الفلاسفة .. والحب


*جهاد فاضل


إذا كان الموت قدر الجميع بمن فيهم الأطباء كما يقول أبو الطيب المتنبي في قصيدة له:
يموتُ راعي الضأن في فقره
ميتة جالينوس في طبه
فإن الحب قدر الجميع أيضاً وإن تفاوتت استعداداتهم له أو حظوظهم منه، ذلك أن لكل من البشر فهمه الخاص للحب، وتقييمه الخاص لأهميته أو لعدم أهميته في الحياة، ولا شك أن الفلاسفة طبقة متميزة بين المثقفين كثيراً ما يلتفت الآخرون إلى سلوكها وقناعاتها وممارساتها ليعرفوا النهج الذي تنهجه في هذا الشأن أو ذاك، ومن هذه الشؤون مسألة الحب وكنعمة النظر إليه. والتعامل معه عند هذه الفئة المختارة التي مثلت عبر التاريخ، وما تزال تمثل إلى اليوم، زهرة الذهن البشري وأرفع ما وصل إليه الإنسان عبر رحلته الشاقة منذ بدأت مسيرته إلى اليوم. وقد اختارت باحثتان فرنسيتان متخصصتان بالفلسفة وتعملان معاً في مجلة “النوفيل أبوبسرفاتور” الفرنسية، وهما: ماري لومونييه وأود لانسولون، نخبة من الفلاسفة، من قدامى ومحدثين، للحديث عن الحب عندهم، نظرياً وعملياً معاً، الحب ذلك الشعور المبهج بين كل المشاعر الأخرى، يبدو صامداً في مواجهة الأفكار التي عبرت القرن العشرين الماضي، والتي حصرت الحب في العلاقة وحدها.
قناعات هؤلاء الفلاسفة، وحياتهم في الحب، يعرضها كتاب صادر حديثاً في بيروت لهاتين الباحثتين، في ترجمة عربية له، عن دار التنوير، اضطلعت بها دينا مندور.
تقول الباحثتان إن هناك فكرة سائدة بأن الحب والفلسفة لا يجتمعان، ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل، وأن الحب أصبح كالصحراء المهجورة من قبل روائيي العدمية وعلماء الاجتماع الذين ينتمون لتيار “الارتباك العاطفي” الجديد، والتقوى الزائفة. لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب، لدرجة أن المرء قد يكشف مزيداً من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين.
وتضيف الباحثتان أنه مع كون الحب هو الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حيا. قد نستطيع أن نعطي بعض التفسيرات لما نلاحظه.
قد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمداً.
ثمة فيلسوف ظهر في القرن الأول قبل الميلاد هو لوكريس ألهمته الفلسفة الإغريقية أن الفلسفة تهدف إلى تخليص الإنسان من المتاعب، وكما تؤكد عبارة أبيقور “يكون خطاب الفيلسوف خاوياً إن لم يساهم في شفاء ألم النفس” .
أما الأنظمة الحديثة للفلسفة فإنها تدير الظهر بشكل أو بآخر لهذا الانشغال “بالحياة المريحة”، ولكن الأثر القديم استمر إزاء الحب والمشاعر الغامضة بشكل عام والمتمثل في الحرص على رقابة النفس بعناية مطلقة في مواجهة تلك الطاقة الخارجة عن السيطرة.
ومع ذلك يبدو الحب مقاوماً لكل أشكال العقلنة، وهو ما يسمح بفهم الارتياب الذي يسببه هذا الشعور للفلاسفة. فالحب مقترن بالرثاء والحوادث الغامضة والرواسب النفسية، وكلها أمور لا تشرق عليها شمس العقل، لذلك فالحب لم يكن ليمثل موضوعاً عند الفلاسفة فيما كان موضوعا مسلياً في الأدب. وهكذا تحدث بعض الفلاسفة عن الحب بازدراء ذكوري وهاجموا كل من يرفض تحليلهم. حتى وإن كانت تلك الصورة النمطية لطيفة، فإنها ليست خادعة بما يكفي. ولا يجوز أن ننسى أيضاً أن الخطاب الفلسفي مكتوب بأياد ذكورية. ولا يستطيع أحد الجزم بما سيكون عليه الأمر مستقبلاً، إلا أن هذا هو الوضع الحالي.
باستثناء حنة أرندت وسيمون دو بوفوار لم تظهر أخريات غيرهن في حالة فلسفية خاصة. لذا فلا داعي للتعجب إذا لم نسمع في هذا الكتاب سوى صوت نصف البشر. وإذا كان الحب موضوعاً مندرجاً في إطار الفلسفة، فإن هذا يعد أمراً مسلماً به وإن كان يستحق أن يوضع موضع التساؤل.
تجدر الإشارة هنا، بالإضافة إلى ملاحظات الباحثين، إلى أن أحد النادرين من الفلاسفة المعاصرين الذين تناولوا موضوع الحب وهو آلان باديو وعرّفه على العكس من مسابقيه بأنه “نتاج الحقيقة” وخبرة ترتكز على فعل اثنين واستهلال بتحقق بلقاء استثنائي، وبالأحرى “بإعلان الحب” .
أيعني هذا أن الكثير من الفلاسفة لم يعرفوا اختبار الحب؟ كلا فيما يبدو. وتلك هي قضية هذا الكتاب. محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة. فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه.
إلى جانب رأي آخر يقول: إن الفلاسفة والكتاب هم فقط الذين لم يؤسسوا أبداً حقائق صلبة على هذه النقطة، وتعد هذه النقطة هشة وغير مدعومة بمعلومات كافية. لم يعترف مؤلف “علاقات خطرة” الكاتب دولا كلو بأساتذة له سوى روسو. ثم ذهب إلى تولستوي، مؤلف “آنا كارنينا” الشهيرة، حيث الوصف الدقيق لكيف يمكن للعشق أن يجر جمالاً طاهراً نحو السقوط في كآبة لا تنهي. كما لا يمكن إغفال انبهار شوبنهاور بيروست الذي كان ظاهرة لا مثيل لها في الغيرة والغم العاطفي. وهناك فلاسفة يرد ذكرهم في هذا الكتاب كانوا روائيين عظاماً تحدثوا عن الحب.
مثل الإلياذة الجديدة لروسو التي كانت أول بست سيللي في التاريخ، والتي أثار فيها ما تميز به عصره من مشاعر. كما أن كيركيجارد ظل يُقرأ إلى اليوم باعتباره كاتب يوميات. أما عن سيمون دو بوفوار فيمكن الجزم بأن التشريح القاسي في رواية “الضيفة” قد عرّى بشكل فارق الأخلاقيات التحررية في سان جيرمان دو بريه الباريسي الشهير، أكثر مما فعلت المشاهد الطويلة في كتابها “الجنس الثاني” .
وقد يكون من المغالطة الاعتقاد بإمكانية استخلاص اتفاق بين الفلاسفة حول مسألة الحب. فلا وجه تشابه بين الإذعان الكامل الذي أوصى به شوبنهاور، والسمو المطلق الذي نادى به روسو. منهما تياران متباينان كلياً وقد تعايشا على الرغم من ذلك. وعلى أثر فولتير ومقالته “حب” في كتاب له، نستطيع أن نجسدها باسمين رمزيين حيث قال إنه مهما يكن من يريد أن يختبر تلك المادة الفلسفية بعض الشيء، لابد أن يتأمل “المأدبة” لأفلاطون، التي كان فيها سقراط عشيقاً مخلصاً لألسيبياد وأجاثون، وكان يتحدث معهما حول “ميتافيزيقا الحب” . أما الآخرون ذوي المزاج الأقل حساسية فقد مالوا نحو لوكريس الذي تحدث عنه كما يتحدث الفيزيائي كما أكد الفيلسوف دوفيرني. إذن فهما
حقيقة أخرى تتجلى في أيامنا الراهنة، وهي أن الوجه التافه واليائس للحب يبدو وكأنه المنتصر. وهو ما صدقه الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو، المتوفى سنة 1919، من بعد ما انعدمت الفرص “لرؤية أبواب السماء السابعة تفتح” . في المجتمع المعاصر “اختزل الحب في العدم” . من الذي أضفى العتمة على أنوار الإيروتيكية الإغريقية إلى هذا الحد، وألقى بالحب في دهاليز التاريخ الخلفية؟
ومع نزعة الاختزال العلمي في الأزمنة الحديثة، فرض الانفصال بين الحب الجسدي والحب الروحي نفسه، وفقا لما أكده أدورنو، حيث متعة أعضاء الجسد من ناحية، والتهيئة العاطفية من ناحية أخرى. ثم أضاف: “إن هذا الانفصال الذي (مكنن) المتعة وشوه العاطفة بوصفها خديعة، من شأنه أن يصيب الحب في مركزه الحيوي” . فجسّد من جديد خطيئة الماضي في الصورة التالية: “إنسان عملي وتواصلي يطبق إيمانه بفضيلة العادات الصحية وممارسة الرياضة حتى في حياته الخاصة” . أصبح الحب شأناً فيزيولوجيا بحتاً.
قل لي كيف تحب أقل لك من أنت. هناك العديد من أنواع الحب: الاستلاب المقيد الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع، مما يتيح عينات استعراضية لكل تلك السلوكيات. هل ينبغي ونحن نتأمل مذاهبهم أن نمزج معها جرعة الأسرار المعروفة؟
وإذا لم يكن الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر فيلسوف الحب، فهل كان جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي هو هذا الفيلسوف؟
يكتب كارل ياسبرز ذات يوم أن فلسفة هيدجر “بلا حب، لذا فإن أسلوبه غير محبب” . ولكن هيدجر عاش مغامرة عاطفية مكثفة مع حنة أرندت التي كانت تلميذته في جامعة ماربورج. أما هو فحين تحدث عن هذه العلاقة في العلن للجمهور، فقد قال عنها إنها كانت الأكثر ملاءمة لحياته، واعترف أنها كانت ملهمته وكانت تبث “الفكر العاطفي” في كتاباته. ولن يطرأ تغير كبير على الانجذاب الدائم في هذه العلاقة التي جمعت بين “اليهودية المتشردة” و “عصفور الغابة السوداء” على الرغم من تعاطف هذا الأخير مع النازية. ولم يكن أحد ليتنبأ في بداية هذه العلاقة حول الشكل الأسطوري الذي ستتحول إليه فيما بعد، وهي التي جعلت من مفكر الأنطولوجيا الجديدة (علم الوجود) فيلسوفاً عاطفياً يحتل مكانة إلى جانب أفلاطون وروسو..
هذا عن هيدجر. أما سارتر فكان نموذجا آخر وبخاصة في علاقته بسيمون دو بوفوار التي أنشأ معها نوعا من “ثنائي ثوري معدني” كما قالت الروائية دوريس ليسينج، وبدت لها دو بوفوار”أشبه بامرأة” في حين بدا لها سارتر “أشبه برجل” .
وترى الباحثتان مؤلفتا هذا الكتاب: ولكن إذا نفينا الأصالة عن ارتباط سارتر وامرأته سيمون “السارترية العظيمة” نكون قد أطلقنا عاصفة تفوق ما أطلقته التسويات في الماضي حين وصفوهما كزوجين من العشاق نجيا بأعجوبة من التآكل التقليدي. “زوجان من الكلمات والأفكار المتبادلة” تلك كانت العبارة التي كتبتها دو بوفوار عن طيب خاطر لمعجبة شابة كانت تبحث عن مغزى علاقتها بسارتر. سريعاً أصبحت علاقتهما علاقة عقلية بحتة، وإخلاص صلب لا يخلو من حنان جارف.
وفي الكتاب أن بالإمكان وصف علاقة سارتر وسيمون دو بوفوار بأي شيء ما عدا أنها كانت صاعقة حب. وأكدت مرة أن ما بينها وبين سارتر هي السعادة” !
ولكن المؤلفتين سيئتا النية فيما يتعلق بجوهر ما ربط سارتر وسيمون: “كان اتفاقهما متراساً لمواجهة العذاب العاطفي. هل يمكن أن نرى فيه حباً ميتاً ومتحنطاً ليحتفظ بشكله الخارجي، تحول في عمقه إلى مجرد صداقة تستطيع بهذه الكيفية أن تستمر وسط الشفافية؟ أن يشكلا “نحن” ، ويصدرا هذه البداهة التي لا تتغير مثلها مثل مومياء، ويتلاعبان حتى يجدا نفسيهما أمام فشل الحب الذي يُعاش فعلياً.
وتحت عنوان: “حياة وموت من أجل الرومانسية” يروي الكتاب حكاية الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مع الحب” “لابد أن نمر بالحب، وأن نشذب نتوءاته مستخدمين الطاقة الفياضة التي تنبعث منه. من هنا تولدت محاولات تخطي اليوتوبيا والذهاب أبعد من ذلك عند روسو على إثر ملاحظة الوقائع الناتجة عن الحب. كتب رامبو في كتابه “فصل من الجحيم” “لابد من ابتكار الحب من جديد” . هذا ما اجتهد روسو ليطبقه بدأب حقيقي، بخاصة في نهاية كتابه (إميل)، الكتاب الذي أُعجب به كانط إعجاباً فائقاً.
لم يكف روسو من الإشارة إلى خيالية الحب، وعلى الرغم من كون الحب نابعاً من الخيال، إلا أن آثاره واقعية تماماً. “الحب ليس إلا وهماً. إلا أنه يحوي حقيقة واحدة تتمثل في ما يولده فينا من شعور بالجمال الحقيقي الذي يجعلنا نحب..
أما نيتشه فعلى الرغم من كون تجربته ضئيلة للغاية، فقد أطلق على نفسه لقب أول عالم نفسي بالمؤنث الخالد. أثار هذا التأكيد حفيظة نسويين كثيرين هاجمهم بعنف في مجمل كتاباته.
الفلاسفة إذن، وليس الشعراء وحدهم، في كل وادٍ يهيمون، ولكل منهم رؤيته الخاصة لهذا الزائر الغريب الذي كثيراً ما يدخل حياة الناس فيحولها إلى نعيم أو إلى جحيم!
______
*الراية

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *