* قراءة: عاصف الخالدي
خاص( ثقافات )
قراءة فنية في المجموعة القصصية: بيضة على الشاطئ لمؤلفها: *شريف صالح
لا بد أن النص الإنساني، الذي لا يزول، هو النص الذي يمثل وظائف الحياة نفسها، يطرح الأسئلة، يتأمل الوجود، ويستمر في الحفر، لا ليجد، بل ليضعنا أمام تصورات جديدة، وليكشف لنا المدهش والعميق الذي يفلت منا في خضم حياتنا اليومية، ليتأمل مرورنا اليومي من ذات الطرق، دون أن نفكر ربما، بتغييرها يوماً ما، ولأن الفن وحده يأخذنا لمناطق أبعد في هذا العالم، فقد اخترت أن أقرأ هذه المجموعة الجميلة التي تمت للإنسان بصلة عميقة وواعية.
عنونَ شريف صالح مجموعته بعنوان: بيضة على الشاطئ، لفتني العنوان الذي بحثت عنه بين صفحات المجموعة في قراءتي الأولى لها، لكنني لم أجده، تغيرت هذه النظرة بعد القراءة الثانية، فمن سيلتفت إلى بيضة على الشاطئ، ومن لن يلتفت. من سيلتفت إلى ما سيدور بعد الحكاية، من تأويل وانتباه، فبين سطور المجموعة قصص تستمر بعد انتهائها!
يتناول شريف صالح أماكنه القصصية، وشخوص أحداثه من بيئات مختلفة ومتنوعة، فمن عالم القرية، إلى زحام المدينة، إلى شخصية هي بحد ذاتها مكان الرواية وزمانها، بحيث إن القصة كلها تدور في الداخل، في نفس واحدة. هذه المرونة والقدرة على التنويع، تنم عن مخيلة واسعة وعن احتكاك عميق مع ظروف العيش اليومية في أماكن مختلفة وأزمان مختلفة. تجعل المؤلف يمتلك مخزوناً كافياً يغذي به عالمه القصصي،و تعطيه مجالاً رحباً للتجريب، وتغيير الأنماط القصصية المعتادة إلى أنماط أكثر قدرة على الإدهاش والإمتاع.
في قصص المجموعة البالغ عددها ثلاث عشرة قصة، ينحى شريف صالح إلى الخط على البياض، مستخدماً اللون الأبيض كمفتاح يتكرر ذكره في عدد من القصص، جاعلاً منه مادة أولى، لون شعر، أو رجلاً يرفل في ثوب أبيض، أو فرساً بيضاء، كلها مساحات في داخل الإنسان، أو حوله، تتلون لاحقاً، في إعادة لتشكيل صورته، في صراعه مع المكان ومتعلقات الذات، بينه وبين نفسه، وبينه وبين المجتمع، معالجاً إياها بعمق، مستخدماً المفارقة أحياناً، والسخرية أحياناً أخرى، طارحاً الأسئلة، أو مشيراً إلى صراع الهوية، الذي تخوضه شخصيات قصصه، صاحبة الصلة العميقة بقصصها التي تمتد من فضاء المجموعة حتى تتصل بالحياة لترتبط بها بعمق.
ففي القصة الثانية من المجموعة: ألعاب الراعي. نرى فتى يافعاً يعيش في بلدة نائية، يبدو أن الزمن فيها لا يتقدم للأمام، فتى يعيش مع أمه المريضة، في بيت ضيق لا يكاد يتسع لمرضها، يكشف الكاتب عن قلة حيلة الفتى، الذي لنقص في الوعي ربما، ولنقص في البيئة المحيطة، لا ينتظر الفرج إلا من خرافة شيخ ذي كرامات يجوب الفضاء طائراً بعباءته ووجهه الأسود الذي يشبه الشوكولا، من هذا المشهد تتكشف قدرة الفتى المحدودة على التمييز، بين حلول وهمية وأخرى عملية، حتى بلدته والناس من حوله لا يخدمون واقعه ليتقدم أو يعيش، في بلدة تحدها من جهة سكة قطار يمر فيها القطار ولا يتوقف، ومن جهة شجرات موز عجوزات يسرقهن العابرون، فهي إذن مكان لا أهمية له، يتلصص الناس فيها على حياة بعضهم، ولا ينتبهون إلى جريان حيواتهم الخاصة. لا يتعاونون، ولا يفكرون، إنهم ممثلون بهذا الفتى، ينظرون للسماء فقط، حيث المعجزات والأمطار والكنوز، التي لن تهبط يوماً. من هذا الأسلوب القصصي تتضح لغة شريف صالح التي تعتمد غالباً على الإشارة، وترك المكان ليقدم نفسه بنفسه، وترك الشخصية لتتحرك وتتفاعل دون أن تقول الكثير، فيما القصة كلها في نهاية المطاف، تشكل إصبعاً تشير إلى مشهد ما، ليتفحصه القارئ بمتعة وانتباه.
في قصة أخرى تحمل عنوان “عصر السنجة”. ولعل العنوان هنا مرتبط بعمق بمضمون القصة التي تختزل ببراعة وتكثيف مفهوم السياسة في مصر أو لربما في أي مكان آخر أيضاً، حيث تتناول الشخصية المتمثلة بالراوي، السيرة السياسية لبلال، صديقه، منذ الطفولة ومقاعد الدراسة حتى موته المفاجئ بطعنة سنجة، لكن هذه السيرة تبدأ معكوسة، تبدأ بصدمة مدهشة للقارئ، إذ يقوم المؤلف بإنهاض بلال القتيل من قبره، ليجده يطرق باب صديقه بانفعال متحمساً للعودة والمشاركة بالأنشطة السياسية التي أدت مباشرة لمقتله فيما مضى. وتستمر القصة بسرد الأحداث التي يدور محورها حول بلال، وحول وهم نتائج الفعل السياسي لشباب متحمسين، يسيرون في محاولة للتغيير فيما أن خطوط السياسات المؤثرة رسمت قبلاً، حتى أن بلال بدا منذ صعوده وحتى هبوطه للقبر مجرد دمية، والحقيقة المحزنة التي تنطق بها القصة، أن السياسة في هذا المكان لا تعدو كونها بحد ذاتها طعنة، تقتل أو تؤذي، ولا تنفع إلا أولئك الكبار الجبناء، الحاملين لمسدساتهم حتى يتساووا مع الشجعان العزَّل أصحاب الأفكار.
القصة الأخيرة التي سأتطرَّق إليها والمعنونة بعنوان “وفاة غامضة لعدو صامت”، هي قصة مشوقة تضيع فيها الحقيقة، بل إنها لا تود قول أي حقيقة أصلاً، فالقصة تتمحور منذ بدايتها حول مجموعة من الموظفين الحانقين، الذين يأتي إليهم زميلهم بخبر وفاة (أبي سعيد)، وهو زميل آخر لهم يشغل منصباً ما، ومن لحظة معرفتهم بالخبر، تبدأ القصة بالتركيز على حياة الرجل الميت، فمماته مجرد بداية للكشف عن علاقته بزملائه المحيطين، يبدو فيها أبو سعيد منبوذاً دوماً، لا يذكر إلا مرتبطاً بصفة ما، فتارة هو متآمر، وتارة أخرى يعبث مع سكرتيرته، وتارة هو منافق، بل حتى يوصم بأنه رجل لا يريده أحد، حتى المؤسسة التي يعمل بها، حتى زوجته لا تريد تحمل تكاليف نقل جثمانه ودفنه في بلده البعيد. تتسرب فقط عبارة واحدة بين عبارات الذم: إنه رجل طيب. في الواقع يمكن القول بأن كل الميتين طيبون، فنحن عادة لا نعود نحتاج منهم شيئاً بعد موتهم، ومع هذا فإن طيبة أبي سعيد تكمن بأنه غير موجود ليرد، وينفي عنه الأقاويل، على كل واحد من زملائه الذين أصروا على إبقاء علاقتهم به حتى بعد موته، وأصروا على المتاجرة بنصيبهم في كسب مقعده، الذي سيفشلون غالباً في تحصيله. يبقى ظاهراً طوال القصة أن الروايات تتعدد، فيما الحقيقة غائبة أو ميتة، وعلى الأغلب فإن أبا سعيد هو الحقيقة، التي لا يذكرها أحد طالما كانت حية، لكنها حين تموت، تكثر الأقاويل عنها، دون أن يكون هناك جواب، أوليست حياتنا هكذا، ندعي فيها تحري الحقيقة، ونرجو في ذات الوقت ألا تكون حية كي تكذبنا!
لم أتناول سوى قصص ثلاث من مجموعة جميلة وعميقة تستحق القراءة، أبدع فيها شريف صالح كقاص وإنسان، بقصص تترك أثراً مهما من الناحية الفنية والجمالية. وتجبرنا على التوقف عندها، فهي تشير إلينا لننتبه، أننا في هذا العصر، لسنا المسيطرين كما ندَّعي ربما، نحن نصنع الأشياء، وهذه الأشياء تستهلكنا، نحتمي بالمعلَّبات، بالخرافات، ولا نحاول تغيير الطريق.
شريف صالح: كاتب وصحفي مصري، حاصل على ماجستير في النقد الأدبي
صدر له: بيضة على الشاطئ: قصص (حاصلة على جائزة دبي الثقافية)
مثلث العشق: قصص (حاصلة على جائزة ساويرس)
رقصة الديك: مسرحية (حاصلة على جائزة الشارقة للإبداع العربي
*عاصف الخالدي: روائي أردني.