*نداء يونس
خاص ( ثقافات )
في الطريق إلى أريحا، تطل كنيسة الخضر، المتكئة على تلة، على العابرين، ولا يراها إلا من قصد التاريخ والحكاية، حكاية الطيبة كما اسماها صلاح الدين الايوبي لطيب اهلها او عفرة أي الغزالة او افارينا في الفترة الرومانيةأاو أفارون في عهد الصليبيين أو افرام في عهد المسيح.
التلة التي تحتفظ بروحانيتها بعيدا عن المحو، ما زالت تمد يديها إلى الأرض المقشرة كالبرتقال، الأرض التي خمشتها امرأة من كنعان قبل عشرة آلاف عام باظافرها، ونبشت بحثا عن الماء المقدس في سرتها، فظهرت أريحا مدينة تحت خط القمر وفوق خطوط الارتواء
التله، أو جبل الجزة، كما تسمى، والتي شهدت أولى معجزات الرب، جزة الخروف الصوفية التي طلب الله أن توضع على المذبح وقال بإنها لن تبتل أول يوم فيما سيبتل المكان كله، وستبتل وحدها في اليوم التالي فيما سيظل المكان جافا، وهكذا صار، ما زالت تطل على خط سير المسبح، الخط الذي أجهض الاسرائيليون اقتراحا فلسطينيا بإحيائه كمسار سياحي، بينما قاموا بتنفيذ ما يسمى بمسار إبراهيم -وهذا المسار حكاية استيلاء أخرى على تاريخ وأرض من تركيا وحتى الخليل مرورا بدمشق وعمان باسم الدين.
التلة المرتفعة، التي تشرف على بريتها، عاش فيها المسيح سبعة أيام هربا من بطش اليهود في فترة دعوة المسيح تحت حكم الرومان، ما زالت تحتفظ ببقايا الكنيسة التي بنيت قبل كنيسة القيامة ومر عليها بيزنطيون ورومان وأتراك، وتشرف على موقع تشيليا الاثري، وتشيليا تعني الألف، ربما إشارة إلى ألف من الرهبان كانوا في المكان.
رممت الكنيسة كيفما اتفق، بنيت أسوار على ارضيات الفيسفساء وترك البيزنطيون فيها أساليب عمارتهم ممثلة بالممرات الثنائية المبلطة بالحجر والتي يفصلها فراغ غير مبلط، بعض أحجارها الأصلية ما زالت تُرى في الجدران فيما استخدمت أكوام الحجر التي بدت في صور للكنيسة التقطت قبل مئة عام لاحقا في بناء بيوت القرية، التي يكفي ما تبقى منها شاهدا على الرواية، وينطق مثل المسيح من الأعالي بتمجيد الرب.
ثلاث طوائف ابتنت ثلاث كنائس في الطيبة، تسمى المساحة بينها بالمثلث المقدس، وبيت افرايم الذي سمي منذ أقل من عام ببيت الامثال يقع في ملكية إحداها، بيت فلسطيني قديم عمره 500 عام، يحتوى الأدوات التي استخدمها الفلسطيني في بيته وحقله، وبني على نمط البيوت الفلسطينية في تلك الحقبة: طبقتان وخوابي ونوافذ قليلة ضيقة وعالية، وروزنا -وهي فتحة في السقف تلم الضوء- هكذا، وأنت تدخله يمكنك فهم كثير من أمثال الانجيل التي ذكرت على لسان المسيح .. هكذا يصبح إيجاد قطعه النقد التي ضاعت في منزل المرأة الكنعانية الذي يشبه هذا البيت ضربا من ضروب الجنون، أو المعجزات، وهكذا نفهم أيضا لم عندما وجده المسيح، صار معجزة ومثلا، ولم ضحكت الجرار، ويمكننا أن نتخيل كيف أُنزل الاأرص من فتحة في السقف عندما غص المكان بزوار المسيح، ليعالجه.
الطيبة ليست ملكا مختلطا، لكنها تستقبل زائريها المسلمين بحفاوة أبناء كنعان ببعضهم، ففي المكان تجد كرم الضيافة والقهوة، وفي البلدة القديمة المرممة التي لم نزرها لضيق الوقت حكايات سيرويها الصحفي سند والآباء الطيبون من هناك مرة أخرى.
خط سير المسيح يوصلك إلى دير حجلة، المكان الذي رممه الأب جوستين، وابتنى فيه مدرجا على نمط المدرجات الرومانيه، فيه أكبر لوحة فسيفساء معلقه تؤرخ لأكثر من ثلاثمائة كنيسة ودير بنيت في أرض فلسطين، من البحر الميت إلى طبريا، في القرن الرابع للميلاد، وأدرجت في موسوعة غينيسس للأرقام القياسية. سلطات الاحتلال الاسرائيلي تمنع استكمال البناء، والقضية منظرة أمام محكمة ما يسمى بالعدل الاسرائيلي، الدير الذي أقيم فيه مصنع للشموع، وآخر للفسيفساء، ويعمل فيه أبناء فلسطين جنبا إلى جنب في إنتاج إبداعات فسيفسائية وترميم فسيفساء أثرية وخصوصا تلك التي وجدت في أرضية الدير، يحمل رسالة سلام إلى العالم، ولا يحفل بتقسيمات السياسة AوBوC، ولا بأسباب التسمية التي ربما تعود مثلا لمريم العذراء التي كانت تحجل في المكان وهي تحمل جنينها او لكثرة طيور الحجل في المكان، إلا أنه يعاني من تدخلات جيش الاحتلال ومصادرة معدات في كثير من الأحيان.
ليس بعيدا عن المكان، تجد المغطس، أو يجدك هو، فحيث تعمد المسيح منذ الفي سنة أو يزيد على يد يوحنا المعمدان، وحيث نهر الأردن يحمل لون اللبن ويحتمل فكرة الخطيئة والخلاص، وحيث المكان الذي يبدو مثل نهر الجانج، يمر الذين يرتدون إيمانهم، غير آبهين بالعلم الأبيض والأزرق الغريب، ولا بحقول الألغام التي زرعها الاحتلال هناك، ولا بأربعين عاما من إغلاق المكان ومنع المؤمنين المسيحيين من ممارسة الطقوس، ولا بالمبنى الاسرائيلي المقام لبيع الخدمات للزائرين، واستثمار المكان ضمن إطار السياحة الدينية، التي تدر عليهم ملايين الدولارات سنويا ويحرم منها الفلسطينيون. في عيد الغطاس تحضر عائلات من المهجرين واللاجئين الفلسطينيين من الأردن، يقفون على الجهة المقابلة من النهر، يلوحون لأقربائهم، يطمئنون عليهم، ما يزال يوحدهم الوطن وتفرقهم صناعة الاحتلال ويلوحون من مسافة أمتار قياسية و68 عاما زمنية. المنظر بهيج.
كل هذه الحمولة التاريخية المقدسة للمغطس وارتباطاته الرمزية الواضحة والدينية لمسيحيي العالم تتعرض للتهويد وتغيير المسميات. المغطس تسميه السلطات القائمة بفعل الاحتلال منذ فترة قصيره “قصر اليهود”، وتدعي ان يشوع بن نون عبر من هذا المكان تحديدا إلى فلسطين، وطبعا فان عبوره لم يكن سلميا، اذ ذكرت التوراة أنه عبر- دون سيدنا موسى الذي رفض دخول هذه الأرض- لاحتلال أريحا وتدميرها وقتل نسائها ورجالها وأطفالها وإحراق سورها وزرعها وشجرها ومسحها بوحشية فظة عن وجه التاريخ، الوحشية التي لم تغادر الفكر التلمودي التوراتي وما بنى عليه المشروع الصهيوني فكر عصاباته وفكرة إقامة مشروعه الاستثماري في فلسطين مستغلا اليهود. تشكلت لجنة رئاسية عليا لشؤون الكنائس، بهدف تعزيز الوعي بالموروث الفلسطيني واستعادة حكاية المكان محليا ودوليا، تعمل من خلال الأمم المتحدة على نزع الالغام من المكان المقدس، واستعادة سيادة الفلسطينيين على تراثهم..
محاولة استلاب تراث الآخرين وسرقته ليست مفردة، ولا تتعلق بهذا المكان فقط، ففي سلفيت لا يزال دير سمعان المسيحي الأثري يُطوق بالمستوطنات كالسوار لعزله عن محيطه العربي، وما تزال الصلوات التلمودية لمستوطنين متطرفين تقام هناك في تناقض واضح مع هوية المكان الذي تملؤه الصلبان التي تزين الأعمدة، ومعصرة العنب التي تحكي عن هوية أخرى مخالفة لما يحاول الاحتلال أن يفرضه.
_________
*شاعرة وإعلامية من فلسطين