*محمد الحمامصي
راجت مؤخرا العديد من الروايات التاريخية وباتت الأكثر إغراء سواء للقراء أو للكتاب أنفسهم نظير ما تمنحه هذه الروايات من قراءات جديدة لتواريخ تالدة في لعبة تحديث لأحداث مضت دون المساس بجوهرها أو حقيقتها، إذ باتت الروايات التاريخية أهم ما يمكن أن يؤرخ للإنسان كبديل عن كتب التاريخ الجافة. “العرب” التقت الروائية ديمة الدروبي في حديث حول روايتها التاريخية “سلطانة القاهرة”.
تدور أحداث رواية “سلطانة القاهرة”، الصادرة بالفرنسية للكاتبة السورية الفرنسية والقاطنة في المغرب العربي ديمة الدروبي، حول حياة شجرة الدر، المرأة التي حكمت مصر في القرن الثالث عشر، من خلال آخر يومين في حياتها، وفق مخيلة الكاتبة، مستعرضة حياة الحريم وقدرتهن وتأثيرهن في الحكم الذي حقق لشجرة الدر انتصارها على الحملة الصليبية السابعة التي قادها الملك لويس التاسع، حيث أخفت بحنكتها وفاة السلطان حفاظا على وحدة الجيش المصري ومعنوياته في مقاومة الغزوة، وانتصاره عليها.
امرأة مستحيلة
تؤكد الدروبي على إحياء شجرة الدر، المرأة القوية وإرادتها الحديدية دون المساس بأنوثتها وأنها كانت في ذلك تتبع نصيحة الكاتبة المرموقة فاطمة المرنيسي التي كتبت كتاب “سلطانات منسيات”، مشددة على دور المرأة العربية نفسها في إحياء ذاكرة النساء الخارجات عن المألوف في تاريخنا وإيصالها إلى العالم والأجيال الجديدة. وتقول الدروبي إن “نمط الرواية التاريخية يسمح بإحياء الأحداث التاريخية وتمريرها إلى الجمهور بطريقة مسلية وسلسة. إنها وسيلة لهواة هذا النوع من الروايات للعيش لفترة مع أبطال الرواية والإحساس بتفاصيل حياتهم وقراراتهم والثمن الذي يكابدونه”.
وما يثير الانتباه في تلك الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية، أن الجواري اللواتي كن يتسابقن لصحبة كبار الأمة كن يحصلن على قدر من التعليم تقريبا كالرجال، لأن السلاطين والأمراء كانوا يقدرون صحبة المرأة الذكية وليست فقط الجميلة. ومؤكّد أن شجرة الدر حصلت على قدر من التعليم، وهذا الشيء غذى طموحها واعتدادها بنفسها، وساعدها على تحقيق رغبتها في الاستئثار بالحكم لنفسها دون وساطة رجل، مما أثار الكثير من المقاومة والجدل لكون هذه المرأة أرادت أن تحطم فعليا حائط الحريم والخروج بمؤهلاتها إلى الفضاء العام.
وتعاملت الدروبي مع شجرة الدر كصديقة تريدنا أن نتعرف عليها وعلى قصتها، وأن نعيش معها في آخر أيامها دون إطلاق أحكام على سيرتها وعلى خيارات امرأة
استطاعت في القرن الثالث عشر أن ترتقي من دور جارية تباع وتشترى إلى دور حاكمة وقائدة جيوش، وسلطانة تتمتع بمقاليد الحكم كما الرجال.
وعن رواية “سلطانة القاهرة” وفكرتها تقول الدروبي “فكرة الكتابة عن شجرة الدر جاءتني خلال فترة إقامتي بباريس، ففي ذلك الوقت كنت أقرأ الكثير من الروايات التاريخية الأوروبية التي تعرفنا بالتاريخ عن طريق قصص مشوقة، وكنت دائما أفضل الشخصيات النسائية الشجاعة، القوية والطموحة.وقعت في ذلك الوقت على كتاب ‘سلطانات منسيات’ لفاطمة المرنيسي وعند قراءة دعوتها إلى النساء العربيات لإحياء ذكرى النساء القويات وكون هذه المهمة خاصة بهن، لأن لا أحد غيرهن سيهتم بالموضوع. وجدت هذه الدعوة في نفسي صدى ورغبة قوية وموجودة أصلا لتلبية هذا النداء. وهكذا عادت شجرة الدر للظهور في حياتي بعد أن كنت قد قرأت عنها في صغري من خلال كتب التاريخ ورواية جرجي زيدان، ومن الواضح أن مسارها قد ترك الأثر الكبير في نفسي الغضة كمثال عما يمكن أن تحققه امرأة قادرة وواثقة من نفسها”.
وتشير الكاتبة إلى أن سبب اختيارها كتابة رواية تاريخية هو أنها بعد أن تمعّنت وأعجبت بالكيفية التي يسلط بها الغرب الضوء عن طريق الروايات على مسار النساء في التاريخ، وعلى حياتهن وقدراتهن ويتقبّل مسارهن دون إصدار أحكام أو استخلاص عبر، عدا أنهن حاولن إدارة حياتهن بأحسن طريقة، كل واحدة طبقا لظروفها الخاصة. لذا أرادت الدروبي تطبيق هذه الفكرة على نساء من الحضارة العربية الإسلامية، حيث تقول “كما نلاحظ في الغرب هناك كتابات عدة بأقلام متعددة عن نفس الشخصيات مما يساهم في بقاء الذاكرة وتعدد وجهات تقديم العصور والشخصيات المؤثرة فيه. إن كتاب جرجي زيدان بالعربية وكتابي بالفرنسية وهو موجه للفرنسيين وللأجيال الجديدة من العرب وأصحاب الأصول العربية، وأيضا للمتمكنين أكثر من اللغة الفرنسية، والذين أصبحوا قليلي الاطلاع على التاريخ العربي الإسلامي”.
وتضيف “إن مسيرة شجرة الدر بالنسبة إليّ مثال على ما يمكن أن تنجزه امرأة متعلمة وواثقة من نفسها. حكمت 80 يوما نعم، ولكن الـ80 يوما هي دلالة على تحقيق شجرة الدر للمستحيل: امرأة مستأثرة بالحكم المطلق بشكل علني ودون وساطة رجل ووصولها إلى حيث وصلت قلة قليلة من النساء في عهدها أو قبله وبعده وإن وصلن، فلا تزال ذكراهن مطموسة”.
شخصية عميقة
تؤكد ديمة الدروبي أنها اعتمدت على المصادر التاريخية والتراث المتناقل عن شجرة الدر في كل مرة كقاعدة لبناء معالم شخصيتها ورسم الأحداث الخاصة التي تميز روايتها. وتقول “برأيي شجرة الدر كما هي في روايتي لا تزال لها علاقة كبيرة بما قرأناه عنها في تراثنا التاريخي، وبالتأكيد أكثر من الأفلام القديمة والمسلسلات التي تذكرها. وحتى في رواية جرجي زيدان نجد شخصيتها محدودة بكم صفة ظاهرية كحب السلطة والتعلق بأيبك والتلاعب به، بينما أنا أحاول أن أعطيها أبعادا أخرى وعمقا شخصيا يسمح بإحيائها والتعرف عليها، والتعاطف معها كأي امرأة ذكية ذات شخصية إنسانية معقدة وعميقة، وليست سطحية وفارغة وذات أبعاد محدودة”.
وضربت الدروبي مثلا بما حققته شجرة الدر عندما أخفت وفاة السلطان الصالح أيوب خلال الحرب ضد الصليبيين، ويمكن أن يوصف ذلك بالدهاء أو استراتيجية لتحقيق طموحها في الحكم والاستئثار بالسلطة من بعده، ولكن ضيفتنا رأت في روايتها أن هذا العمل أيضا حب للوطن ورغبة في صيانته من الغزاة.
إذ تشير إلى أن أفعال بطلتها فيها تحمل للمسؤولية ونضج سياسي كبيران كما أن فيهما حبا لشريك حياتها الذي أعطاها الكثير ورغبة في الحفاظ على الإمبراطورية، التي ساعدته على استعادتها وتقويتها. إضافة إلى أن إخفاءها لخبر وفاته يمثل ثقة في النفس ورباطة جأش واستعدادا طبيعيا للارتقاء إلى مستوى الحدث وإدارته لمصلحة الجميع، دون الخوف من أخذ المبادرة، ودون الخوف على نفسها من العواقب، إذ أثبتت نفسها كسيدة صاحبة موقف وفرضت سلطتها على أقوياء ذلك الزمان، من المماليك.
الخيال والتاريخ
وحول ما إذا كانت ثمة أوجه تشابه بين الفترة التاريخية التي تناولتها الرواية وبين الحاضر الآني، تقول الدروبي “لا أعرف ربما هذه الرواية هي هروب من واقع أليم نحو عالم آخر، ربما هي رد على الصورة السلبية للمرأة العربية السائدة في الصحف الغربية التي تصورها كإنسانة مظلومة مهضومة الحقوق ومخفية وراء أمتار وأمتار من القماش الذي يخفي معالمها، ويطمس هويتها ويكاد يلغي أنوثتها. هذه الصورة التي رغم أنها غير خاطئة تماما ولكنها قصيرة النظر وتلائم طريقة تفكيرهم ورغبتهم في رؤية المجتمع الشرقي، فيما تلغي أكبر جزء من النساء العربيات العاملات والفاعلات في المجتمع والمكافحات والقادرات رغم العقبات.
كما يجب ألا ننسى أيضا أن الجواري اللواتي يحضرن لإسعاد وتسلية كبار المسؤولين في ذلك الوقت، كن يحصلن على قدر كبير من التعليم يقارب تعليم الشبان، وهذا لم يكن يتاح للنساء الحرات وبنات العائلات اللواتي كان يتم إعدادهن فقط للزواج والإنجاب والاعتناء بالدار. لذلك نجد إنجازات الجواري في الكتب والقصص تتعدى إنجازات باقي النساء”.
وتتبعت ديمة الدروبي تاريخ شجرة الدر عن طريق الكتب والخرائط والمتاحف، وتوضح الدروبي ذلك بقولها “هذه رواية عن امرأة ذات شخصية قوية وذكاء حاد ونظرة ثاقبة على الحياة. رواية عن امرأة تمثل عصرها بما فيه من حسنات وسيئات، امرأة أرادت أن تكون سيدة عصرها وأن تكيّفه بحسب إرادتها.. رواية عن امرأة وثقت من نفسها وحاولت ونجحت. وعندما أخطأت وتهوّرت قبلت بتحمل عقبات أفعالها.
فالمهارة في التعامل مع الرجال هي فقط جزء من القصة فرضته الظروف وفرضه المجتمع عليها كامرأة، ولا يزال يفرض على الكثير من النساء في عصرنا هذا اللواتي يحتجن إلى المهارة نفسها لدى الرجال للوصول إلى غايتهن، لأن المجتمع بقوانينه لا يعطيهن في الكثير من الأمور الأدوات والحقوق الكافية للتقدم إذا أردن لوحدهن دون الحاجة إلى موافقة الرجال على مسارهن”.
وترى الكاتبة أن “سلطانة القاهرة” رواية لتقضية وقت ممتع وليست كتاب تاريخ، إذ تعتمد على الوقائع التاريخية المثبتة، ولكن للخيال فيها مكان كبير كما رأينا في مسلسل حريم السلطان أو في بعض الروايات بالإنكليزية، حيث يبنى الخيال استنادا إلى وقائع تاريخية. والرواية هي طريقة مسلية وسلسة سمحت لصاحبتها بعد الاطلاع على كتب التاريخ والتعمق فيها أن تضعها جانبا وتطلق العنان لخيالها لإحياء حقبة من التاريخ وامرأة تركت فيها أثرا كبيرا. لذا كانت حكاية شجرة الدر سلطانة القاهرة بحسب حساسية وخيال الكاتبة، لكن الوقائع التاريخية التي ارتكزت إليها مثبتة، أما الأحداث الخاصة بشخص السلطانة فكانت من مخيلة ضيفتنا.
متعة القارئ
تلفت الدروبي إلى أنها لم تستطع كتابة نهاية شجرة الدر كما قرأتها في كتب التاريخ. وتقول “لعلني طورت علاقة صداقة أو تعلق بشخصية هذه المرأة خلال أبحاثي عن قصتها وعالمها وتعمّقت في ذلك أكثر عندما حاولت إحياءها كامرأة عاشت وأحبت وكرهت وحكمت وقارعت الرجال وأجبرتهم على الاعتراف بمؤهلاتها بطريقة لم تتكرر عبر التاريخ. امرأة حاولت أن تسيطر على مسار حياتها، بعد أن بدأتها كجارية تباع وتشترى”.
وتتذكر ديمة الدروبي هنا أيضا أن نهاية شجرة الدر صدمتها منذ قرأت قصتها لأول مرة، لأنها تمثل الهاوية السحيقة التي يمكن السقوط فيها حتى بالنسبة إلى امرأة مثل شجرة الدر، فحوّلت الكاتبة النهاية إلى أن بطلتها قدرت على أن تقنع رجالا مغاوير وقساة مثل المماليك بأن يثقوا في قدرتها ويسلموها مقاليد الحكم، وأن تقال الصلاة باسمها، مثل السلاطين الرجال وتنقش النقود باسمها.
وتقول ضيفتنا “هذه النهاية مثلت بالنسبة إليّ عمق وقوة الغيرة النسائية ورغبة في الانتقام التي هي بلا حدود. فعلا فكرة مخيفة، ولكن لا ننسى هنا أننا بصدد رواية يختلط فيها الواقع التاريخي بالخيال والحلم، لذا سمحت لنفسي بإعطاء سلطانة القاهرة المجال لاستعادة السيطرة على حياتها ونهايتها، ذلك دون حذف للنهاية الفظيعة التي أعدتها لها أم علي.
وهكذا رواية إذا استمتع بها القارئ آمل أن يقوم بالبحث عن معلومات أكثر عن الفترة وأبطالها كما أفعل أنا عندما يشدني موضوع وأريد أن أعرف المزيد عنه”.
ومن أبرز المراجع التاريخية التي ذهبت إليها الدروبي قبل البدء في الكتابة “المقريزي، كتابات فاطمة المرنيسي في سلطانات منسيات، والجامعية عزة هيكل عن شجرة الدر بالفرنسية، وكتب عديدة عن تاريخ الأيوبيين والمماليك، وتاريخ الحروب الصليبية، وتاريخ الملك لويس التاسع سانت لويس، وتاريخ دمشق، وتاريخ القاهرة، وتاريخ مصر، وتاريخ بغداد والخلافة العباسية، وتاريخ المغول، كما زارت الأقسام الإسلامية في المتاحف”.
أما عن كتابتها الروائية بالفرنسية وعدم كتابتها بالعربية، فتقول الدروبي “أريدهم في أوروبا أن يعرفوا أن التاريخ العربي الإسلامي فيه نساء على شاكلة شجرة الدر التي حاربت مع مماليكها الملك الفرنسي المشهور جدا سان لويس وهزمت جيشه وفرسان المعبد، وأخذته رهينة وفاوضت لإعادته مقابل فدية. مع ملاحظة أنه عندما نقرأ كتبا فرنسية عن تلك الفترة لا نجد ذكرا معمقا عن شجرة الدر وإنما هو ذكر عابر جدا”.
__________
*العرب