*خيري منصور
قبل أن يهتدي ريجيه دوبرييه إلى هذا العنوان، استبقته إليه مؤسسات أمنية عربية، وكانت عبارة غير المرغوب فيه تعني الإقصاء، إذا كان المثقف المقصود يعيش في بلد آخر غير بلده، أو التهميش إذا كان يعيش في وطنه، ولا بد أن يكون من اقترح هذا التوصيف على قدر من الخبرة في المجال السايكولوجي، لأن غير المرغوب فيه تستدعي على الفور إلى الذاكرة نقيضها، وهو ذلك المرغوب فيه، أي الذي استوفى شروط القبول، وفي مقدمتها شرط التدجين ونزع الدسم، بحيث يتحول إلى ما يشبه توصيف الماء في علم الكيمياء، وهو أنه عديم اللون والطعم والرائحة، رغم أن الماء كما انتهى إليه من تلوث وشحة في عالمنا العربي أصبح ذا لون وطعم ورائحة أيضا.
المثقف غير المرغوب فيه، هو الذي اقترف جريمة الاختلاف وعدم التأقلم على حساب وعيه، وانتقلت عدوى عدم الرغبة من مؤسسات أمنية إلى مؤسسات اجتماعية قد تكون العائلة إحداها، لهذا يستحسن الابتعاد عن مثقف يسبب الصّداع لمن يعانون من فائض الخمول والاستنقاع، كما يسبب الغثيان لمن يحاول ابتلاعه ثم يختنق به ويلفظه ناعتا إياه بعسر الهضم.
أما المرغوب فيه فهو ليس فقط ليّن العريكة، كما كان أجدادنا يصفونه، أو ذلك الذي صدق بأنه سيصبح مثاليا إذا لم يكن ليّنا فيعصر أو صلبا فيكسر.
وباختصار فإن النموذج المرغوب فيه المطلوب تعميمه هو الببغاء، الذي لا يقول شيئا، بل يردد صدى ما يسمع، وإذا شئنا تحديد المواصفات اللازم توفرها في المرغوب فيه فهي خمس صفات على الأقل..
الاولى تحويل المعرفة إلى تراكم، وهذا من شأنه أن يحول المثقف إلى أرشيف محايد، والثانية التعامي عن كل ما يستأهل الاعتراض والنقد، انسجاما مع مقولة خرقاء هي التحديق إلى النصف الممتلئ من الكوب حتى لو كان هذا النصف الممتلئ سائلا فاسدا وليس ماء. والصفة الثالثة هي توظيف المعرفة لتبرير الأخطاء والدفاع عنها، وهو ما يسمى تبريرا من أجل التمرير، وهذا بحد ذاته يتطلب مهارة في التزوير.
والصفة الرابعة هي استخدام بلاغة مضادة للقول المأثور عن المقام والمقال وهو ما يسميه رودنسون الإفراط في استخدام البهارات لإخفاء نكهة الأطعمة الفاسدة، لكن هذا النمط من البلاغة تفتضحه رائحته وهو أشبه برسم جناحين للسلحفاة أو ساقين للأفعى. أما الصفة الخامسة وقد لا تكون الأخيرة فهي قابلية المثقف الداجن لاستدراج آخرين نحو الحظيرة، وغالبا ما يكون العلف بمختلف أشكاله هو الطعم الذي يستخدم لاصطياد الضحية والمؤسسات الاجتماعية بدءا من العائلة، تنتقل إليها العدوى من المؤسسات الرسمية والأمنية بشكل خاص، فمن لا يلوذ بالصمت إزاء ظاهرة ما ويحاول البوح برأيه يصبح غير مرغوب فيه، لأن مجرد الجلوس بجواره يصبح تهمة، أما الأخطر من ذلك فهو ما سمعته شخصيا من زميل يعمل في الصحافة، حين قال لي إنه يتجنب قراءة ما يفسد عليه قناعاته أو يحرّضه على تصعيد الوعي، وأذكر أنني قلت له مداعبا: حبذا لو تنتبه المؤسسات إلى ذلك، وتبتكر أمصالا للتلقيح منذ الطفولة ضد التفكير، تماما كما يلقّح الأطفال ضد الشلل أو الجدري.
لقد أدى إقصاء غير المرغوب فيهم إلى تهميشهم وتهشيمهم، وحال دون تأثيرهم المباشر عن طريق الاحتكاك، ليحل مكانهم أشباه يؤدون المطلوب منهم على طريقة نفّذ ثم نفّذ، أما المناقشة فهي مطرودة من السياق كله.
إن أكثر ما يزعج من غير المرغوب فيهم هو إصرارهم على تسميه الأشياء بأسمائها، فالتخلف تخلف ولا شيء آخر، والهزيمة هزيمة وليست نكبة أو نكسة، والمرض العضال ليس مجرد وعكة، وانتهى بنا الأمر إلى أن دفعنا ثمنا باهظا لغياب غير المرغوب فيهم، وأصبحنا بسبب التشخيص الخاطئ، بل الباطل لأمراضنا السياسية والاجتماعية نعالج الورم بكمادات الماء البارد ونعالج الشلل بالتعاويذ. لهذا من الإجحاف أن يكون الحكم بالجملة على النخبة أو المثقفين باعتبارهم متجانسين أو منسوخين عن نموذج واحد، لكن المرغوب فيهم هم الأحرص على هذا التعميم من أجل المزيد من التعويم، وخلط الأوراق، لأن أشد ما يفزعهم هو التصنيف لا التوصيف، رغم أن تأجيل المساءلة قد يضاعفها وليس العكس، ومن سعوا بكل ما في وسعهم من أجل التنوير حتى احترقوا، ليسوا كمن احترفوا صبّ الماء على الجمر كي تصبح الأبقار كلها سوداء في الليل كما يقول هيغل.
فالضوء يكشف ويفرز وأخيرا يفتضح لهذا فهو أيضا غير مرغوب فيه ولو استطاع المرغوب فيهم إطفاء الشمس لفعلوا، وما أنفق من الوقت والمال والجهد من أجل تدجين المثقف ونزع دسمه وتحويله إلى ملقط أو قفاز، كان يكفي لتثقيف ملايين البشر وتحريرهم من الأمية التي أبقتهم خارج التاريخ.
وأي مطارحات حول الثقافة وأزماتها المزمنة تبقى مجرد استحمام في السراب إذا لم تبدأ من ذلك المعيار الأخرق، الذي استمد شرعية استمراره من التواطــؤ وهو المفاضلة البراغماتية بين المرغوب فيه وغير المرغوب فيه، لأن معظم الندوات والفعاليات السائدة هي من إفراز المرغوب فيهم، لهذا على من ينتظر العسل من اليعاسيب، أو حتى من البعوض أن يبتلع لعابه كي لا يسيل لأنه لن يظفر الا باللسع أو الكوليرا.
________
*القدس العربي