قلوب الفلاسفة أثر فني وأقلامهم مطارق على الإرهاب



*حاتم التليلي محمودي


ضمن واقع عربي مضطرب، وأمام حالة الرّعب وخيام الرماد والقحط الإنسانيّ، ولدت مقولة جدّ سطحيّة تقول بأنّ الفن وسيلتنا كي نقضي على الإرهاب، ذلك أنها اختزلته ليكون رصاصة أو طائر كاتيوشا، وخلعت عنه صفة ذلك النسغ العظيم، كأن يحلّ المعضلة الكونية، إنها لا تحوّل الفنان إلا إلى مجرد إناء لتلك الأيديولوجيا الرثة حيث تتناسل بكتيريا السياسيين ويصبح الثوار باسم المرحلة مجرد تجار.
سياسات المعنى
لم يدرك أصحاب ذلك الرأي من مثقفينا أن الإرهاب صار سابقا للأعمال الفنية، فكلما حلّ مصاب عظيم كانت حصيلته أرقاما مفزعة من الضحايا، عندئذ يحين دور المثقف الذي يحوّل الحادثة إلى عمل فني ما، وكأن دوره بات تأريخيا لا غير، فتحوّل المثقفون إلى ما يشبه الإعلاميين الباحثين عن سبق صحافي يغذّون به منظومات إعلامية ممولة من قبل أصحاب رؤوس الأموال الذين هم بدورهم خدم وحاشية لتلك الكولونيالية في رمزية تاجر السلاح أو الإله الجديد.
كان لا بدّ من عملية كنس معرفيّة وفلسفية كي تقوّض هذا الخواء الفنّي وتضع حدّا لتلك المهزلة، وفي نفس السياق تعطي للفنّ مكانته الحقيقيّة في عمليّة مواجهة الإرهاب بما هو وسيلة أم غاية أم أنّه قادر على خلق معادلة إنسانيّة داخل معادلة الدمار في حدّ ذاتها، وبالفعل لقد انتظرنا طويلا فيلسوفا أو مفكرا يأتي ليحسم هذا العطب الفكريّ، إلى أن تمّ الإعلان عن مولد كتاب “الفنّ في زمن الإرهاب” للباحثة والجامعية والفيلسوفة أم الزين بنشيخة المسكيني.
يتحرّك محتوى هذا الكتاب، الصادر بالاشتراك بين منشورات ضفاف ودار الأمان ودار كلمة ومنشورات الاختلاف، ضمن ثلاثة محاور رئيسية؛ الأوّل إشارة إلى تصادم الإرهاب بالفنّ من حيث تلك العلاقة التي لا يمكن أن تتموضع إلا بوصفها حالة عدائيّة خالصة، إذ أنّ هذا الجائع للدم/ الوحش السادي المسمّى إرهابا لم يتورّع في قتل ما تبقّى من حلم الفنانين بمهاجمتهم وتكفيرهم.
أمّا المحور الثاني فقد كان تحديدا لسيرة الفنّ وخصوصيته في أزمنة القتل هذه، إذ لا جدوى منه في حالة تمسّكه بالسائد من الكلاسيكي في جمالياته، بما يتوجّب عليه آنيّا التقاطع مع ما هو سياسيّ لا من جهة تعليبه ضمن الأطر الأيديولوجيّة والحزبية الضيقة، إنما من جهة تصفه على أنه ضرب مغاير من سياسات المعنى.
في حين قد مثّل المحور الأخير ضربا من ضروب كسر المعادلة التي تقول بثنائيتي التفاؤل والتشاؤم بل وكنسها، وذلك بالدخول إلى صرح قلاع جديدة تؤسس لحبّ يكون في حجم الخراب الإرهابيّ، بما معناه نشأة معركة جديدة ضدّ المستحيل بجعله ممكنا، ومحاولة استنبات عشبة الأمل من سديم الرّماد نفسه.
إنّ فزعنا إزاء اللحظة التي نعيشها يظلّ أشبه بالإقامة بين جاذبيتين لهما نفس قوّة الدفع والجذب، فثمّة أنين ماضويّ يجد ترجمته في تحوّل القدم من القديم إلى وحش قاتل، هو في حقيقة الأمر حصان طروادة جديد تم تشغيله إرهابيّا حتى يتسنّى للكولونيالي تقديم نفسه أنّه ضحيّته، وثمّة ما جسّدته، مؤلّفة الكتاب، مصطلحيا بالقلق المستقبلي؛ ذلك أنّ القادم مجهول إلى درجة مرعبة، ربّما سببه فزع اللحظة الراهنة بما هي تمثّلٌ أخيرٌ لهذه الحداثة المعطوبة، لا سيّما وأنّها بدورها محصلة فكر ميتافيزيقي/ توحيدي أوهمنا بنجاعته الإنسانية وقطيعته مع السماء، وفق ما أشار إلى ذلك الفيلسوف فتحي المسكيني.
إعادة الكينونة
بعد رحلة مع هولدرلين ونيغري وأدرنو وجاك رنسيار والمبدع تمّام عزّام ودريدا وباديو، وبعد نسغ مكثّف مداره حسّ حواريّ وفنّي مع جملة من الأساطير والنماذج الفنيّة التي احتوتها المحاور الثلاثة للكتاب، كان السؤال الفلسفي بمثابة موقظ لميزات الفن كخاصية إنسانيّة، ويحملنا تفكيك الظاهرة الإرهابيّة، نظريّا، إلى إعادة قراءة العديد من الأعمال الفنّية الناتجة عن أحداث إرهابيّة، كما يدفعنا إلى مساءلة ظهور محبّة العدم فينا نتيجة خيام الموت المحيطة بنا، هكذا علّنا نحدث جراحات راهنيّة نعبر منها إلى المستقبل.
تدعونا المسكيني إلى أن نبني الآتي، إذ لم يعد ثمّة ما يجعلنا نمشي إلى الخلف، أو نسافر في كلّ مرّة داخل نفس المربّع من المعادلة، فهي لا تشهد غير العدميين ولصوص الحياة من تجار السلاح وباعة الموت، وهنا يأتي الفنّ لا بوصفه مموضعا لجمالياته ضمن مسلك السائد من القديم، كأن نقرنه بالترفيه أو التطهير أو نجعل منه سلاحا أيديولوجيا مثله مثل بيان سياسي مباشراتي صاخب، بل بوصفه يعيد ترتيب أشياء عالمنا المتهالكة، ذلك أنّنا محض خواء في كينونتنا الحاليّة، لذا عليه أن يخلقها من جديد، ويعيد إليها أرطال اللحم المتناثرة نتيجة انفجار ما، هكذا يكون دوره على حدّ عبارة فتحي المسكيني أن يغمّس الحبّ في الموت، وأن يكون غابة من الفرح وكأنّ به صدى لإله الكروم ديونيزوس.
______
*العرب

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *