مذكرات طفولة.. نغوغي واثيونغو (5)




*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي




نغوغي وا ثيونغو Ngugi Wa Thiongo : كاتب كيني بارز يكتب في حقول الرواية والقصة القصيرة والمقالة ، وتتناول أعماله مساحة واسعة من الاشتغالات تمتد من النقد الاجتماعي والأنثـروبولوجيا الثقافية وحتى أدب الأطفال ، وهو من المرشحين المهمين لنيل جائزة نوبل في الأدب . سأقدّم على مدى حلقات متتالية ترجمة لجزء من كتاب واثيونغو ( أحلام من زمن الحرب : مذكرات طفولة ) الذي يعدُّ وثيقة أدبية مهمة في شكل سيرة حياتية تكشف الواقع الاجتماعي السائد في معظم المجتمعات الأفريقية في حقبة الهيمنة الكولونيالية.
المترجمة
قسّم مؤتمر برلين المنعقد عام 1885 أفريقيا إلى مناطق نفوذ بين القوى الأوروبيّة المتنفّذة ، ولكن ظلّ الألمان والبريطانيّون بعد ذلك المؤتمر خصمين لدودين يتنازعان على استعمار المقاطعات الافريقيّة الشرقيّة وضمّها تحت جناح هيمنتهما الكولونياليّة وبالطريقة التي يجسّدُها مثالان اثنان : الأوّل كارل بيترز مؤسّس شركة شرق أفريقيا الألمانيّة التي تأسّست عام 1885 ، والثاني هو فريدريك لوغارد الذي كان يعملُ بمنصب تنفيذيّ في شركة شرق أفريقيا الإمبراطوريّة البريطانيّة التي أسّسها سير ويليام ماكينيون عام 1888 ، وقد ضمّت هاتان الشّركتان المملوكتان ملكيّة خاصّة الكثير من المقاطعات إلى ملكيّتهما مدفوعتين بالإسناد المؤثّر من ( المستشار الألمانيّ ) بسمارك ، و ( رئيس الوزراء البريطانيّ ) غلادستون ، ثمّ جرى تأميم تلك المقاطعات لاحقاً وهي الطريقة الثانية للقول أنّ تلك المقاطعات أخضِعت للهيمنة الكولونياليّة ، ويمكن القولُ أنّ البلد الكولونياليّ الأمّ عندما كان يعطسُ آنذاك كان الوليدُ الواقع في قبضة هيمنته الكولونياليّة يُصابُ بالإنفلونزا حتماً ، لذا عندما اغتال الطالب الصربيّ ( غافويلو برينسيب ) وليّ عهد الإمبراطوريّة النمساويّة – المجريّة في سيراييفو يوم 28 حزيران 1914 ، فقد تسبّب في إشعال فتيل حرب أوروبيّة طاحنة بين الإمبراطوريّات الأوروبيّة الطامحة إلى الغلبة ، وحصل أنّ قاتلت كلٌّ من المستعمرتين تانجانيقا وكينيا إلى جانب الدولة الكولونياليّة الأمّ التي تبسط هيمنتها عليها وكانت النتيجة أن دخلت المستعمرتان الأفريقيّتان في حرب مع بعضهما !! . قاد الجنرال فون ليتو – فوربيك القوّات الألمانيّة في مواجهة القوّات البريطانيّة التي كان يقودُها الجنرال جان سمتس ، ولكنّ الحقيقة الناصعة هي أنّ المستعمرين الأوروبيّين لم يكونوا هم من يتقاتلون مع بعضهم على الأرض الأفريقيّة : إذ لم تشكّل نسبة الأوروبيّين المجنّدين في القوات المتقاتلة أكثر من واحد في المائة . وعمد الأوروبيّون إلى تجنيد الكثير من الافارقة كعناصر في القوّات المسلّحة ، ومات هؤلاء الجنود الأفارقة إمّا في أرض القتال أو بسبب الأمراض والعلل الأخرى ، وكانت نسبة الموتى منهم عصية على المقارنة بأيّ حال من الاحوال بنسبة موت الجنود الأوروبيين . وفي نهاية الأمر لم يبق ممّا يذكّر بالتضحيات الجسيمة للأفارقة سوى ثكناتهم العسكريّة في كلّ من نايروبي ودار السّلام والتي تحمل اسم ( كاريوكوو ) ومعناها ( قوّات المشاة ) باللغة السّواحليّة ( السّواحليّة هي اللغة الشائعة في سواحل أفريقيا الشرقيّة وتمثّل اللغة الرسميّة في كلّ من كينيا وتنزانيا ، وتشيع فيها الكثير من المفردات ذات الأصل العربيّ ، المترجمة ) ، ولمّا كان الافارقة قد أجبِروا على الانخراط في حرب لا مصلحة لهم فيها و لم يعلموا بأيّ من جذور الأسباب التي جعلتها تندلع فقد فعل الكثير منهم – مثلما فعل والدي – كلّ ما يستطيعه لتجنّب التجنيد والقتال في تلك الحرب : كان والدي في كلّ مرّة يخضعُ فيها للفحص الطبّي اللازم قبل التجنيد يمضغ بضع وريقاتٍ من نبتةٍ معروف عنها أنّها تتسبّبُ في رفع درجة حرارة الجسم إلى حدّ باعث على الخطر ، و لكن على أيّة حال ثمّة رواية أخرى تقول أنّ الرجل الأوروبيّ الذي كان يستفيد من خدمة والدي في منزله لم يشأ أن يخسر تلك الخدمة فعمل على إبعاد والدي عن المشاركة في الحرب .
استناداً إلى الحادثة التأريخيّة الخاصّة بإفلات والدي من التجنيد في الحرب وكذلك إلى الشريحة العمريّة التي انتمى إليها أستطيعُ أن أخمّن بأنّ والدي أبصر الحياة في الفترة الممتدّة بين 1890 – 1896 : تلك السنوات التي بسطت فيها الملكة فكتوريا هيمنتها الإمبراطوريّة – من خلال رئيس وزرائها ( روبرت سيسل Robert Cecil ) الذي كان الماركيز* الثالث لمنطقة سالسبري – على مناطق شرق أفريقيا وأعلنتها محميّات بريطانيّة ، وكان البرهان المباشر على قوّة التأثير البريطانيّ بعد إعلان المحميّات هو المباشرة بإنشاء خطّ سكّة حديد أوغندا الذي كان ينطلقُ من كيلينديني في مومباسا وهي السكة الحديديّة ذاتها التي سار عليها الوحش الذي رآه والدي ينفثُ ناراً ودخاناً عندما كان يزمجر هادراً فوق السكّة الحديديّة .
كانت نايروبي – حيث يعمل والدي – نتاجاً مباشراً للتغيير الذي حصل بعد إكمال إنشاء السكّة الحديديّة لانّها سهّلت تنقّل المقيمين البريطانيين البيض وجعلتهم يرون مناطق ما رأوها من قبل في القارة الأفريقيّة ابتداء من عام 1902 وما تلاه من سنوات . بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى و توقيع معاهدة فرساي بباريس في حزيران 1919 كوفئ الجنود المقاتلون السابقون في تلك الحرب من البيض وحدهم بأراضٍ أفريقيّة كان يملكُها جنود أفارقة أحياء شاركوا في الحرب ذاتها !! وتسارعت منذ ذلك الحين عمليّات سلب ملكيّة الأراضي وأعمال السّخرة والتأجير الإجباريّ لصالح الوافدين البيض الذين صار الافارقة يدعونهم ( مُحتلّي الأراضي ) ، وكان مستأجرو الأراضي من البيض يوفّرون عمالة رخيصة و يبيعون محاصيلهم إلى المالك ( لورد الأرض ) وبالسعر الذي يحدّده هو كمقابل لاستئجارهم تلك الأراضي . لقي المقيمون البيض المدعومون من لوردات الأراضي مقاومة من قبل الأفارقة ، وكانت حركة المقاومة الأشهر هي التجمّع الأفريقيّ الشرقيّ East African Association الذي تأسّس عام 1921 . 
