زمنٌ يجثو على ركبتيه


*نيرمين يوسف


الأمر أشبه بنعاس، لا تستسلمي له، لا تجعليه يتمكن منك، إن إدراكك لحقيقتك الداخلية لا يتطلب كل ذلك، لتصمتي قليلًا، فقط اصمتي إلى الأبد وسوف تنكشف الأمور من تلقاء نفسها، لكل منا موسيقاه الخاصة به، ابحثي عن معزوفتك بداخلك، ما الذي تحتاجينه في الرحلة غير الألم، وقليل من الوقت لتكتبيه – ألمك- حين تكتبين تتضح عظمة ذاتك تدريجيًا، جسدك يحوي ريحًا وبردًا، ويحوي شمسًا ودفئًا، وأنتِ وحدك من يقرر مصير هذا الجسد.
اجعلي شمسه تشرق من الداخل.
الأمر أشبه بنعاس فلا تستسلمي له، نظفي بقايا القسوة في قلبك أولًا بأول، أنتِ تعرفين أن لا موت هناك، كل ما في الأمر بعض النعاس الذي تنتقلين خلاله من حياة لأخرى، عليكِ فقط التأكد أن لوح الزجاج الذي يفصل الحياتين ليس مكسورًا. 
“أستنشق كل الهواء الموجود بالحجرة، لا أدعه يمر، أكتمه بداخلي.”
– لماذا سمحت له بكل هذا الاقتراب؟
– لا أعرف فلقد فوجئت به يتجول بأوردتي، ويقوم بتفاعلاته كاملةً بداخلي، لا أخفي عليك إنني كنت أستمتع كلما توغل فيَّ، كان لانتشاره في جسدي لذة لا يضاهيها شيء.
تقول جارتها أن شاب الدور الثالث الشديد الوسامة، طالب كلية الطب، الوحيد من بين أبناء الحي يليق زوجًا لها، تنظر لها في استخفاف قائلة: لن أتزوج من حيِّكم بل من بلدتكم كلها، وتندفع إلى حجرتها لتطمئن أن مدونتها التي كتبت بها أربعة أحرف عن شاب الدور الثالث مرفق بهم قلبًا من القطيفة الحمراء ووردة ذابلة، كما هي بدرج المكتب المغلق لم يفتحها أحد.
– أنتِ التي استسلمت، وقد حذرتك من الاستسلام مرارًا.
– لم استسلم، أنا أحببت المكوث في هذا الركن المظلم الهادئ من الحياة، أردت للأصوات الكثيرة أن تخفت، وللروائح المتداخلة أن تهدأ.
يقول البطل للبطلة في مشهد من فيلم عربي قديم : أنتِ في قرارة نفسك تؤمنين بالتحرر، بالحب، بالحياة، افعلي ما تؤمنين به قبل فوات الأوان.
– أي سعادة باكية تلك التي تصفينها؟
– إن للبكاء نشوة لا يعرفها إلا من يبكي حتى الطفو، ذلك الإحساس بالحزن حد ترك كل شيء ينفلت من بين يديك فتصبح خفيفًا، فتطفو، أو بالسعادة حد التحليق متخففًا من كل ما يثقلك، فتطفو أيضًا.
لم يقل شيئًا ذا بال؛ أخوها.
بل وخزها بشدة لأن القميص الذي كانت ترتديه انفك أحد أزراره العلوية وقبل أن تنتبه فتغلقه كان أحدهم قد استرق النظر، كانت الوخزة مؤلمة ونظرة أخيها أيضًا.
– الحب قطعة من الثلج تذوب في كأس الزمن.
– ماذا لو أن الزمن أصبح يمتلك لسانًا؟ ماذا لو صار للزمن عينين؟ 
– لسان أم صوت؟ عينان أم بصر؟
– ماذا لو أن الزمن امتلك يدي فنان فأعاد رسم اللوحة بما يليق بطيبتنا وخذلاننا؟
– الأجدر أن تكون هاتان اليدان للطبيعة كي تمتد لتحتضننا حضنًا شاسعًا لا ينتهي حين تفوح من أرواحنا رائحة الألم.
يقول مدرس الرياضيات أن ذكاءها من نوع نادر لم يصادفه قط وأن طريقتها في حل التمارين الهندسية تعصف بنظريات فيثاغورث وإقليدس فهي تبتكر طرقها الخاصة جدًا والتي لا تماثلها نظريات ولا نتائج ولا حتى تمارين مشهورة؛ لم تنس التعبير الذي كان على وجهه يومها.
– هل ترين قطع البازل المتناثرة في الهواء هذي؟ إنه جسدك يتطاير في كل ناحية.
– دعني ألملمني وأرسم دائرة كبيرة وأعيد ترتيبي،هنا صوتي وعينيي وهنا ضميري وأنفي وهنا أذنيي، هنا عنقي قريبًا من شفتي وأما قلبي فهنا عند مركز الدائرة.
يقول أبي إن جمالك هنا ويشير إلى قلبي، وتقول أمي حسبنا الله؛ لا يجتمع حظ مع جمال وأنت جميلة وتبكي.
– يبدو أن تأثير هذا الدواء قد بدأ بالسريان بجسدك.
– إنني أطارد قطة صغيرة في الشوارع الخلفية لمنزلنا، لم أستطع اللحاق بها.
– ما كل هذا البوم المنتشر في حجرتك؟
– أجد صعوبة في مسامحتهم.
– أتثأر الملائكة؟ هذا الكائن النوراني! أحقًا يفعل؟ 
أقول لنفسي: كمقص يعيد ترتيب قطع زهرة ذابلة غير عابئ برقتها ولا متعاطف مع موتها ؛ كوني حادة. 
الأمر أشبه بنعاس، لا تستلمي له، لتصمتي قليلًا، فقط اصمتي إلى الأبد وسوف تنكشف الأمور من تلقاء نفسها.
“أُخرج زفيرًا لنفسٍ كنت قد كتمته داخل صدري”.
______
*مجلة روز

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *