نوال السعداوي*
الأندلس في ذاكرتي كما وصفها أبي في طفولتي، السندس الأخضر، ولوركا الشاعر حفظته أمي بالمدرسة الفرنسية وهي في الخامسة عشرة من عمرها، كان مناضلاً ضد الاستبداد والفساد فقتلوه، كما يحدث عندنا وكل مكان، والوجوه الإسبانية تشبهنا، والشمس هي الشمس، السخونة أقل والهواء أنقى، البرودة خفيفة منعشة برذاذ المطر، الأشجار مغسولة والشوارع تلمع، ثلاثمائة ألف نسمة فقط يعيشون في قرطبة في مساحة بحجم القاهرة.
منذ دخل الأندلس «طارق بن زياد وموسى بن نصير» عام 92 هجرية، شيد العرب القلاع والقصور على مدى ثمانية قرون، وكانت قرطبة جسر التواصل بين الشرق والغرب، كتب عنها المؤرخ فيكتور روبنسون: «في الوقت الذي كانت فيه أوروبا غارقة في الظلام والوحل كانت قرطبة مرصوفة الشوارع مضاءة بالمصابيح»، مسجد قرطبة تم بناؤه في قرنين ونصف من الزمن، تحفة نادرة، وفي غرناطة قصر الحمراء مع جنة العريف من أروع القصور في تاريخ العمارة العربية، بناه بنو الأحمر ما بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وآثار متعددة في أشبيليه وملقا وطليطلة. أمشي في الأندلس كأنما أمشي في طفولتي داخل التاريخ، كان مؤتمر قرطبة بعنوان «الديالوج»، شاركت فيه رئيسة حكومة الأندلس «سوزانا دياز» شابة في ربيع العمر ستصح رئيسة حكومة إسبانيا كما يتنبؤون «وتاباتيرو» الرئيس السابق لحكومة إسبانيا رئيس الحزب الاشتراكي، لايزال نحيفاً نشيطاً، عيناه مملوءتان بخضرة قوية، في حكومته عين من الوزيرات ما يساوي عدد الوزراء، منهن وزيرة الدفاع، رأيتها في مدريد منذ عشرة أعوام، تسير ممشوقة بين صفوف الجنود ببطنها العالي وهي حامل في تسعة أشهر إلا يومين. في مأدبة الغداء أجلسوني إلى جوار ثاباتيرو، دار الحديث حول فكرته التي طرحها منذ أحد عشر عاماً باسم «تحالف الحضارات» وأعاد طرحها بالمؤتمر، مؤكداً أن الحوار والتحالف بين الأديان والحضارات هو الطريق الوحيدة للسلام، كلمة السلام تكررت مئات المرات بالمؤتمر ولم أسمع كلمة العدل مرة واحدة، فسألته ونحن نأكل السمك المشوي مع النبيذ الأندلسي: هل يتحقق السلام بدون العدل؟ رد ثاباتيرو بسرعة: لا يمكن تحقيق السلام بدون العدل. بعض المشاركين بالمؤتمر رأوا أن ثاباتيرو لا يمثل المستقبل، منهم المستعرب الإسباني «بيدرو مارتينيث مونتابيث»، الرئيس السابق لجامعة مدريد، أهداني كتابه بعنوان «أوروبا الإسلامية» شاركته زميلته «كارمن رويث برافو» يشرح كتابهما كيف استفادت الحضارة العربية الإسلامية من التراث الأوروبي المسيحي وأفادته في الوقت ذاته، واندمج الفن العربي الإسلامي بالفنون الأوروبية المسيحية لتنشأ منهما الحضارة الأندلسية.
أما «سوزانا دياز» رئيسة حكومة الأندلس، فهي تناصر المهاجرين، قالت إن ضحايا الإرهاب من المسلمين أكثر من غيرهم، فالإرهاب لا يرتبط بالتيارات الإسلامية، بل بجميع التيارات الأخرى منها اليهودية والمسيحية، وفي إسبانيا ملايين المسلمين يؤمنون بالسلام، وقال «سمير ناير» الأستاذ الجامعي ورئيس المؤتمر، إن الحكم الإسلامي في الأندلس كان أكثر سماحة وديمقراطية مع اليهود من الحكم المسيحي ولا يصح ربط الإرهاب بالإسلام، وقال رئيس جامعة قرطبة إن الإرهاب سياسي، ويجب على أوروبا ألا تغلق حدودها في وجه المهاجرين ضحايا الاستعمار الأوروبي، وفي كلمتي بالمؤتمر قلت إن الإرهاب يشمل الدول الكبرى أيضاً وأن أزمات العالم تنبع من اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية والجنسية، الناتجة عن سيطرة السلاح والمال على كل شيء حتى الفن والكتابة، وإذا كان الإرهابي رئيس دولة كبرى، جورج بوش مثلاً، فهو لا يحاكم ولا يعاقب، ويتم تدمير فلسطين والعراق وسوريا وغيرها، في حروب نظامية شرعية تحت اسم الديمقراطية والسلام والشراكة والتنمية. وتحدث «طارق علي» الكاتب والمؤرخ الباكستاني، عن الأصولية الدينية السياسية وكيف تغذيها الولايات المتحدة بالمال والسلاح، ومن فلسطين تحدث محمد شتيه الوزير، ومصطفي البرغوثي، الطبيب المناضل، عن الخداع الاستعماري بشأن القضية الفلسطينية، والدعم الأمريكي الأوروبي المستمر لإسرائيل رغم كونها دولة إرهابية، وعن الثورة التونسية والتعددية الثقافية السياسية تحدثت صوفي بسيس أستاذة الاجتماع والأستاذ بن موسى الحاصل على نوبل للسلام العام الماضي. خارج المؤتمر التقيت بشباب وشابات من الإسبان، بعضهم من أصل عربي، قرأوا كتبي المترجمة للإسبانية، قالوا: المستقبل للحزب الجديد «بوديموس»، نحن «نستطيع» تحقيق ما نريد، وسوف نلغي الخصخصة، في مجال التعليم خاصة، وندرس الفلسفة والأخلاق بدلاً من الأديان، الأمين العام لهذا الحزب هو «بابلو إجليسياس» ونائبته «تيريزا رودريجوز»، وأغلبه من الشباب والشابات، وأقبلت نحوي فتاة، تحمل كتابي «أوراقي حياتي» بالعربية والإسبانية، هاجرت أسرتها من المغرب إلى إسبانيا قبل ولادتها منذ أربعة وعشرين عاماً، أهدتها أمها بعض كتبي بالعربية والإسبانية لتقرأها وهي في السابعة عشرة من عمرها، حوطتني الفتاة بذراعيها وفي عينيها دموع، وقالت: “لم أحلم بأن أراك، كتابك غير حياتي”.
* الأهرام.