*وليد أحمد الفرشيشي (ديوجين)
خاص ( ثقافات )
بدا ” شريللو” كمخبول حقيقي وهو يلكمني على أنفي قائلاً:” ستؤلمك الضربة قليلاً. قد ينزف أنفك وقد لا ينزف. ولكنّها ستؤلمك. لا تتكلّم ! نحنُ نكذبُ على أنفسنا كثيرًا حين نقولُ أننا قادرون على التعبير عن مشاعرنا بشكل أفضل إن تجنّبنا الإيذاء. إنّ العالم مؤذٍ. ومشاعرنا أيضًا مؤذية”.
غامت عيناي من أثر اللكمة وأنا أتحسّس وجهي بحثًا عن آثارِ دماء خيالية.
قال “شريللو”، وهو يكوّر قبضته مجدّدًا، قبل أن يسدّدها هذه المرّة إلى بطني:
– انظر، أنا أحبّك أيّها الوغد الصغير. أحبّك حقّا ولهذا ألكمك. في هذ العالم، لا يمكن إلاّ أن تكون أحد اثنين: إمّا مطرقة أو مسمار. وأنا أعتقدُ أنّك مسمارٌ صدئ. إلاّ أنّي أحبّك، وهذا ما يدفعني، إلى إيذائك دائمًا.
قلتُ متأوّهًا:
– ولكنّي لستُ مسمارًا.
– إن لم تكن مسمارًا فأنت نشارَةُ خشبٍ تمّ وضعها في جسدٍ آيلٍ للتداعي. لن يجد الدودُ ما يأكل سوى النشارة. لماذا لا تردّ لي اللكمة أيها الوغدُ الصغير؟
– أوه…أوه…أنت تؤذيني.
أفلتَ أذنيّ قبل أن يوجّه نظراته إلى الشارعِ الفارغ:
– أنتَ تعتقدُ أنّي أؤذيك. ولكنّي في الواقع، أنا بصدد فتح عيني البطّة على حقيقة واحدة: أنّها ستنتهي مقطّعة إلى شرائح صغيرة تعومُ مع الخضر في صحن من الشوربة. إيمانك السّخيف بأنّ العالم يكافئ الطيبين يعني بداهةً أن تقبل أن تكونَ شرائح مقطّعة في حساء شوربة. هل رأيت بطّة واحدة انتفضت على مصيرها؟
– بإمكانها أن تطير لو أرادت. قلتُ متنمّرًا.
توقعتُ لكمة جديدة من يده الغليظة إلاّ أنه قال في شرود:
– أيّها الوغدُ الصغير. أنا أفهمُ العالم بشكل مختلفٍ تمامًا. العالم يحتاجُ رجالاً أقوياء. مطارق حديدية قادرة على تفتيت الضعف ومحوه تماما. أنا، مثلاً، كُلّما رأيتُ فاطمة وهي تتحوّل إلى دجاجةٍ سمينة تحت ذلك الديك المخصيّ، ألعنُ نفسي !
هل تعرف؟ لو لم أقفز خارج حياتها فجأة ككنغَر أحمق، لأنّ ذلك الوغد أخذها منّي، لما كانت حياتها الآن مسؤولية غيري. أنا ألعنُ نفسي، أيها الوغدُ الصغير، لأنّي أغلقتُ عينيها اللتين فتحتهما لأجلي في لحظة ما. أنتَ تفهمني حين أقولُ لك، أنّي أموتُ ألف مرّة كلمّا رأيتها تحت ذلك الديك المخصيّ…أنت تفهمني حين أقولُ لك أني ألعنُ نفسي!هه !
– من فاطمة؟ قلتُ هامسًا.
قال وكأنّه لم يسمعني:
– هم يقترفونَ الجرائم لنرتدي تبعاتها نحن. هذا لأننا أكثر منهم اقتناعًا بأننا لا يمكن أن نغادر دائرة المحو. مسامير صدئة بأسنان لا تعضّ. هل تعرف لماذا اختفت تلك الطيور من الشارع؟
– لا أعرف.
– لأنّها لا تعضّ. لقد قبلت أن يتحوّل الشارعُ إلى شاهدٍ على اقتلاع كلّ الأشجار التي حلّت محلّها تلك العواميد الخرسانية وخيّرت المغادرة. هل ما فعلته خير أم شرّ؟
– أعتقد أنها حسنًا فعلت.
لكمني على ظهري بعنف وهو يزمجر:
– هل من الخير أن تترك حياتك للإسمنت يكتسحها في فظاظة؟ تلك الطيور كانت كائنات رديئة وهي تفرّ من تلك العواميد الخرسانية. كانت مثلك تماما مسامير صدئة تتلّقى اللكمات ولا تردّ عليها.
– لا أعرف…لا أعرف…
– إذا سرق أحدهم بيتك، ماذا تفعل؟ هل تشتري معطفًا سميكا تداري به جسدك الذي يرتعش كأنّ شيطانا يضاجع روحك أم تقاتل؟ أنا فهمت الأمرُ بالنهاية حين سرق منّي ذلك الوغد فاطمة.
– فعلت هذا لأجل امرأة؟ قلت متأوّهًا.
– أنا لم أفعل شيئًا. الحبّ يحتاجُ القوة. وأنا لم أكن قويّا بما فيه الكفاية.
– إذن….أنت لم تكن تحبّها وإلا لقاتلت من أجلها.
– أنت لا تفهم. حين أخرج أمعاءك الآن وأرسم بها دوائر حمراء وصفراء ملغزّة على الأرض، هل معنى هذا أنّي فعلتُ خيرًا بتخليص العالم من وغد بلا فائدة مثلك؟
– ولكنك قلت…قلت…إنّك تحبّني…
– ولهذا فقط لن أخرج أمعاءك…الحبّ يجعلك مسلوب الإرادة…
– هل من الأفضل أن لا نحبّ أصلاً…لنكون أقوياء…؟
– ربما نعم…وربما لا…أنا نفسي لم أفكّر كثيرًا في هذا..
– ولكنّك تحبّني وتضربني…؟
– أنت لا تنصت أبدَا. قلتُ لك أن المشاعر مؤذية. الشرّ لا يدخل الإنسان بل يخرج منه كما يخرج برازهُ بالضبط. حين افتكها منّي ذلك المخصيّ كان يخرجُ برازهُ لفاطمة وهو يعلم أنّها مستعدّة لالتهامه. هي أيضا أخرجت برازها فالتهمتهُ أنا.
قلت هامسًا:
– لألتهم أنا برازكَ…
– ماذا قلت؟
– لا شيء… !
– لا تكذب. سمعت ما قلت. نعم أنت التهمت برازي. وإن لم تكسر القاعدة ستكون أنت من يلتهم برازَ الجميع بالنّهاية…ما العمل الآن؟
– لا أعرف…
– لا أعرف…لا أعرف…تكرّرها وكأنّك كلبٌ يتشمم ظلّ صاحبه…يجب أن تكون مطرقة…قل سأكون مطرقة…؟
– سأكون مطرقة…
– قلها بكل القوة الممكنة… !
– سأكون مطرقة…سأكون مطرقة…. !
– لماذا تنطقها كالمخنّث…قلها حتى لا تلتهم براز الجميع…. !
– سأكون مطرقة… سأكون مطرقة…سأكون مطرقة…. !
– سأجرّدك من ثيابك وأترك كلاب الشارع تضاجعك إن لم تقلها كرجلٍ يقاتلُ من أجل حياته….
بدأ صوتي في الارتفاع :
– سأكون مطرقة…سأكون مطرقة…سأكون مطرقة…. !
دامعًا، بدأ في لكمي وكأنّي كيس من الرّمل:
– قلها وكأنّك تفتك الآن بذلك الديك المخصيّ الذي سلبني حبيبتي…قلها وكأنّك تفتك بي الآن أنا الذي أشبعك ضربًا كلّما رأيتك…قلها لأنّي أكرهني حين أراني فيك…قلها…أيها الوغد…
– أنااااااااااااااااااا مطرقة…….
صرختُ بكلّ الغضب الممكن داخلي…وغبتُ في الهوة السوداء التي أكلتني….
حينَ عدتُ لي…كانت يدي تعبثُ بمخّ “شريللو” الذي تناثر على الأرض…رفعتها أمامي قبل أن أبدأ في لعقها كالمسعور…
أخيرًا، عرفتُ أنّ أحدهم كانَ نشارة خشبٍ محشورة في روحٍ متداعية.
_________
*من مجموعة “حكايات نيئة” الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي الدورة 19