصاصة فأرداه قتيلا ، وكذلك تهلل وجهه واستبشر لنجاعة سلاحه .(ص49). .وتتناسل الحكايات ، ويتحف القزم مرتدي قاربه بحكايته مع الدراسة مع الدراسة (ولت أيام العز في المدارس ، يوم كانت “القراية” تعني الوظيفة)ص72 ، وقدم حكاية ابن القاضي “سلمان” وعبد الوهاب الابن الصغير للخماس الذي كان يسترق السمع والنظر من النافذة الى المعلم ،،، وتتصارع الاحداث في تناغم تام مع الرحلة لتعطي للحكي مرارة الاحساس بالخيبة (يتعهد التازي أمام الله ويشهد الجميع أنه قبل الزواج من فاطمة في تلك الليلة المظلمة فليلة على ظهر هذا القارب كثلاثمائة وستين يوما مما تعدون ص83 . في المقابل تهلل وجه القزم الذي لا يخلو من مكر ليعلن للجميع أنهم اقتربوا من الضفة الاخرى ، وأنهم سيحطون الرحال بشاطئ بعيد عن المدينة تجنبا للمشاكل . وقد ظلت حركاته الغريبة مراقبة من طرف الجميع ، وخاصة عندما اصطاد معطفا كان يطفو على سطح الماء ، وقد اخبر الجميع بنبرة تهكمية لا تخلو من مكر أنه كم من مرة اصطاد جثة طافية بمجدافه وجردها من ثيابها (أجرده من وسخ الدنيا ” (يقهقه).) ص55. ثم ألقاها في البحر ثانية . وبخطاب استهزائي ( في اشارة الى التازي ) “أين ذلك المتأسلم ، صاحب اللحية الطويلة ، لم أر أنك تصلي مذ ركبت القارب . أم أنك تصلي بعينيك كالمريض؟ أم أنك لا تجد في كتب الفقهاء ما يشير الى “صلاة الحراكة ” (يقهقه) ص 56. غير أن سعيد استطاع بحيلته أن يوقع بالقزم بعدما لفه بالحبل على شاكلة رعاة البقر لينهي الرحلة وهو مكبل الرجلين . الرحلة التي خيبت امال الجميع . وعند نهاية القوس / نهاية الرحلة يجد الجميع أنفسهم بقرية شمال المغرب ، تنبعث منها الاضواء وشنف مسامعهم اذان الفجر (وكلما اقتربنا من الاضواء ، تثاقلت الخطى ، وتبادلنا نظرات تبحث عن دفء الحماسة المفقودة (ص113) , ليخبرهم الفقيه بعد قضاء الصلاة أنهم بقرية بشمال المغرب ، لقد خدعهم القزم (أيكون القزم بهذه القسوة والدناءة؟ رسم قوسا داخل البحر ، أعادنا الى نقطة محاذية لنقطة الانطلاقة ومضى….)ص114 ,ومن أجل هذا القوس ماتت نوال وقتل الوجدي وانتحر سعيد واقتيد الباقين الى المخفر من طرف رجال الدرك,,, وبعد ساعات فتح المحضر 
ان تعدد الشخصيات وتباينها من حيث الانتماء والهوية (عامر، سعيد الوجدي، عبدو المراكشي ، رانيا السينغالية ….) قد تم اختيارها من طرف المؤلف لتجسد اختلاف الاجناس والتكوين الثقافي والنفسي والمواقع والمواقف الاجتماعية ، لتشارك جميعها في استمرار الحياة المبنية على المغامرة وركوب الموج ، بعد ضيق الحال وانسداد الافق الممتد رغم رحابته وفقد الآمال في الاوطان الاصلية ، حيث تتجسد المأساة الحقيقية لكل مرتدي قارب الموت ، في اتجاه الضفة الاخرى التي لم ينعموا بها . فقد ماتت نوال ورمي بجثثها في البحر ، وسقط الوجدي هو الاخر نتيجة اشتباك بينه وبين مرافق القزم بخصوص رمي جثة نوال ((وكانت صيحة الوجدي وهو يسقط في الماء اخر ما سمعنا منه ..)) ص34 . لقد كان السارد /نور الدين عامر شاهدا على موت نوال ، وعلى الوجدي الذي اشترى حتفه بماله ، حيث تمنى انكشاف أمرهم وسقوطهم في قبضة رجال الامن أو الدرك .ويتهم القزم ومساعده بالقتل العمد وأكل أموال (الحراكة بالباطل ) ، لكنه متهم هو الاخر بمغادرة التراب الوطني دون ترخيص .

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *