قاربٌ مطّاطيّ، زورقٌ خشبيٌّ مثقوب


*أدونيس


– 1 –
يأخذ البحر. في قاربٍ مطّاطيّ. في زورقٍ خشبيّ شبه مثقوب. بين أحضان موجةٍ هي نفسها لا تعرف أين تمضي. أهذه هجرة؟ أهذا مَنفى؟ أم هو شيءٌ بينهما؟ أم شيءٌ آخر لا يعرف كيف يسمّيه؟
البحرُ يرجّ الدروب، ويبلبل المخيِّلة، ويعقل اللسان.
يصرخ صامتاً، ويمضي.
– 2 –
هل كان موجوداً حيث وُلِد وترعرع؟ ما جذورُه، ومن أين تنحدرُ هي نفسُها؟ أيقول بما تقوله الجماعة؟ أهو فردٌ لا يزال يبحث ويسأل؟ من هو؟ في الجواب الذي يبدأ به ومنه ما يحدِّد وجهتَه. ويحدّد المكان الذي يظنّ أنّه سيؤاويه.
يتأوّه صامتاً، ويمضي.
– 3 –
ما ثقافتُه؟ ثقافةُ غَزْوٍ وفَتْحٍ؟ ثقافةٌ رَعَويّة؟ ريفيّة؟ مدنيّة؟ ثقافةُ هجرة؟ أم أنّ جسمه مزروعٌ كأنّه شجرة راسخة، والهجرةُ نوعٌ من الموت لأنها اقتلاعٌ من جذوره؟
هجرةٌ يتمّ فيها الانفصال عن وسَطه، عن مسقط رأسه. عن التراب الذي مسّتْه قدماه للمرّة الأولى. هل في التراب الآخر الذي ستمسّه قدماه ما يعوِّض؟ أهو إغراءٌ بالحياةِ الفُضلى؟ وكيف ستكون هويّتُه فوق هذا التراب الجديد – وهل ستمدّ جذورَها في أعماقه، أم أنه سيكتفي بأن يلبس السّطْحَ؟
يلبس السّطح؟ أي أنه لن يحدث قطيعةً مع جذوره. أي أنّه سيعيش أفقيّاً. لا هناك ولا هنا. شجرةٌ بلا جذور، ينتظر يَباسَها ورقةً ورقةً، غصناً غصناً. يعيش في انتظار الموت – الهجرة الأخيرة التي سيقوم بها هذه المرّة، غصباً عنه.
– 4 –
هل سيكون لديه الوعي الذي يدفعه لكي يتساءل: ما الجماعة، ما الأمّة، وأين هو منهما الآن، في هجرته بعيداً عنهما؟ وأين هما منه في استمرارهما بدونه؟
هل سيكون لديه الوعي الذي يدفعه لكي يتساءل : ما الوحدة؟ ولكي يشعر أنّ له ذاتيّة خاصّة، وأنّه يعيش مستقلاً؟ وأنّ الجماعة والأمّة من ألفاظ اللغة، والعادة، والتقليد، لا من ألفاظ الكينونة والحياة؟
هل سيكون لديه الوعي لكي يتساءل: لماذا هاجر؟ ما الأسباب التي أجبرَتْه على الهجرة؟
الطّمَع في حياةٍ أكثر طمأنينة، أو أكثر غِنى بفرص العمل؟
ازدراءُ وطنه ونظامه، سياسةً وقوانين وثقافة؟ أو وراء هجرته اضطرابٌ بيئيّ، أو سياسيّ أو اقتصاديّ، أو تاريخيّ؟ أم هو مجرّد رفضٍ لشروط الحياة والعمل والفكر في بلاده؟
– 5 –
هل هاجس البقاء، مجرد البقاء، هو وحده الذي يكمن وراء هذه الهجرة؟
– 6 –
لكن، ما تكون العلاقة بين الهجرة إلى الخارج، والهجرة في الدّاخل، داخل الذّات؟
فهناك هجرةٌ أخرى في قلب الإقامة – في الوطن ذاته، البلد ذاته، البيت ذاته، الحقل ذاتِه، الطريق ذاتها.
وهي الهجرة الأشدّ توحُّداً، وانقطاعاً، وقطيعة، والأبعدُ إيغالاً في المرارات من كلّ نوع.
لهذه الهجرة عالمُها الآخر، الفريد. ولكلّ فرْدٍ فيها، عالمُه الخاصّ، مفرداتُه الخاصّة داخل هذا العالم الآخر الفريد.
الإسلامُ كلُّه يؤرِّخ لوجوده كلِّه بالهجرة.
هناك أيضاً هجرة داخل الفرد ذاته – هجرة الفرد داخل جسمه، من نفسه إلى نفسه، بما هو الآن إلى ما سيكون غداً. ممّا هو، هذه اللحظة، إلى ما سيكون في اللحظة التي تليها.
إنه الوجودُ ذاتُه، وجود الفرد، حركة دائمة من الهجرة بدءاً من الرّحم التي هبط منها وانتهاءً بالقبر الذي سيهبط فيه، في وداعٍ أخيرٍ لنفسه وللعالم.
تقلُّبات العمر في تدرّجاته من الولادة إلى الموت هي أمكنةُ هذه الهجرة، أو هذا المنفى. والمشاعر والأفكار التي ترافق هذه التقلّبات أو تنشأ عنها براهين هذه الهجرة أو هذا المنفى. كلّ فردٍ يعيش في هجرةٍ دائمة داخل جسمه، وداخل نفسه. يخرج من «هويّته» الرّاهنة، إلى هويّته «الآتية». يُعلِن دائماً نوعاً من الحِداد على زوال «هويّته» – ذكرياته وأيّامه الماضية، وعلى غيبوبتها وظهورها في «هويّةٍ» ثانية، لها ذكرياتها وأعمالها وأفكارها. هكذا في تواصُلٍ خلاقٍ أو تقليديّ، تبعاً لصاحبها، حتّى الموت.
ألا يبدو في هذا كلّه أنّ الإنسانَ هو نفسُه مَنفى، وأنه هو نفسُه مهاجِرٌ دائمٌ داخلَ هذا المنفى؟
ألا يبدو أيضاً أنّ وجود الإنسان هو نفسُه هجرة، وهو نفسه منفى؟
– 7 –
للهجرة علاقةٌ مع الماضي هي علاقةُ الانفصال والابتعاد. لكن ما تكون علاقتها بالمستقبل؟ يبدو أنّ الحاضرَ ليس إلا جسراً متحرِّكاً للقدمين النّحيلتين، التائهتَين: قدمَي الهجرة.
– 8 –
للهجرة زمنٌ خاصّ داخل الزّمن. أو لِنَقُلْ، الهجرةُ هي نفسُها زمنُ نفسها. والمُهاجِرُ يبقى بعد المُهاجَرَة، ويحاول، لكي يعيش، أن يدخل في زمن الآخرين. كأنّه يبدأ حياته من جديد، بشروطٍ يتعرّف عليها ويتكيَّف معها رويداً رويداً. «يبتكر» هويّةً جديدة. ويبتكر طرُقاً جديدة لفكره وعمله وحياته.
لكن ليس سهلاً أن يبدأ.
– 9 –
ليس سهلاً أن يبدأ:
– أهو موقنٌ بمن هو؟ بما يَرثُه من تقاليد وقيَم وأفكار؟
– ومَنْ هم أسلافُه؟ دينيّون؟ عرقيّون؟ ثقافيّون؟ أم هؤلاء جميعاً،
وكيف؟
– هل يقدر أن يمحوَ ماضيه الذي كان يحمله في حياته قبل الهجرة، أم أنّه لا يستطيع أن يتخلّى عنه؟ وكيف يتعامل معه وهو، بعد الهجرة، في مجتمع ليس مجتمعه، وثقافةٍ ليست ثقافته، وقيَمٍ ليست قيَمَه؟
نعم، ليس سهلاً على المهاجر أن يبدأ حياته في الهجرة.
-0 1 –
هل تعلِّمنا الهجرة أنّ الكينونةَ والعدم لحظةٌ فكريّةٌ واحدة في حياة الإنسان؟
– 11 –
الهجرةُ بدايةٌ وتأسيس، وهي في الوقت نفسه
اقتلاعٌ ونهاية.
الهجرة هي، إذاً، غيابٌ في قلب الحضور. لكنها حضورٌ في قلب الغياب. ذلك أنّها مقاوَمَةٌ للعدم، ومغامرةٌ في بناء حياة جديدة في عالَم جديد.
ولئن كانت سلطة الشعور بالمستقبل، بحضوره القريب المباشر، هي الشكل الأعلى لسطوة الوجود، فمن الممكن القول:
ما أتى غروب.
والإنسان كائنٌ في الشّروق.
الترحُّل، الاغتراب، الهجرة، تجديدٌ دائمٌ للوجود: يقول أبو تمّام.
– 12 –
تكون الهجرة في أوج عبثيّتها عندما تسبّبها حروبٌ تدور داخلَ أنفاقٍ ضخمةٍ بلا نهاية، ولا تكون الانتصاراتُ فيها إلا أشكالاً من التقدُّم داخل الأنفاق ذاتها وفوق الأنقاض والجُثَث.
هذه حروبٌ «روائيّة». والرّوايةُ فيها سردٌ هجائيّ أو مَدْحيّ، بحسب الحالة. والحبرُ دمٌ خالصٌ.
هل تدخل الحروبُ العربيّة في قاموس تلك الحروب؟ وفي أيّ قاموس تدخل الهجرة العربيّة؟
-13 –
إنّها هجرة الواقع. لكنّها أيضاً، وعلى نحوٍ أكثر استبصاراً، هجرة الممكن المُحتمَل. وهي تعني رفضاً للسياسةِ العربيةِ أنظمةً وطرائقَ حكمٍ وتفكير، وتعني كذلك، وربّما قبل ذلك، رفضاً للبقاء على أرضٍ لم تستطِعْ أن تتخلّصَ من العنف الوحشيّ الذي ترثه، علاقاتٍ وثقافةً.
إنّها هجرة الحيطة والحَذَر. هجرة التعلّق بالمستقبل، والإيمان به.
وهي، إذاً، هجرة من الأرض ذاتها، تراباً وشجراً، حقولاً وينابيع، شمساً وفضاءً، حاضراً ومستقبلاً.
هكذا لا يهاجر الفرد، وحيداً. يهاجر بوصفه عائلة: أباً وأمّاً وأطفالاً. يُلقى بالأطفال أيضاً، دون إرادةٍ منهم ودون وعي، في مجهول غامض ومتوحّش هو أيضاً، لكنّه أقلّ احتمالاً – عدا أنّه يتضمّن وعداً، ولو افتراضيّاً. أو لنقُلْ باللغة التقليديّة: ليس وعيداً كما هو الواقع، بل هو وعدٌ، كما يقول المُمكِن.
هجرة تحوِّل الموت شبه المؤكَّد، إلى موتٍ مُحتَمَل، يظلّ أقلّ يقينيّةً من الواقع.
تبّاً لهذا العالم،
ما دون الإنسان فيه هو الذي يحكم الإنسان، وهو الذي يقرِّر المصير.
كم هي، إذاً، عقيمةٌ هذه الأرض التي وُلِد فيها وينتمي إليها! كم هو الإنسانُ فيها شقيٌّ وملعون!
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *