*إعداد وتقديم – رضاب نهار
تُرجم كتاب «طوق الحمامة في الألفة والألاّف» لمؤلفه الإمام ابن حزم الأندلسي (994 – 1064م) إلى العديد من اللغات العالمية، حيث يعتبر مرجعاً أساسياً كتبه العرب عن الحب والود بين العشاق وما يجمعهم من عواطف مشابهة وأخرى مرافقة وتابعة قد تصل إلى الهجر والبين والفراق. آخذاً بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية ومتقيداً بتعاليم الدين الإسلامي التي تدعو إلى الأخلاق الكريمة وتحرّم أذى الغير والنفس، وتؤمن بالله الواحد الحق والقادر على كل شيء. وإذ يعتمد الكتاب بأبوابه الثلاثين على التجربة والقصص الواقعية وما أتى مؤلفه من أخبار، فإنه يقدّم تحليلاً نفسياً واعياً للإنسان في كل زمان ومكان، ويستعرض الخصال الإيجابية لديه والسلبية، المكتسبة والمتوارثة على حد سواء؛ وذلك في إطار العلاقة بين اثنين، وبالإضافة إلى ما يُقال من الشعر الذي يصف الحالة المذكورة، وكأن الأبيات الشعرية تحضرنا كشاهد عيان وكخلاصة لما تمّ الحديث عنه، يقدّم الكتاب رؤية فلسفية للمشاعر الإنسانية وتقلباتها.
الحب – أعزّك الله – أوله هزل وآخره جد. دقّت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة.
***
الحب – أعزّك الله – داء عياء وفيه الدواء منه على قدر المعاملة، ومقام مستلذ، وعلة مشتهاة لا يود سليمها البرء، ولا يتمنى عليها الإفاقة.
***
وللحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدي إليها الذكي، فأولها إدمان النظر، والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها والمعربة عن بواطنها، فترى الناظر لا يطرف، يتنقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال كالحرباء مع الشمس.
***
وأستلذ بلائي فيك يا أملي
ولست عنك مدى الأيام أنصرف
إن قيل لي تتسلى عن مودته
فما جوابي إلا اللام والألف
***
الأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها. ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، قدرة من الله عز وجل تضل فيها الأوهام، فهذا الثلج إذا أدمن حبسه في اليد فعل فِعل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والغم إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين.
***
ولا بد لكل حب من سبب يكون له أصلا ً.
***
واعلم أعزك الله أن للحب حكماً على النفوس ماضياً، وسلطانا ً قاضياً، وأمراً لا يخالف، وحداً لا يعصى، وملكاً لا يتعدى، وطاعة لا تصرف، ونفاذاً لا يرد؛ وأنه ينقض المرر، ويحل المبرم، ويحلل الجامد، ويخل الثابت، ويحل الشغاف، ويحل الممنوع.
***
ومن غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون المعاينة، وهذا أمر يترقى منه إلى جميع الحب، فتكون المراسلة والمكاتبة والهم والوجد والسهر على غير الإبصار، فإن للحكايات ونعت المحاسن ووصف الأخبار تأثيراً في النفس ظاهراً.
***
كل ذنب فهو يتوب عنه صاحبه.. وكل ذام يمكن الاستتار به والتوبة منه، حاشى الكذب فلا سبيل إلى الرجعة عنه ولا إلى كتمانه حيث كان.
***
ما رأيت أخزى من كذاب، وما هلكت الدول ولا هلكت الممالك ولا سفكت الدماء ظلماً ولا هتكت الأستار بغير النمائم والكذب.
***
لولا أن الدنيا دار ممر ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره، لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه، والفرح الذي لا شائبة ولا حزن معه، وكمال الأماني؛ ومنتهى الأراجي.
***
كأنها حين تخطو في تأودها
قضيب نرجسة في الروض مياس
***
وددت بأن القلب شق بمدية
وأدخلت فيه ثم أطبق في صدري
فأصبحت فيه لا تحلين غير
إلى مقتضى يوم القيامة والحشر
تعيشين فيه ما حييت فإن أمت
سكنت شغاف القلب في ظلَم القبر
***
من حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق في الحب وغيره الوفاء، وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات.
***
لا بد لكل مجتمع من افتراق، ولكل دان من تناء، وتلك عادة الله في العباد والبلاد حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وما شيء من دواهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سألت الأرواح به فضلاً عن الدموع كان قليلاً.
***
للبين في إظهار السرائر المطوية عملاً عجباً، ولقد رأيت من كان حبه مكتوماً وبما يجد فيه مستتراً حتى وقع حادث الفراق فباح المكنون وظهر الخفي.
***
ذو النفس التواقة الكثيرة النزوع والتطلع، القلوق العزوف، فالهجر داؤه وجالب حتفه. والبين له مسلاة ومنساة.
***
ومن بعض صفات الحب الكتمان باللسان، وجحود المحب إن سئل، والتصنع بإظهار الصبر، ويأبى السر الدقيق، ونار الكلف المتأججة في الضلوع، إلا ظهوراً في الحركات والعين، ودبيباً كدبيب النار في الفحم والماء في يبيس المدر.
_______
*الاتحاد الثقافي