شكّلت منظّمة التجمّع الأفريقيّ الشرقيّ المنظّمة الأفريقيّة السياسيّة الأولى التي تأسّست في القارة الافريقيّة وقادها ( هاري ثوكو Harry Thuku ) الذي داعب مخيّلة جميع الكادحين الأفارقة – وبضمنهم والدي – : فقد وجدت الطبقة العاملة الأفريقيّة في ثوكو مُعبّراً عن صوتها في الوقت الذي استحالت فيه تلك الطّبقة قوّة اجتماعيّة مؤثّرة على مسرح أحداث التأريخ الكينيّ ، وصار والدي منذ ذلك الحين جزءا من تلك الطبقة . صاغ ثوكو علاقات مميّزة لحركته مع كلّ من حركة ( ماركوس هارفي ) القوميّة العالميّة السوداء غرباً في القارّة الأمريكيّة ، ومع حركة ( غاندي ) الوطنيّة الهنديّة شرقاً ، وكانت نشاطات ثوكو تخضع على مدار الساعة لمراقبة البوليس السرّي الكولونياليّ وتُناقشُ في أعلى دوائر صنع القرار الكولونياليّة البريطانيّة في لندن لأنّها كانت تعدُّ تهديداً مباشراً للسلطة البيضاء . دعا كلٌّ من ( غاندي ) و ( ثوكو ) إلى العصيان المدنيّ بذات الوقت تقريباً في كلّ من بلديهما ، ولأجل قطع صلات الأفارقة مع الحركتين الوطنيتين ( الغانديّة ) و ( الهارفيّة ) فقد اعتقل البريطانيّون ثوكو في آذار 1922 ونفوه إلى كيسمايو ( الواقعة اليوم ضمن ما بات يعرف بالصومال ) التي رزح فيها تحت نير إقامة شاقة لسنوات عدّة ، وربما يكون من قبيل المصادفة الخالصة – وإن كانت مصادفة مثيرة في الوقت ذاته – أن يُعتقل غاندي في 10 آذار 1922 بعد بضعة أيّام فحسب من اعتقال ثوكو . تفاعل العمّال الأفارقة مع خبر اعتقال ثوكو وخرجوا في مظاهرات جماعيّة صاخبة أمام محطّة البوليس المركزيّة في نايروبي ، وتضافرت جهود الشرطة مع جهود المقيمين البيض ( الذين كانوا يحتسون البيرة والنبيذ على شرفات فندق نورفولك ) في إطلاق النار على المتظاهرين فقتلوا 150 منهم و بضمنهم واحدة من القادة النسويّات تدعى ( نيانجيرو موثوني ) ، ولا أعلمُ إن كان والدي قد شارك في تلك التظاهرات الجماعيّة ولكنّه استجاب حتماّ للدعوة اللاحقة بالإضراب العامّ لعمّال الخدمة الذين كانت الطبقة البيضاء الأرستقراطيّة تعتمد على خدماتهم المنزليّة بالكامل . غادر والدي نايروبي عقب تلك التظاهرات والإضرابات تفادياً لتبعات الفوضى السياسيّة و بالطريقة ذاتها التي تفادى بها وباء الطاعون من قبل وكذلك التجنيد الإجباريّ ، و اختار والدي التوجّه نحو أخيه الذي كان مقيماً في ليمورو الريفيّة حيث السّلام والأمن .
تركت نايروبي آثارها على والدي المُرتحل : فقد كان تعلّم بعض المفردات والعبارات الإنكليزيّة أثناء عمله في الخدمة المنزليّة لدى الأرستقراطيّ الأوروبيّ ، كما تمكّن بواسطة المال الذي ادّخره لقاء خدمته تلك أن يشتري بضع بقراتٍ وعدداً من الماعز والتي توالدت مع الوقت و صارت قطيعاً من الأبقار والماعز ، وعندما غادر والدي العاصمة كان بمعيّته قطيعٌ معقول العدد وساعده أخوه في إعالة ذلك القطيع . حصل لاحقاً أن اشترى والدي قطعة أرضٍ في ليمورو من ( نجامبا كيبوكو ) ودفع نظيرها عدداً من رؤوس الماعز كثمن معقول لها طبقاً للنظام التقليديّ القائم على الاتّفاق الشفاهيّ بين البائع والمُشتري في حضور شهودٍ ، ثمّ حصل لاحقاً أن باع نجامبا أرض والدي ذاتها إلى لورد الأرض ( ستانلي كاهاهو ) أحد أوائل المتحوّلين إلى المسيحيّة وأحد رافعي لواء البعثة التبشيريّة لكنيسة إنكلترا في كيغويو ، ثمّ جرى تسجيل تلك الأرض تبعاً لبنود النظام القانونيّ الكولونياليّ بوجود شهودٍ ووثائق بيع تحريريّة موثّقة ومُوقّعة . هل كان رجل الأخلاقيّات الدينيّة المحترم كاهاهو يعلمُ أنّ نجامبا باع الأرض ذاتها مرتين : مرّة لقاء بعض رؤوس الماعز إلى والدي ، وثانية لقاء مال سائل إلى كاهاهو ؟ بصرف النظر عمّا كان يعلمه المحترم كاهاهو عن ذلك الأمر فإنّ البيع المزدوج للأرض خلق حالة متوتّرة من الشدّ والجذب المستديمين بين الطرفين المُدّعيين لملكيّة تلك الأرض : والدي والسيّد المحترم كاهاهو .
________
هوامش المترجمة
* الماركيز Marquess : رتبة بريطانيّة نبيلة تقع في مرتبة أعلى من إيرل Earl و أدنى من دوق Duke.
_______
*المدى

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *